تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (8)

الآية 8 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان ، لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين .

وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة .

ومذهب الاعتزال أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر ، فلا يحتاجون إلى التوبة عنها .

فإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم ، والكبائر يخرج أهلها على قولهم من الإيمان ، والله تعالى{[21587]} قد أبقى لهم اسم الإيمان . فمن أزال عنهم الاسم فقد خالف نص القرآن ، وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن الله تعالى أن يعذب على الصغائر ، وأنها غير مغفورة حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة .

وقال أيضا في آية أخرى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون } [ النور : 31 ] فأما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان ، وكذلك قال : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ]/580-ب/ وإن كان استغفاره هذا على الصغائر ففيه دلالة أنها مغفورة لحاجته إلى طلب المغفرة .

ولو كان الأمر على ما طنت المعتزلة لكان سؤاله المغفرة يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين لأنه يطلب منه ما لا يملك ، وذلك في الشاهد هزء به واستخفاف بالمسؤول .

وإن كان في الكبائر ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان لأنه قال : { وللمؤمنين والمؤمنات } .

وقوله تعالى : { توبة نصوحا } قرئ بنصب النون وضمها{[21588]} نصوحا ، والضم يخرج مخرج المصدر والنصوح بالفتح يخرج مخرج البعث للتوبة ، والفعول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر ، فكأنه يقول : توبوا توبة ، تناهت في نصحها ، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته .

وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل عازما على ألا يرجع إليه ، وأن يقلع يديه عما كانت فيه من المعاصي ، وأن يستغفر الله بلسانه ، فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع كما استعمل سائره في التلذذ في المآثم . فلذلك هو المبالغة في النصح .

وقوله تعالى : { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم } بالتوبة . ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة ، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [ النساء : 31 ]لا أن تكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة .

وقوله تعالى : { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } وقد مر بيان هذا .

وقوله تعالى : { يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه } وللمعتزلة بهذه الآية تعلق ، وهو أن قالوا : إن الله تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي والمؤمنين ، والإخزاء بالعذاب ؛ فقد وعد ألا يعذب الذين آمنوا . ولو كان أصحاب الكبائر مؤمنين لم يخف عليهم العذاب ، إذ قد وعد ألا يخزي المؤمنين . ومن قولهم{[21589]} : أنه يخاف عليهم العقاب ، ثبت{[21590]} أنهم ليسوا بمؤمنين .

ولكن نقول : إنه بهذا السؤال يلزمهم من الوجه الذي أرادوا إلزام خصومهم لأن في الآية وعدا بألا يخزي الذين آمنوا معه ، وهم مقرون أن أهل الكبائر ممن قد آمنوا . ولكنهم بعد ارتكابهم الكبائر ليسوا بمؤمنين .

والآية لم تنطق بنفي الإخزاء عن المؤمنين ، لأنه لم يقل : { يوم لا يخزي الله النبي } والمؤمنين ، وإنما قال : { والذين آمنوا معه } وهم يقطعون القول بإخزاء من قد آمن ، فصاروا هم المحجوجين بهذه الآية [ ثم حق هذه الآية ]{[21591]} عندنا أن نقف على قوله { النبي } أي يخزيه الله تعالى في أن يرد شفاعته ، أو يعذبه .

وقوله تعالى : { والذين آمنوا معه } ابتداء كلام وخبره : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم }وهو كقوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } [ آل عمران : 7 ] .

أو لا يخزي الذين آمنوا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .

ويحتمل أن الإخزاء ، هو الفضيحة ، أي لا يفضحهم يوم القيامة بين أيدي الكفار .

ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه{[21592]} الكفرة ، والخزي هو الفضيحة وهتك الستر ، ولا يفعل ذلك بالمؤمنين بفضله ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } أي { بين أيديهم } إذا مشوا { وبأيمانهم } عند الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم ، وفيه نور وخير ، أو يسعى النور { بين أيديهم } في موضع وضع الأقدام { وبأيمانهم } لأن ذلك طريقهم ، وشمالهم طريق الكفرة .

وقوله تعالى : { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } فجائز أن يقولوا{[21593]} هذا عند انطفاء نور المنافقين ، فيخافون انقطاع ذلك النور عنهم أيضا ، أو يقولوا هذا عند ضعف النور ، فيسألونه الإتمام ، والله أعلم .


[21587]:في الأصل و م: أعلم.
[21588]:انظر معجم القراءات القرآنية ج7/178.
[21589]:في الأصل و م: قولكم.
[21590]:في الأصل و م: فثبت.
[21591]:من م، ساقطة من الأصل.
[21592]:في الأصل و م: عليهم.
[21593]:من م، في الأصل: يقول.