الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡـٔٗا وَلَا يَهۡتَدُونَ} (170)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر عنهم فقال: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله}: من القرآن في تحليل ما حرموه.

{قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}: من أمر الدين، فإن آباءنا أمرونا أن نعبد ما كانوا يعبدون.

قل يا محمد: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا}: من الدين

{ولا يهتدون} به، أفتتبعونهم؟

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

في هذه الآية وجهان من التأويل: أحدهما أن تكون الهاء والميم من قوله:"وَإذَا قيلَ لَهمْ" عائدة على «مِن» في قوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخذ مِنْ دَونِ الله أنْدَادا "فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَن يتخذ من دون الله أندادا، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.

والاَخر أن تكون الهاء والميم اللتان في قوله: "وَإذَا قِيلَ لَهُمْ" من ذكر «الناس» الذين في قوله: "يا أيّها النّاسُ كلُوا مِمَا في الأرْضِ حَلالاً طَيّبا"؛ فيكون ذلك انصرافا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب كما في قوله تعالى ذكره: "حّتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ".

وأشبه عندي وأولى بالآية أن تكون الهاء والميم في قوله لهم من ذكر «الناس»، وأن يكون ذلك رجوعا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، لأن ذلك عقيب قوله: "يا أيّها النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الأرْضِ"؛ فلأن يكون خبرا عنهم أولى من أن يكون خبرا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ من دون الله أندادا مع ما بينهما من الآيات وانقطاع قصصهم بقصة مستأنفة غيرها، وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك إذْ دعوا إلى الإسلام... عن ابن عباس، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذّرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فإنهم كانوا أعلم وخيرا منا فأنزل الله من قولهما: "وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعَوا ما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْيَنْا عَلَيه آباءَنا أولَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدون".

"اتّبِعُوا ما أنْزَلَ اللّهَ": اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله، فأحلوا حلاله وحرّموا حرامه، واجعلوه لكم إماما تأتمّون به، وقائدا تتبعون أحكامه.

"ألفْيَنْا عَلَيْه آباءَنا": يعني وجدنا... فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار كلوا مما أحل الله لكم ودعوا خطوات الشيطان وطريقه واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه، استكبروا عن الإذعان للحق، وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتبع ما وجدناهم عليه من تحليل ما كانوا يحلون وتحريم ما كانوا يحرّمون قال الله تعالى ذكره: "أوَلَوْ كانَ آباؤهُمْ" يعني آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم لا يعقلون شيئا من دين الله وفرائضه وأمره ونهيه، فيُتّبعون على ما سلكوا من الطريق ويؤتم بهم في أفعالهم ولا يهتدون لرشد فيهتدي بهم غيرهم، ويقتدي بهم من طلب الدين، وأراد الحق والصواب؟

يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمركم به ربكم وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئا ولا هم مصيبون حقا ولا مدركون رشدا؟ وإنما يتبع المتبع ذا المعرفة بالشيء المستعمل له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه فيما هو به جاهل إلا من لا عقل له ولا تمييز.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل هذا وجهين:

...أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذي هم عليه، فقالوا عند ذلك: لا ندع وصية آبائنا كقوله: {أتواصوا به. بل هم قوم طاغون}؟ [الذاريات: 53]،

أو كانوا قوما سفهاء أصحاب التقليد، فقالوا: إنا [قلدنا آباءنا فلا] نقلد غيرهم.

وقوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}؛ يخرج هذا الكلام على وجهين:

أتقلدون أنتم آباءكم، وإن كانوا لا يعقلون شيئا؟

[ويحتمل:... وقد كان آباؤكم {لا يعقلون شيئا}] فكيف تقلدونهم؟ وهو كقوله: {أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} [الزخرف: 24] أي وقد جئتكم، أو أن يقال: من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وفيها دلالة على فساد التقليد، لأن الله تعالى ذمهم على تقليد آبائهم، ووبخهم على ذلك.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ولو عَلِمُوا أن أسلافهم لا عقل يردعهم، ولا رشد يجمعهم لنابذوهم مناصبين، وعاندوهم مخالفين، ولكن سلبوا أنوار البصيرة، وحُرِموا دلائل اليقين...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{لَهُمُ} الضمير للناس. وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم، لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون: قيل: هم المشركون. وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم. وألفينا: بمعنى وجدنا، بدليل قوله: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} [لقمان: 21]. {أَوْ لَّوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ} الواو للحال، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب، معناه: أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الثالثة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابع التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل...

