{ والذين جاءوا من بعدهم } أي من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة . وقيل : المراد بهم الذين هاجروا حين قوي الإسلام . معطوف على المهاجرين . وقيل : مبتدأ ، خبره { يقولون ربنا } .
{ غلا } حقدا . والحاصل : أن الآية الأولى أفادت اختصاصه صلى الله عليه وسلم بفيء بني النضير . والآية الثانية أفادت تعميم الحكم في كل فيء من أموال الكفار ، وبينت مصارف خمس الفيء . وقوله : { للفقراء . . . } بيان لمصرف الأربعة الأخماس الباقية منه . وقد خصه الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين ؛ لاقتضاء مصلحة المهاجرين والأنصار هذا التخصيص . وبهذا يخالف الفيء الغنيمة ؛ فإن أربعة أخماسها حق للمقاتلين دون سواهم من المسلمين ؛ كما في آية الأنفال . وفي الآية أقوال أخرى لعل ما ذكرناه أوضحها . والله أعلم بأسرار كتابه .
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ، ويأتم بهداهم ، ولهذا ذكر الله من اللاحقين ، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من بعد المهاجرين والأنصار { يَقُولُونَ } على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } ، وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ، السابقين من الصحابة ، ومن قبلهم ومن بعدهم ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ، ويدعو بعضهم لبعض ، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين{[1039]} التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ، وأن يحب بعضهم بعضا .
ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب ، الشامل لقليل الغل وكثيره{[1040]} الذي إذا انتفى ثبت ضده ، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح ، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين .
فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان ، لأن قولهم : { سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } دليل على المشاركة في الإيمان{[1041]} وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله ، وهم أهل السنة والجماعة ، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم ، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها ، واستغفار بعضهم لبعض ، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين ، لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا ، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرا وغائبا ، حيا وميتا ، ودلت الآية الكريمة [ على ] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض ، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم ، الذي من جملته ، بل من أجله ، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده .
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة ، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام . وهؤلاء أهله الذين هم أهله ، جعلنا الله منهم ، بمنه وكرمه .
قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ، فقال : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً } غشاً وحسداً وبغضاً ، { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ، فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ، لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل : المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر ، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين . قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل ، أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا أبو إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسببتموهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " . وقال مالك ابن مغول : قال عامر بن شرحبيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : أصحاب موسى عليه السلام . وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : حواري عيسى عليه السلام . وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، كالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة . قال مالك بن أنس : من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى أتى على هذه الآية : { للفقراء المهاجرين والذين تبوؤوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم } إلى قوله : { رؤوف رحيم } .
الأولى- قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة . قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم . فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل . وقال بعضهم : كن شمسا ، فإن لم تستطع فكن قمرا ، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا ، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا ، ومن جهة النور لا تنقطع . ومعنى هذا : كن مهاجريا . فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصاريا . فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله . وروى مصعب بن سعد قال : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت . وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه ، أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما تقول في عثمان ؟ فقال له : يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم : " للفقراء المهاجرين " الآية . قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية{[14857]} فأنت من قوم قال الله فيهم : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } الآية . قال لا قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } الآية . وقد قيل : إن محمد بن علي بن الحسين ، رضي الله عنهم ، روى عن أبيه : أن نفرا من أهل العراق جاؤوا إليه ، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه – فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ قالوا لا . فقال : أفمن الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ؟ فقالوا لا . فقال : قد تبرأتم من هذين الفريقين ! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } قوموا ، فعل الله بكم وفعل ذكره النحاس .
الثانية- هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة ؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في الفيء ، روي ذلك عن مالك وغيره . قال مالك : من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فيء المسلمين ؛ ثم قرأ { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية .
الثالثة- هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول ، وإبقاء العقار والأرض شملا{[14858]} بين المسلمين أجمعين ، كما فعل عمر رضي الله عنه ، إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضى عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك ؛ لأن الله تعالى أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار - وهم معلمون - { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } . فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين . وفي الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أن رأيت{[14859]} إخواننا ) قالوا : يا رسول الله ، ألسنا بإخوانك ؟ فقال : ( بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض ) . فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم ، لا كما قال السدي والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك . وعن الحسن أيضا { والذين جاؤوا من بعدهم } من قصد إلى النبي إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة .
الرابعة- قوله تعالى : " يقولون " نصب في موضع الحال ، أي قائلين . { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } فيه وجهان : أحدهما : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب . قالت عائشة رضي الله عنها : فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم . الثاني : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . قال ابن عباس : أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم أنهم سيفتنون . وقالت عائشة : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها ) وقال ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أَشَرَّكم ) . وقال العوام بن حوشب : أدركت صدر هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم . وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب موسى . وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب عيسى . وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ، ولا تثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم . أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة . { ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } أي حقدا وحسدا { ربنا إنك رؤوف رحيم } .
ولما أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم بما هم أهله ، عقب{[63963]} التابعين لهم بإحسان ما يوجب لهم الثناء فقال عاطفاً على المهاجرين فيقتضي التشريك{[63964]} معهم ، أو على أصل القصة من عطف الجمل : { والذين جاؤوا } أي من أي طائفة كانوا{[63965]} ، ولما كان المراد{[63966]} المجيء ولو في زمن يسير ، أثبت الجار فقال : { من بعدهم } أي بعد المهاجرين والأنصار وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا بعد{[63967]} النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر الخبر أو الحال على نحو{[63968]} ما مضى في الذي قبله فقال تعالى : { يقولون } أي على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم لمن سنه لهم : { ربنا } أي أيها{[63969]} المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا . ولما كان الإنسان وإن اجتهد موضعاً للنقصان قال ملقناً لنا : { اغفر } أي أوقع الستر على{[63970]} النقائص أعيانها وآثارها { لنا } ولما بدؤوا بأنفسهم ، ثنوا بمن كان السبب في إيمانهم فقالوا : { ولإخواننا } أي في الدين فإنه أعظم أخوة ، {[63971]}وبينوا{[63972]} العلة بقولهم : { الذين سبقونا بالإيمان } ولما لقنهم{[63973]} سبحانه حسن الخلافة لمن مهد لهم ما هم فيه ، أتبعه تلقين ما يعاشرون به أعضادهم الذين هم معهم على وجه يعم من قبلهم ، فقال معلماً بأن الأمر كله بيده حثاً على الالتجاء إليه من أخطار النفس التي هي أعدى الأعداء{[63974]} : { ولا تجعل } وأفهم قوله : { في قلوبنا } أن{[63975]} رذائل النفس قل{[63976]} أن تنفك وأنها إن كانت مع صحة القلب أوشك أن لا{[63977]} تؤثر { غلاًّ } أي ضغناً{[63978]} و{[63979]}حسداً وحقداً{[63980]} وهو حرارة و{[63981]}غليان يوجب الانتقام{[63982]} { للذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته .
ولما كان هذا دعاء جامعاً للخير ، لقنهم ما يجيبهم في لزومه والتخلق به مع ما فيه من التملق للإله والتعريض له بقوة الرجاء فقال : { ربنا } أي أيها المحسن إلينا بتعليم ما لمن نكن نعلم ، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولونه وإن ظهر من أفعالهم ما يقدح في اعتقادهم ولو في بعض الأوقات فقالوا : { إنك رؤوف } أي راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير { رحيم * } مكرم غاية الإكرام لمن أردته ولو لم يكن له وصلة ، فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن يكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة ، أو لا فنكون من أهل الرحمة ، فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة رضي الله عنهم فليس ممن عنى الله بهذه الآية .