تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

الآية 4 وقوله تعالى : { فارجع البصر هل ترى من فطور } { ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } جائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه ، وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب ، أو يكون [ رجوع ]{[21659]} أحدهما على بصر الوجه ، والثاني على بصر القلب .

والأشبه أن يكون على بصر القلب ، لأنه قد سبق منه النظر على السماوات والأرضين ببصر الوجه ، وسبق منه العلم من حيث النظر أنه لا تفاوت فيها ولا فطور ، فدعاه إلى أن ينظر ببصر القلب ، ليدله ذلك على المعاني ، وهو كقوله تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ الأنعام : 11 ] وقوله{[21660]} تعالى : { أو لم يسيروا في الأرض } [ الروم : 9 ] ولم يرد به السير بالأقدام ؛ إذ قد سبق منهم السير فيها ، ولكن معناه : أو لم يتفكروا في عواقب من تقدمهم من مكذبي الرسل : أنهم بأي سبب أهلكوا ، ولأي ذنب عوقبوا ، واستؤصلوا ؟

ثم قوله تعالى : { فارجع البصر هل ترى من فطور } { ثم ارجع البصر كرتين } الآية : منهم من قال : إن الكرة ههنا كناية عن مرة بعد مرة ، ليست على تثبيت العدد ؛ فكأنه يكون أبدا معتبرا ناظرا في خلق الرحمن . وإلى هذا يذهب الحسن والأصم .

وجائز أن يكون قوله : { كرتين } مرتين ، ولكن [ على ]{[21661]} اختلاف الوقتين ، فتكون إحدى النظرتين بالليل [ وثانيتهما بالنهار ، لأنه بالليل آيات ، وبالنهار ]{[21662]} آيات سواها ، وثبوت كل شيء يدل على وحدانيته وعجيب حكمته ونفاذ قدرته وسلطانه ، أو تكون النظرة الأولى ببصر الوجه ، والنظرة الثانية ببصر القلب ، لأنه إذا نظر النظرة الأولى ببصر وجهه ، فرأى ما فيه من العجائب أشعر قلبه ما رأى ، فينظر فيه مرة أخرى ببصر القلب ليتأكد ذلك ، ويتقرر .

ويجوز أن تكون النظرتان جميعا ببصر الوجه لأنه [ لا ]{[21663]} يستوعب النظر بالجملة في المرة الأولى ، فينظر مرة أخرى ليدرك ما غاب عنه في المرة الأولى .

وقوله تعالى : { خاسئا } أي صاغرا مستسلما معترفا بالقصور عن درك كنه سلطانه والإحاطة بعظمته وجلاله { وهو حسير } أي منقطع عن درك بلوغ حكمته ونفاذ أمره .

ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر ، لأنه إنما أراد بالنظر في خلق الله تعالى ليتقرر عنده عظمة الله تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان تقرر عنده علم ذلك كله ، فلم يكن يحتاج إلى النظر في ما ذكر ليتقرر ، فصرف إلى المكذبين بالبعث ، فأمروا بالنظر في ما ذكر ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذه تدبيره وأنه ليس بالذي يعجزه أمر ، وأن قدرته ليس بمقدرة بقوى البشر ، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقدير الأمور بقوى أنفسهم . فإذا نظروا في هذه الأشياء ، وعرفوا فيها لطائف وحكما ، لا تدركها عقولهم ، وقوة ، لا تبلغها حيلهم ، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم ، وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث ، فيحملهم على الإيمان .


[21659]:ساقطة من الأصل و م
[21660]:في الأصل و م: وقال
[21661]:من م، ساقطة من الأصل
[21662]:من نسخة الحرم المكي، في م: وثانيتهما بالنهار لأنه لا يرى بالليل آيات و بالنهار، في الأصل: بالنهار.
[21663]:من م / ساقطة من الأصل.