المسألة الرابعة: قوله: {لا يعقلون شيئا} لفظ عام، ومعناه الخصوص، لأنهم كانوا يعقلون كثيرا من أمور الدنيا، فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به الخاص...

المسألة الخامسة: قوله: {لا يعقلون شيئا} المراد أنهم لا يعلمون شيئا من الدين وقوله تعالى: {ولا يهتدون} المراد أنهم لا يهتدون إلى كيفية اكتسابه...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

الثالثة: تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم اللّه تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

وقوله: {مَآ أَلْفَيْنَا} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما لم يقولوا ما وجدنا عليه آباءنا ولو كان المعنى واحدا لأن الوجدان يكون اتفاقيا على غفلة (من) غير (قصد) ومنه وجدان الضالة. « وألفينا» يقتضي وجدان ما كان ثابتا دائما مستقرا...

فإن قلت: ما أفاد قوله {وَلاَ يَهْتَدُونَ} مع أنّ نفي (العقل) عنهم يستلزم نفي الاهتداء؟ فالجواب: أن المراد لا يعقلون (شيئا) من ذات أنفسهم ولو (نبّههم) غيرهم لما اهتدوا...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

وقال الإمام الراغب: ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والرويّة، وركّب فيه من المعارف. وذلك أن الله تعالى ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد. والصدق من الكذب في الأقوال. والجميل من القبيح في الفعل. ليتحرى الحق والصدق والجميل. ويتجنب أضدادها. وجعل له من نور العقل ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بين حال الكفار في تركهم الرشاد، وإتباعهم الآباء والأجداد ليحذّر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته.

ثم قال {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا} أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء.

[ف] إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله {يعقلون} و {يهتدون} وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل:

قد تقدم أن (العاقل) يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا.

و (المهتدي) قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم؛ فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون. ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإن العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، كأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا [عمل] مستقيم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

الهمزة للإنكار والتعجب وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من القرينة ولو للغاية لا تحتاج إلى جواب وجزاء. والتقدير أيتبعون ما ألفوا عليه آبائهم في كل حال وفي كل شيء ولو كان آبائهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين إذ يسلكون طريق العقل بالاستدلال على أن ما هم عليه من العقائد والعبادات حق، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله جاءهم به رسول من عند الله؟ أي حتى في تجردهم من دليلي العقل والنقل...

هذا وإن في قوله تعالى: {لا يعقلون شيئا} بحثا فقد يشكل هذا العموم فيه على بعض الأفهام، وقد بين له الأستاذ الإمام ثلاثة أوجه

أحدها: أن معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث...

[و] ثانيها: أنه جار على طريقة البلغاء في المبالغة بجعل الغالب أمرا كليا عاما. يقولون في الضال في عامة شؤونه: إنه لا يعقل شيئا ولا يهتدي إلى الصواب. ويقولون في البليد: إنه لا يفهم شيئا، وهذا لا ينافي أن يعقل الأول بعض الأشياء ويفهم الثاني بعض المسائل،

وثالثها: إنه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن آبائهم بالفعل، وإنما المراد منها: أيتبعون آبائهم لذواتهم كيفما كان حالهم حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون؟ كأنه يقول [إن] اتباع الشخص لذاته منكر لا ينبغي، وهذا قول مألوف، فمن يقول أنا أتبع فلانا في كل ما يعمل، يقال له أتتبعه ولو كان لا يعمل خيرا؟ أي أن من شأن من يتبع آخر لذاته لا لكونه محسنا ومصيبا أن يتبعه في كل شيء وإن كان كل عمله باطلا، لأنه لا يفرق بين الحق والباطل والخير والشر إلا من ينظر ويميز، وهذا لا يتبع أحدا لذاته كيفما كان حاله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الأحسن عندي أن يكون عطفاً على قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168]، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء، وخاصة بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، والمسلمون مُحَاشَوْن عن مجموع ذلك. وفي هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حَرَّموا على أنفسهم من الطيبات، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما أَلْفَوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ومن هناك اتجهت الآيات الكريمة إلى استنكار التقليد الأعمى، وإلى الحض على ترك التقاليد المستهجنة، المتوارثة عن عهود الجهالة والضلالة، والدعوة إلى اتباع الحق الذي أنزله الله نورا وهدى، وهذه الدعوة تتضمن إعمال الفكر فيما يجد عليه الأبناء آباءهم، وتتطلب عدم الاتكال على المألوف والرضى بالمتعارف دون نقد ولا تمحيص، وتقتضي هذه الدعوة بالأخص وزن التراث المتلقى من الآباء والأجداد بميزان الوحي والعقل، فما وافقهما كان حريا بالاتباع، وما خالفهما كان حريا بالإهمال...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وهذه الآية تعالج قضية خطيرة في المجتمع الإسلامي، قضية تقليد الناس لعادات آبائهم. والتقليد هو نشأة طبيعة في الإنسان، لأن الإنسان حين يخرج للوجود ممدّاً بطاقة الحياة؛ فهذه الطاقة تريد أن تتحرك؛ وحركتها تأتي دائما وفق ما ترى من حركة السابق لها...

