{ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } هذا من قول مؤمن آل فرعون أعلمهم أن لهم الملك ظاهرين عالين على بني إسرائيل في أرض مصر ثم أعلمهم أن عذاب الله لا يدفعه دافع فقال { فمن ينصرنا من بأس الله } أي من يمنعنا من عذابه { إن جاءنا } ف { قال فرعون } حين منع من قتله { ما أريكم } من الرأي والنصيحة { إلا ما أرى } لنفسي
قوله تعالى : " ياقوم لكم الملك اليوم " هذا من قول مؤمن آل فرعون ، وفي قوله " يا قوم " دليل على أنه قبطي ، ولذلك أضافهم إلى نفسه فقال : " يا قوم " ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه " لكم الملك " فاشكروا الله على ذلك . " ظاهرين في الأرض " أي غالبين وهو نصب على الحال أي في حال ظهوركم . والمراد بالأرض أرض مصر في قول السدي وغيره ، كقوله : " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " . [ يوسف : 21 ] أي في أرض مصر . " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " أي من عذاب الله تحذيرا لهم من نقمه إن كان موسى صادقا ، فذكر وحذر " قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى " فعلم فرعون ظهور حجته فقال : " ما أريكم إلا ما أرى " . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي . " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " في تكذيب موسى والإيمان بي .
ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه ، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه منهم : { يا قوم } وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال : { لكم الملك } ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله : { اليوم } وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله : { ظاهرين } أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم ، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء ، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء ، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى ، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم : { في الأرض } أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها ، قد غلبتم الناس عليها .
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون ، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد ، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه ، فلذلك قال : { فمن ينصرنا } أي أنا وأنتم ، أدرج نفسه فيهم عند ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة : { من بأس الله } أي الذي له الملك كله ، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن ، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى في التدرع منه فقال : { إن جاءنا } أي غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله ، ويجوز أن يكون صادقاً ، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل ، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب ، وكذا قول موسى عليه السلام
{ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض }[ الاسراء : 102 ] وأن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد .
ولما سمع فرعون ما لا مطعن له فيه ، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن ، فتشوف السامع لجوابه ، أخبر تعالى أنه رد رداً دون رد بقوله : { قال فرعون } أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه : { ما أريكم } أي من الآراء { إلا ما أرى } أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي ، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه . ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية ، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه ، ويكون تطابقهما على ضلال ، قال : { وما أهديكم } أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره { إلا سبيل الرشاد * } أي الذي أرى أنه صواب ، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره ، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره ، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظاً منه ولكنه يتجلد .
{ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ } حال من ضمير { لكم } وفي ذلك ينبههم الرجل المؤمن إلى أنهم في زمامهم أولو مُلك ومنعة وشوكة { ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } يعني أولي بأس وقوة في أرض مصر ، عالين فيها على بني إسرائيل . أي لكم ملك مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله وشديد بأسه وانتقامه . وهو قوله : { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } يحذِّرُ قومه بأس الله وأليم عقابه وانتقامه فإنه إن نزل بهم فلا طاقة لهم بدفعه أو احتماله وليس لهم من أحد يغنيهم أو يمنعهم من البلاء إن حاق بهم . لكن فرعون ذو طبع غليظ كزٍّ ، وقلب شديد القسوة بور ، لا يصيخ لموعظة ولا يرق لعبرة أو نصح . بل ظل موغلا في الجحود والتكذيب والصدِّ عن دين الله بالقهر والتجبر فقال : { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } يعني ما أشير عليكم بما أراه وهو قتل موسى ولا أستصوب غير قتله . وما تقولونه أنتم خلاف ذلك فهو غير سديد { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } يعني ما أدلكم برأيي هذا إلا سبيل الصواب والسداد{[4016]} .