الضمير في " لَهُمْ " فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه يعود على " مَنْ في قوله { مَن يَتَّخِذُ } [ البقرة : 165 ] .
الثاني : قال بعض المفسِّرين : نزلت في مشركي العرب ، فعلى هذا : الآية متَّصلة بما قبلها ، ويعود الضمير عليهم ؛ لأنَّ هذا حالهم .
الثالث : أنه يعود على اليهود ؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافهم .
روي عن ابن عبَّاس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال رافع بن خارجة ، ومالك بن عوفٍ : " بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ فهم كانوا خيراً منَّا ، وأَعْلَمَ منَّا " فأنزل الله هذه الآية الكريمة{[2262]} .
وقال بعضهم : هذه قصَّةٌ مستأنفةٌ ، والهاء والميم في " لَهُمْ " كناية عن غير مذكور .
الرابع : أنه يعود على " النَّاس " في قوله " يَأَيُّهَا النَّاسُ " قاله الطبريُّ ، وهو ظاهرٌ إلاَّ أن ذلك من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحكمته : أنَّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجَّب من فعله ، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنُّور والهدى ، فأجاب باتِّباع شريعة أبيه .
قوله : " بَلْ نَتَّبعُ " " بَلْ " ههنا : عاطفةٌ هذه الجملة على جملة محذوفةٍ قبلها ، تقديره : " لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ، بل نَتَّبعُ كذا " ولا يجوز أن تكون معطوفةً على قوله : " اتَّبعوا " لفساده ، وقال أبُو البَقَاءِ{[2263]} : " بل " هنا للإضراب [ عن الأوَّل ، أي : " لاَ نَتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ " ، وليس بخروج من قصَّة إلى قصَّة ، يعني بذلك : أنه إضراب إبطال ]{[2264]} ، لا إضراب انتقالٍ ؛ وعلى هذا ، فيقال : كلُّ إضرابٍ في القرآن الكريم ، فالمراد به الانتقال من قصًّةٍ إلى قصَّةٍ إلاَّ في هذه الآية ، وإلاَّ في قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ } [ السجدة : 3 ] ، فإنه محتملٌ للأمرين ؛ فإن اعتبرت قوله : " أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ " ، كان إضراب انتقالٍ ، وإذا اعتبرت " افْتَرَاهُ " وحده ، كان إضراب إبطالٍ .
والكسائيُّ{[2265]} يدغم لام " هَلْ " و " بَلْ " في ثمانية أحرفٍ :
التاء ؛ كقوله : { بَلْ تُؤْثِرُونَ } [ الأعلى : 16 ] والنُّون : " بَلْ نَتَّبعُ " والثَّاء " { هَلْ ثُوِّبَ } [ المطففين : 36 ] والسِّين :
{ بَلْ سَوَّلَتْ } [ يوسف : 18 ] ، والزَّاي :
{ بَلْ زُيِّنَ } [ الرعد : 33 ] ، والضَّاد :
{ بَلْ ضَلُّواْ } [ الأحقاف : 28 ] والظَّاء :
{ بَلْ ظَنَنتُمْ } [ الفتح : 12 ] والطَّاء :
{ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ } [ النساء : 155 ] ، وأكثر القرَّاء على الإظهار ، ووافقه حمزة في التاء والسين ، والإظهار هو الأصل .
قوله : " أَلْفَيْنَا " في " أَلْفَى " هنا قولان :
أحدهما : أنَّها متعدِّية إلى مفعولٍ واحدٍ ، لأنها بمعنى " وَجَدَ " التي بمعنى " أَصَابَ " ؛ بدليل قوله في آية أخرى : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } [ لقمان : 21 ] وقوله : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ }
[ يوسف : 35 ] وقولهم : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } [ الصافات : 69 ] ، فعلى هذا : يكون " عَلَيْهِ " متعلِّقاً بقوله : " أَلْفَيْنَا " .
والثاني : أنها متعدِّية إلى اثنين .