والناس حين يحتجّون يقولون: بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا. وتلك قضية تبريرية في الوجود، ولو كان ذلك حقا وصدقا، ومطابقا للواقع، لما كرّر الله الرسالات بعد أن علم آدم كل المنهج الذي يريد؛ لأننا لو كنا نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا. لكان أبناء آدم سيتّبعون ما كان يفعله آدم، وأبناء أبناء آدم يتّبعون آباءهم، وهكذا يظل منهج السماء موجوداً متوارثاً فلا تغيير فيه. إذن فما الذي اقتضى أن يتغير منهج السماء؟...

إن هذا دليل على أن الناس قد غيروا المنهج، ولذلك فقولهم: (نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا) هي قضية مكذوبة، لأنهم لو اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم؛ لظل منهج الله في الأرض مضيئا غير متأثر بغفلة الناس ولا متأثرا بانحرافات أهل الأرض عن منهج السماء. وهو تبرير يكشف أن ما وجدوا عليه آباءهم يوافق أهواءهم...

وقوله الحق: {اتّبعوا} أي اجعلوا ما أنزل عليكم من السماء متبوعا وكونوا تابعين لهذا المنهج؛ لا تابعين لسواه؛ لأن ما سوى منهج السماء هو منهج من صناعة أهل الأرض، وهو منهج غير مأمون،

وقولهم: {ما ألفينا عليه آباءنا} أي ما وجدنا عليه آباءنا، وما تفتحت عليه عيوننا فوجدناه حركة تحتذى وتقتدى. والحق يبين لهم أن هذا كلام خاطئ، وكلام تبريري وأنتم غير صادقين فيه، وعدم الصدق يتضح في أنكم لو كنتم متّبعين لمنهج السماء؛ لما تغير المنهج، هذا أولا، أما ثانيا، فأنتم في كثير من الأشياء تختلفون عن آبائكم، فحين تكون للأبناء شخصية وذاتية فإننا نجد الأبناء حريصين على الاختلاف، ونجد أجيالا متفسخة، فالأب يريد شيئا والابن يريد شيئا آخر، لذلك لا يصح أن يقولوا: {بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا}؛ لأنه لو صح ذلك لما اختلف منهج الله على الأرض لكن المنهج اختلف لدخول أهواء البشر، ومع ذلك نرى بعضا من الخلاف في سلوك الأبناء عن الآباء، ونقبل ذلك ونقول: هذا بحكم تغيير واختلاف الأجيال، أي أن الأبناء أصبحت لهم ذاتية. ولذلك فالقول باتباع الأبناء للآباء كذب لا يمثل الواقع.

والحق سبحانه وتعالى يرد على هذه القضية لأنها قضية تبريرية لا دليل لها من صدق، ولا برهان لها من واقع. ويقول سبحانه: {أو لم كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} أي أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون ولا يهتدون؟...

إذن، فالحق سبحانه وتعالى ينبّههم إلى أنه لا يصح أن تقولوا: إنكم تتّبعون ما وجدتم عليه آباءكم؛ لأنه يجوز أن يكون آباؤكم لا يعقلون، ويجوز أن يكونوا غير مهتدين. لو كان آباؤكم لهم عقل أو لهم اهتداء، عند ذلك يكون اتباعكم لهم أمرا سليما، لا لأنكم اتبعتم آباءكم، ولكن لأنكم اتبعتم المعقول والهدى...

وهكذا نجد أن قضية التقليد هي أمر مزعوم، لأنك لا تقلد مساويك أبدا، ولكنك تتبع من تعتقد أنه أحكم منك، ومادام مساويا لك فلا يصح أن تقلده في كل حركة. بل يجب أن تعرض الحركة على ذهنك، ولذلك فتكليف الله لعباده لم ينشأ إلا بعد اكتمال العقل بالبلوغ. فهو سبحانه لا يأخذ العقل على غرة قبل أن ينضج؛ بل لا يكلّف الله عبدا إلا إذا نضج عقله؛ ولا يكلفه إن لم يوجد له عقلا، ولا يكلفه إن لم تكن قوته وراء عقله، فإن كان الإنسان سليم القوة والعقل فإن تكليفه يكون تاما، فسبحانه لا يكلف إلا صاحب العقل الناضج والذي لديه قدرة تمكنه من تنفيذ ما اهتدى إليه عقله، أي غير مكره...

