تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} الجنة {فإن الله أعد للمحسنات منكم أجرا عظيما} الجنة. فلما اخترن الله ورسوله أنزل الله عز وجل: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج} إلى آخر الآية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 28]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قُلْ "يا محمد لأزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمّتّعْكُنّ "يقول فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهنّ بالطلاق بقوله: "وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُحْسِنِينَ"، وقوله: "وأُسَرّحْكُنّ سَراحا جَمِيلاً" يقول: وأطلقكنّ على ما أذن الله به، وأدّب به عباده بقوله: "إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ". "وَإنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ" يقول: وإن كنتنّ تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما، "فإنّ اللّهَ أعَدّ للْمُحْسِناتِ مِنْكُنّ" وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله "أجْرا عَظِيما"...
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له. قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، أو كلمة نحوها؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال: «ذلكَ حَبَسَنِي عَنكُمْ» قال: فأتى حفصة، فقال: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ما كانت لك من حاجة فإليّ ثم تتبع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يكلمهنّ، فقال لعائشة: أيغرّك أنك امرأة حسناء، وأن زوجك يحبك؟ لتنتهينّ، أو لينزلنّ فيك القرآن قال: فقالت أمّ سلمة: يا ابن الخطّاب، أو مَا بقي لك إلاّ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها قال: ونزل القرآن "يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَهَا..." إلى قوله "أجْرا عَظِيما" قال: فبدأ بعائشة فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: «لا»، قالت: فإني أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا تخبرهنّ بذلك قال: ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهنّ ويقرأ عليهنّ القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة، فتتابعن على ذلك...
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: لما نزلت آية التخيير، بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة، فقال: «يا عائِشَةُ إنّي عارضٌ عَلَيْكِ أمْرا فَلا تَفْتاتِي فِيهِ بشَيْءٍ حتى تَعْرِضِيهِ على أبَوَيْكِ، أبي بَكْر وأُمّ رُومانَ» فقالت: يا رسول الله وما هو؟ قال: قال الله "يا أيّها النّبِي قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها" إلى "عَظِيما"، فقلت: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأمّ رومان، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ الحُجَرَ فقال: «إن عائشة قالت كذا»، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن الله، ولكن إضافة ذلك إلى الله لاختيارهن المقام عند رسوله، فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى الله ورسوله كان المراد به رسوله نحو ما قال: {فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] وقوله: {قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1] وأمثال ذلك.
يحتمل قوله: {أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} أي إذا اخترن المقام عند رسول الله يصرن محسنات بذلك، فأعد لهن ما ذكر، فيكون ذلك الاختيار منهن الإحسان فاستوجبن ما ذكر.
ويحتمل: {وإن كنتن تردن الله ورسوله} ودمتن على ذلك، واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك، فأعد لكن ما ذكر لا نفس اختيار مقامكن معه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {أعد} معناه يسر وهيأ و «المحسنات» الطائعات لله والرسول.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ}
الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ. وَالثَّانِي: التَّمَادِي عَلَيْهِ من غَيْرِ رُجُوعٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إلَى آخِرِ الْمَعْنَى، فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ الْإِحْسَانُ.
قَوْله تَعَالَى: {أَجْرًا عَظِيمًا} الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ. أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا، وَفِي ذَلِكَ من زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ، وَمَنَعَهُ من الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ، فَقَالَ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ من بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ}. وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ. فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ من رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ من ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ.
قوله: {وإن كنتن تردن الله} إعلاما لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإن كنتن} بما لكن من الجبلة {تردن الله} أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال {ورسوله} المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله {والدار الآخرة} التي هي الحيوان بما لها من البقاء، والعلو والارتقاء.
ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو يستبعد وقوعه في الدنيا أو الآخرة: {فإن الله} أي بما له من جميع صفات الكمال {أعد} في الدنيا والآخرة {للمحسنات منكن} أي اللاتي يفعلن ذلك وهن في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره {أجراً عظيماً *} أي تحتقر له الدنيا وكل ما فيها من زينة ونعمة...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
"أَجْرًا عَظِيمًا" أي لا يقدر قدره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول فإن مجرد ذلك، لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا، مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله، والدار الآخرة، كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن.
منها: الاعتناء برسوله، وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}
ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله، والدار الآخرة، وعن مقارنتها. ومنها: سلامة زوجاته، رضي اللّه عنهن، عن الإثم، والتعرض لسخط اللّه ورسوله. فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن، التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه.
ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة.
ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيبات {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}.
ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة، التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه.
ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد جمعت هذه الآية كلّ اُسس الإيمان وسلوكيات المؤمن، فمن جهة عنصر الإيمان والاعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر، ومن جهة اُخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات، وبناءً على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق. وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة واُسوة للمؤمنات على الدوام، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح، فإنّهن يبقين أزواجاً للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر، وإلاّ فعليهنّ مفارقته والبون منه. ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلاّ أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واُسوة لهم، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائماً، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه...
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي " قال علماؤنا : هذه الآية متصلة : بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وكان قد تأذى ببعض الزوجات . قيل : سألنه شيئا من عرض الدنيا . وقيل : زيادة في النفقة . وقيل : أذينه بغيرة بعضهن على بعض . وقيل : أمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها . أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترنه . وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا ، وبين أن يكون نبيا مسكينا ، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها ، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين ، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته ، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له . وقيل : إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله ، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب ، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن تكون من ذهب ، فنزلت آية التخيير فخيرهن ، فقلن اخترنا الله ورسوله . وقيل : إن واحدة منهن اختارت الفراق . فالله أعلم .
روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم - عن جابر ابن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا . قال : - فقال والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! ! فقلن : والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده . ثم اعتزلن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية : " يا أيها النبي قل لأزواجك - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما " . قال : فبدأ بعائشة فقال : ( يا عائشة ، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ) قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية . قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسول والدار الآخرة ، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال : ( لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) . وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : ( يا عائشة ، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) قالت : وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه ، قال ثم قال : ( إن الله يقول : " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما " فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت . قال : هذا حديث حسن صحيح قال العلماء : وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها ، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه ، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه .
الثانية- قوله تعالى : " قل لأزواجك " كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج ، منهن من دخل بها ، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها ، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها . فأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . وكانت قبله عند أبي هالة{[12787]} واسمه زرارة بن النباش الأسدي ، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف . وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة ، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه . ويقال : إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند ، وسمعت نادبته تقول حين مات : واهند بن هنداه ، واربيب رسول الله . ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت . وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين ، وقيل : عشر . أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة . وهي أول امرأة آمنت به . وجميع أولاده منها غير إبراهيم . قال حكيم بن حزام : توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها ، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها .
ومنهن : سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية ، أسلمت قديما وبايعت ، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو ، وأسلم أيضا ، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ، فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل : مات بالحبشة ، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، فتزوجها ودخل بها بمكة ، وهاجر بها إلى المدينة ، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه ، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها ، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين .
ومنهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وكانت مسماة لجبير بن مطعم ، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، دعني أسلها من جبير سلا رفيقا ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين ، وقيل بثلاث سنين ، وبنى بها بالدينة وهي بنت تسع ، وبقيت عنده تسع سنين ، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة ، ولم يتزوج بكرا غيرها . وماتت سنة تسع وخمسين ، وقيل ثمان وخمسين .
ومنهن : حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها ، فأتاه جبريل فقال : ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة ) فراجعها . قال الواقدي : وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية ، وهي ابنة ستين سنة . . وقيل : ماتت في خلافة عثمان بالمدينة .
ومنهن : أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال سنة أربع ، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح ، وكان عمر ابنها صغيرا ، وتوفيت في سنة تسع وخمسين . وقيل : سنة ثنتين وستين ، والأول أصح . وصلى ، عليها سعيد ابن زيد . وقيل أبو هريرة . وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .
ومنهن ، أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي ، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها ، وذلك سنة سبع من الهجرة ، وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة ، وتوفيت سنة أربع وأربعين . وقال الدارقطني : كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض ، الحبشة على النصرانية ، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وأمهرها عنه أربعة آلاف ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .
ومنهن : زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية ، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، وكان اسم أبيها برة ، فقالت : يا رسول الله ، بدل اسم أبي فإن البرة حقيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة ) ذكر هذا الحديث الدارقطني . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين ، وهي بنت ثلاث وخمسين .
ومنهن : زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية ، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ، لإطعامها إياهم . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة ، فمكثت عنده ثمانية أشهر ، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا ، ودفنت بالبقيع .
ومنهن : جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية ، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، وذلك في شعبان سنة ست ، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية ، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين . وقيل : سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين .
ومنهن : صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية ، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر واصطفاها لنفسه ، وأسلمت وأعتقها ، وجعل عتقها صداقها . . وفي الصحيح : أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس ، وماتت في سنة اثنتين وخمسين . وقيل : سنة اثنتين وخمسين ، ودفنت بالبقيع .
ومنهن : ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير ، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها ، وتزوجها في سنة ست ، وماتت مرجعه من حجة الوداع ، فدفنها بالبقيع . وقال الواقدي : ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر . قال أبو الفرج الجوزي : وقد سمعت من يقول : إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها .
قلت : ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي في عداد أزواج النبي صلى .
ومنهن : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة ، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية ، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، ودفنت هنالك ، وذلك في سنة إحدى وستين . وقيل : ثلاث وستين . وقيل ثمان وستين .
فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وهن اللاتي دخل بهن ، رضي الله عنهن . فأما من تزوجهن ولم يدخل بهن فمنهن : الكلابية . واختلفوا في اسمها ، فقيل فاطمة . وقيل عمرة . وقيل العالية . قال الزهري : تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها ، وكانت تقول : أنا الشقية . تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ، وتوفيت سنة ستين .
ومنهن : أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية ، وهي الجونية . قال قتادة : لما دخل عليها دعاها فقالت : تعال أنت ، فطلقها . وقال غيره : هي التي استعاذت منه . وفي البخاري قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين . وفي لفظ آخر قال أبو أسيد : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية ، فلما دخل عليها قال : ( هبي لي نفسك ) فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ، فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن ، فقالت : أعوذ بالله منك فقال : ( قد عذت بمعاذ ) ثم خرج علينا فقال : ( يا أبا أسيد ، اكسها رازقيين{[12788]} وألحقها بأهلها ) .
ومنهن : قتيلة بنت قيس ، أخت الأشعث بن قيس ، زوجها إياه الأشعث ، ثم انصرف إلى حضرموت ، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فردها إلى بلاده ، فارتد وارتدت معه . ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل ، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا . فقال له عمر : إنها والله ما هي من أزواجه ، ما خيرها ولا حجبها . ولقد برأها{[12789]} الله منه بالارتداد . وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها .
ومنهن : أم شريك الأزدية ، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم{[12790]} ، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى ، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها . وهي التي وهبت نفسها . وقيل : إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم .
ومنهن : خولة بنت الهزيل بن هبيرة ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلكت قبل أن تصل إليه .
ومنهن : شراف بنت خليفه ، أخت دحية ، تزوجها ولم يدخل بها .
ومنهن ليلى بنت الخطيم ، أخت قيس ، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها .
ومنهن : عمرة بنت معاوية الكندية ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي : تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد ما مات .
ومنهن : ابنة جندب بن ضمرة الجندعية . قال بعضهم : تزوجها رسول الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك .
ومنهن : الغفارية . قال بعضهم : تزوج امرأة من غفار ، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال : ( الحقي بأهلك ) . ويقال : إنما رأى البياض بالكلابية . فهؤلاء اللاتي ، عقد عليهن ولم يدخل بهن ، صلى الله عليه وسلم
فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ، ومن وهبت له نفسها :
فمنهن : أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمها فاختة . خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة مصبية{[12791]} واعتذرت إليه فعذرها .
ومنهن : صفية بنت بشامة بن نضلة ، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سباء ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إن شئت أنا وإن شئت زوجك ) ؟ قالت : زوجي . فأرسلها ، فلعنتها بنو تميم ، قاله ابن عباس .
ومنهن : أم شريك . وقد تقدم ذكرها .
ومنهن : ليلى بنت الخطيم ، وقد تقدم ذكرها .
ومنهن : خولة بنت حكم بن أمية ، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فأرجأها ، فتزوجها عثمان بن مظعون .
ومنهن : جمرة بنت الحارث بن عوف المري ، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها : إن بها سوءا ولم يكن بها ، فرجع إليها أبوها وقد برصت ، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر .
ومنهن : سودة القرشية ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية . فقالت : أخاف أن يضغو{[12792]} صبيتي عند رأسك . فحمدها ودعا لها .