أولهما : " آبَاءَنَا " ، والثاني : " عَلَيهِ " ، فقُدِّم على الأول .
وقال أبو البقاء{[2266]} - رحمه الله - : [ " هي محتملةٌ للأمرين - أعني كونها متعدِّية لواحد أو لاثنين " - ؛ قال أبو البقاء : ]{[2267]} و " لامُ " أَلْفَيْنَا " واوٌ ؛ لأن الأصل فيما جُهل من اللاَّمات أن تكون واواً ، يعني : فإنه أوسع وأكثر ؛ فالرَّدُّ إليه أولى .
ومعنى الآية : أنَّ الله - تبارك وتعالى - أمرهم بأن يتَّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من الحرث ، والأنعام ، والبحيرة ، والسَّائبة . أو ما أنزل الله من الدَّلائل الباهرة ، قالوا : لا نتَّبع ذلك ، وإنما نتبع آباءنا ، وأسلافنا ، فعارضوه بالتَّقليد ، فأجابهم الله تعالى بقوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } ، فالهمزة في " أَوَلَوْ " للإنكار ، وأما الواو ، [ ففيها قولان :
أحدهما - قاله الزمخشريُّ - : أنَّها واو الحال .
والثاني - قال به أبو البقاء{[2268]} ، وابن عطيَّة - : أنَّها للعطف ، وقد تقدَّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل " الواو " و " الفاء " و " ثُمَّ " ، هل ]{[2269]} بعدها جملة مقدَّرةٌ ، وهو رأي الزمخشري ؛ ولذلك قدَّر ههنا : " أَيَتَّبِعُونَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ ، وَلاَ يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ ؟ " أو النية بها التأخير عن حرف العطف ؟
وقد جمع أبو حيَّان بين قول الزمخشريِّ ، وقول ابْنِ عَطيَّة ، فقال{[2270]} : والجمع بينهما : أنَّ هذه الجملة المصحوبة ب " لَوْ " في مثل هذا السِّياق جملةٌ شرطيةٌ ، فإذا قال : " اضْرِبْ زَيْداً ، وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ " ، فالمعنى : " وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ " وكذلك : " أَعْطُوا السَّائِلَ ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَس{[2271]} " " رُدُّوا السَّائِلَ ، وَلَوْ بِشِقَّ تَمْرَةٍ{[2272]} " ، المعنى فيهما " وإِنْ " وتجيء " لَوْ " هنا ؛ [ تنبيهاً ] على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنَّها جازت لاستقصاء الأَحوال التي يقع فيها الفعل ، ولتدلَّ على أن المراد بذلك وجود الفعل في كلِّ حالٍ ؛ حتَّى في هذه الحال الَّتي لا تناسب الفعل ؛ ولذلك لا يجوز : " اضْرِبْ زَيْداً ، وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ " ، ولا " أَعْطُوا السَّائِلَ ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجاً " فإذا تقرَّر هذا ، فالواو في " وَلَوْ " في الأمثلة التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدَّرة ، والمعطوف على الحال حالٌ ؛ فصحَّ أن يقال : إنَّها للحال من حيث عطفها جملةً حاليَّةً على حالٍ مقدَّرةٍ ، وَصَحَّ أن يقال : إنَّها للعطف من حيث ذلك العطف ، فالمعنى - والله أعلم - : أنها إنكارُ اتِّبَاعِ آبائهم في كلِّ حالٍ ؛ حتى في الحالة الَّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها ، وهي تلبُّسهم بعدم العقل والهداية ؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على " لَوْ " إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها ، وإن كانت الجملة الحاليَّةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحال ؛ لأنَّ مجيئها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييد الجملة السَّابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال ؛ حتى هذه الحال ، فهما معنيان مختلفان ؛ ولذلك ظهر الفرق بين : " أَكْرِمْ زَيْداً ، لَوْ جَفَاكَ " ، وبين : " أَكْرِمْ زَيْداً ، وَلَوْ جَفَاكَ " . انتهى . وهو كلامٌ حسنٌ .