ولذلك يؤخر الحق تكليفه لعباده حتى يكتمل لهم نضج العقل ونضج الغريزة معا، وحتى يدخل الإنسان في التكليف بكل مقوماته، وبكل غرائزه، وانفعالاته؛ حتى إذا تعاقد إيمانيا؛ فإن عليه أن يلتزم بتعاقده...

فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربّي في الإنسان ذاتيته من فور أن يصبح صالحا لاستبقاء النوع في غيره، ومادامت قد أصبحت له ذاتية متكاملة، فالحق يريد أن ينهي عنه التبعية لغيره، عند ذلك لا يقولن أحد: (أفعل مثل فعل أبي). لكن هناك من قالوا: {نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا}

لماذا يتبعون آباءهم في المنهج الباطل، ولا يتّبعونهم في باقي أمور الدنيا، وفي الملابس، وفي الأكل، وفي كل مناحي الحياة؟... فلا شيء قد جعلهم يتّبعون ما وجدوا عليه آباءهم إلا لأنهم وجدوا فيه ما يوافق هواهم، بدليل أنهم انسلخوا عن تبعيتهم لآبائهم في أشياء رأوها في سلوك الآباء وخالفوهم فيها، وماداموا قد خالفوهم في أشياء كثيرة؛ فلماذا يتبعونهم في الدين الزائف؟...

إن الله يريد أن يخلّص الإنسان من إسار هذا الاتباع، ويلفت العباد. تعقلوا يا من أصبحت لكم ذاتية، وليعلم كل منكم أنه بنضج العقل يجب أن يصل إلى الهداية إلى الخالق الواحد الأحد، فإن كنت قد التحمت بأبيك في أول الأمر لأنه يعولك ويمدك، فهذا الأب هو مجرد سبب أراده الله لك، ولكن الله هو خالقك، وهو الذي أنزل المنهج الذي يجب أن تلتحم به لتصير حياتك إلى نماء وخير. وهو سبحانه يقول: {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً} (من الآية 33 سورة لقمان)...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحلّ الله، أو عبادة الأوثان وتقول: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).

ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ).

أي إن اتباع الآباء صحيح لو أنهم كانوا على طريق العقل والهداية. أمّا إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، فما اتباعهم إلاّ تركيز للجهل والضلال.

الإنسان الجاهلي لا يستند إلى قاعدة ايمانية يحسّ معها بوجوده وبشخصيته وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصية كاذبة وأصالة موهومة. وهذه عادة الجاهليين قديماً وحديثاً في تعصبهم القومي وخاصة في ما يتعلق بأسلافهم.

الإسلام أدان المنطق الرجعي القائم على تقديس ما عليه الآباء والأجداد، لأنه ينفي العقل الإنساني. ويرفض تطوّر التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية في معالجة قضايا السلف.

هذا المنطق الجاهلي يسود اليوم ومع الأسف في بقاع مختلفة من عالمنا، ويظهر هنا وهناك بشكل «صنم» يوحي بعادات وتقاليد خرافية مطروحة باسم «آثار الآباء» ومؤامرة باسم الحفاظ على المآثر القوميّة والوطنية، مشكّلا بذلك أهم عامل لانتقال الخرافات من جيل إلى جيل آخر.

لا مانع طبعاً من تحليل عادات الآباء وتقاليدهم، فما انسجم منها مع العقل والمنطق حُفِظَ، وما كان وهماً وخرافة لُفِظ. المقدار المنسجم مع العقل والمنطق من العادات والتقاليد يستحق الحفظ والصيانة باعتباره تراثاً قومياً. أمّا الاستسلام التام الأعمى لتلك العادات والتقاليد فليس إلاّ الرجعية والحماقة.

جدير بالذكر أن الآية أعلاه تتحدث عن آباء هؤلاء المشركين وتقول عنهم إنهم لا يعلمون، ولا يهتدون. وهذا يعني إمكان الاقتداء باثنين: بمن كان يملك الفكر والعقل والعلم، ومن كان قد اهتدى بالعلماء.

أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الأعمى هو السبب في تخلف البشرية لأنه تقليد الجاهل للجاهل.