ومنهن : امرأة لم يذكر اسمها . قال مجاهد : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : أستأمر أبي . فلقيت أباها فأذن لها ، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قد التحفنا لحافا غيرك ) . فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان له من السراري سريتان : مارية القبطية ، وريحانة ، في قول قتادة . وقال غيره : كان له أربع : مارية ، وريحانة ، وأخرى جميلة أصابها في السبي ، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش .
الثالثة- قوله تعالى : " إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها " " إن " شرط ، وجوابه " فتعالين " ، فعلق التخيير على شرط . وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان ، فينفذان ويمضيان ، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار ، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار ، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير .
الرابعة- قوله تعالى : " فتعالين " هو جواب الشرط ، وهو فعل جماعة النساء ، من قولك تعالى ، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال : تعال بمعنى أقبل ، وضع لمن له جلالة ورفعة ، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال ، وأما في هذا الموضع فهو على أصله ، فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمتعكن " قد تقدّم الكلام في المتعة في " البقرة " {[12793]} . وقرئ " أمتعُكن " بضم العين . وكذا " أسرحكن " بضم الحاء على الاستئناف . والسراح الجميل : هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها .
الخامسة- اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء ، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهن من قال : إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة . ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة .
قلت : القول الأول أصح ، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية : فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق ، لذلك قال : ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث . ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة . فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة ، أو النكاح . والله أعلم .
السادسة- واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها ، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ولا أكثر ، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة . ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب . وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وهو قول الحسن البصري والليث ، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك . وتعلقوا بأن قوله : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن . والصحيح الأول ؛ لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعده علينا طلاقا . أخرجه الصحيحان . قال ابن المنذر : وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا ، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق ، ويدل على معنى ثالث ، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها ، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله . وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي . وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . ورواه ابن خويز منداد عن مالك . وروي عن زيد : بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث . وهو قول الحسن البصري ، وبه قال مالك والليث ، لأن الملك إنما يكون بذلك . وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء . وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .
السابعة- ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء ، والقضاء ما قضت فيهما جميعا ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة . قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا ، وهو قول جماعة من أهل المدينة . قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء . والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك ، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك ، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها . وقالت طائفة من أهل المدينة : له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها . والأول قول مالك في المشهور . وروى ابن خويز منداد . عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث ، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة . وبه قال أبو الجهم . قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا . وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له . وإن اختارت واحدة فليس بشيء ، وإنما الخيار البتات ، إما أخذته وإما تركته ؛ لأن معنى التخيير التسريح ، قال الله تعالى في آية التخيير : " فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " {[12794]} فمعنى التسريح البتات ، قال الله تعالى : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " [ البقرة : 229 ] . والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . ومن جهة المعنى أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها ، ولا يملك منها شيئا ، إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته ، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ ، وكانت به بمنزل من خير بين شيئين فاختار غيرهما . وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة ؛ لأنها تبين في الحال .
الثامنة- واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، وعلى هذا أكثر الفقهاء . وقال مرة : لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت ، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع ، أو فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها . وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها . واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى : " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " {[12795]} [ النساء : 140 ] . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها ، فصار كالعقد بينهما ، فإن قبلته وإلا سقط ، كالذي يقول : قد وهبت لك أو بايعتك ، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا محال . هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبى ثور ، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .
قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) رواه الصحيح ، وخرجه البخاري ، وصححه الترمذي . وقد تقدم في أول الباب . وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما ، روي هذا عن الحسن والزهري ، وقال مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر . قال المروزي : هذا أصح الأقاويل عندي . وقاله ابن المنذر والطحاوي .
{ وإن كنتن } بما لكن من الجبلة { تردن الله } أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال { ورسوله } المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً ، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله { والدار الآخرة } التي هي الحيوان بما{[55464]} لها من البقاء ، والعلو والارتقاء .
ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه ، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم ، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو{[55465]} يستبعد وقوعه في الدنيا أو{[55466]} الآخرة : { فإن الله } أي{[55467]} بما له من جميع صفات الكمال{[55468]} { أعد } في الدنيا والآخرة { للمحسنات منكن } أي اللاتي يفعلن ذلك وهن{[55469]} في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره { أجراً عظيماً * } أي تحتقر{[55470]} له الدنيا وكل{[55471]} ما فيها من زينة ونعمة .