وجواب " لو " محذوفٌ ، تقديره : " لاَتَّبَعُوهُمْ " وقدره أبو البَقَاءِ{[2273]} : " أفكَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ ؟ " وهي تفسير معنًى لأن " لَوْ " لا تجاب بهمزة الاستفهام ، قال بعضهم : ويقال لهذه الواو أيضاً واو التَّعَجُّب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ{[2274]} .
قال القرطبيُّ{[2275]} : التقليد عند العلماء : " حقيقةُ قَبُولِ قَوْلٍ بلا حُجَّةٍ " ؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم من غير نظرٍ في معجزته ، يكون مقلِّداً ، وأمَّا من نظر فيها ، فلا يكون مقلِّداً .
وقيل : " هو اعتقادُ صٍحَّة فُتْيَا مَنْ لا يَعْلَم صحَّة قوله " ، وهو في اللُّغة مأخوذٌ من قلادة البعير ، تقول العرب : قلَّدت البعير ؛ إذا جعلت في عنقه حبلاً يقاد به ؛ فكأنَّ المقلِّد يجعل أمره كلَّه لمن يقوده حيث شاء ؛ ولذلك قال شاعرهم : [ البسط ]
891 - وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ *** ثَبْتَ الجَنَانِ بَأَمْرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا{[2276]}
والمعنى : " أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً " ، لفظه عامٌّ ، ومعناه الخصوص ؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا ؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين ، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه .
أحدهما : أنه مفعول به ؛ فيعمُّ جميع المعقولات ؛ لأنَّها نكرةٌ في سياق النفي ، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة ، فيكون المعنى : لا يعقلون شيئاً " بَلْ أَشْيَاءً من العَقْلِ " وقدَّم نفي العقل على نفي الهداية ؛ لأنَّه يصدر عنه جميع التصرُّفات .
الثاني : أن ينتصب على المصدريَّة ، أي : " لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً " .
الأوَّل : أنه يقال للمقلِّد : هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان : أن يعلم كونه مُحِقَّا ، أم لا ؟ فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده ، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً ، فكيف عرفت أنه محقٌّ ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر ، لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل ، فذاك كافٍ ، ولا حاجة إلى التَّقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده : أن يعلم كونه محقّاً ، فإذن : قد جوَّزت تقليده ، وإن كان مبطلاً ، فإذن : أنت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ ، أم مبطل{[2277]} .
وثانيها : هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً ، فأنت ماذا كنت تعمل ؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم ، [ ولا مذهبه ، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا .
وثالثها : أنك إذا قلَّدت من قبلك ، فذلك المتقدِّم ]{[2278]} : إن كان عرفه بالتقليد ، لزم إما الدَّور{[2279]} ، وإمَّا التسلسل{[2280]} ، وإن عرفه بالدليل ، وجب أن تطلب العلم بالدليل ، لا بالتَّقليد ، لأنَّك لو طلبته بالتقليد ، لا بالدَّليل ، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد ، كنت مخالفاً له ، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نفيه ، فيكون باطلاً ، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشَّيطان ؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان ، وبين متابعة التَّقليد ، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر ، والاستدلال ، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل .
فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد
قال القرطبيُّ : ذمَّ الله تعالى الكفَّار ؛ باتباعهم لآبائهم في [ الباطل ]{[2281]}واقتدائهم بهم في الكفر ، والمعصية ، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ ، وأما التقليد في الحقِّ ، فأصل من " أُصول الدِّين " ، وعصمة من عصم المسلمين ، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر ، واختلف العلماء - رضي الله عنهم - في جوازه في مسائل الأصول ، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع ، فصحيحٌ .
فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي
قال القرطبيُّ - رضي الله عنه - : فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها ، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده ؛ فيسأله عن نازلته ، فيتمثَّل فيها فتواه ؛ لقوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه ؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه ، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها .