الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}: يعني بإحسان، {أو تسريح بإحسان}: يعني التطليقة الثالثة في غير ضرار، كما أمر الله سبحانه في وفاء المهر.

{ولا يحل لكم} إذا أردتم طلاقها {أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا}: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، أخرجها من بيته، فلا يعطيها شيئا من المهر.

ثم استثنى ورخص، فقال سبحانه: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}، يعني أمر الله عز وجل فيما أمرهما، وذلك أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها، فتعصى الله فيما أمرها زوجها، أو يخاف الزوج أن لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها.

يقول سبحانه: {فإن خفتم}: يعني علمتم. {ألا يقيما}: يعني الحاكم. {حدود الله}: يعني أمر الله في أنفسهما إن نشزت عليه.

{فلا جناح عليهما}: يعني الزوج والزوجة. {فيما افتدت به} من شيء، يقول: لا حرج عليهما إذا رضيا أن تفتدى منه ويقبل منها الفدية ثم يفترقا.

وكانت نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وفي امرأته أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وكان أمهرها حديقة فردتها عليه، واختلعت منه، فهي أول خلعة كانت في الإسلام.

{تلك حدود الله}، يعني أمر الله فيهما. {فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله}: ومن يخالف أمر الله إلى غيره. {فأولئك هم الظالمون} لأنفسهم...

تفسير الشافعي 204 هـ :

أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة. فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها، ثم أمهلها، حتى إذا شارفَتْ انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها، وقال: والله لا آوِيكِ إليَّ ولا تحلين أبدا. فأنزل الله: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاق جديدا ـ من يومئذ ـ من كان منهم طلق أو لم يطلق. وذكر بعض أهل التفسير هذا. (اختلاف الحديث ص: 549. وأحكام الشافعي: 1/223. والأم: 5/242. ومعرفة السنن والآثار: 5/465-466.)... {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والقرآن يدل ـ والله تعالى أعلم ـ على أن من طلق زوجةً لهُ دَخَلَ بها أو لم يَدْخُلْ بها، ثلاثا، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. فإذا قال الرجل لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثا، فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره...

وإن طلقها الزوج واحدة أو اثنتين، فنكحها زوج غيره وأصابها، ثم بانت منه، فنكحها الزوج الأول بعده، كانت عنده على ما بقي من طلاقها كهي قبل أن يُصيبها زوج غيره، يهدم الزوج المُصيبها بعده الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين...

فقيل ـ والله أعلم ـ في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمُ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اَللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اَفْتَدَتْ بِهِ} أن تكون المرأة تكره الرجل حتى تخاف ألا تقيم حدود الله بأداء ما يجب عليها له أو أكثره إليه، ويكون الزوج غير مانع لها ما يجب عليه أو أكثره، فإذا كان هذا حلَّتِ الفدية للزوج، وإذا لم يقم أحدهما حدود الله فليسا معا مقيمين حدود الله...

قال الله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَّكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية كلها... فكان بيِّنًا في كتاب الله تعالى: أن كل طلاق حسب على مطلقة فيه عَدَدُ طلاق إلا الثلاث، فصاحبه يملك فيه الرجعة. وكان ذلك بينا في حديث ركانة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلا الطلاق الذي يؤخذ عليه المال، لأن الله تعالى أذن به وسماه فدية. فقال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اَفْتَدَتْ بِهِ} فكان بينا في كتاب الله تعالى إذ أحل له أخذ المال، أنه إذا ملك عوضا من شيء لم يجز أن يكون له على ما ملك به المال سبيل. والمال هو عوض من بُضْعِ المرأة، فلو كان له عليها فيه رجعة كان ملك مالها ولم تملك نفسها دونه. قال: واسم الفدية: أن تفدي نفسها بأن تقطع ملكه الذي له به الرجعة عليها، ولو ملك الرجعة لم تكن مالكة لنفسها، ولا واقعا عليها اسم فدية، بل كان مالها مأخوذا وهي بحالها قبل أخذه، والأحكام فيما أخذ عليه المال بأن يملكه من أعطى المال. (الأم: 5/258.) ...

...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.

ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدا حرم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأته المطلقة إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه.

فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كنّ مدخولاً بهنّ: تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.

وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبي الله صلى الله عليه وسلم تعريفا من الله تعالى ذكره عباده سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن، لا دلالة على القدر الذي تبين به المرأة من زوجها... وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاق نسائِكم، أن تطلقوهنّ ثنتين في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرّحوهنّ بإحسان.

والذي هو أولى بظاهر التنزيل أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها:"فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ" فعرّف عباده القدر الذي به تحرم المرأة على زوجها إلا بعد زوج، ولم يبين فيها الوقت الذي يجوز الطلاق فيه والوقت الذي لا يجوز ذلك فيه.

"فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ": فإن في تأويله وفيما عني به اختلافا بين أهل التأويل؛ فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهنّ من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق... حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، قال: أتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بإحْسانٍ فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ هي الثالثة».

وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة... وكأن قائلي هذا القول ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرّتان، فإمساك في كل واحدة منهما لهنّ بمعروف، أو تسريح لهنّ بإحسان. وهذا مذهب مما يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره. فإذ كان ذلك هو الواجب، فبين أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساك بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبين منهم، فتبطل ما كان لهن عليهن من الرجعة ويصرن أملك لأنفسهن منهن.

فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: المعروف: أن يحسن صحبتها.

فإن قال: فما التسريح بإحسان؟ قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئا... عن ابن عباس: "فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ "قال: هو الميثاق الغليظ.

عن السدي، قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها.

عن الضحاك: التسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عدتها، ويعطيها مهرا إن كان لها عليه إذا طلقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قدر الميسرة.

"وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ الله": ولا يحلّ لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن بطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهنّ من الصداق، وسقتم إليهنّ، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهنّ حقوقهنّ من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله.

واختلفت القراء في قراءة ذلك؛ فقرأه بعضهم: "إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُود اللّهِ" وذلك قراءة عُظْم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب: «إلاّ أنْ يَظُنّا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّه».

والعرب قد تضع الظن موضع الخوف والخوف موضع الظن في كلامها لتقارب معنييهما.

وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: «إلاّ أنْ يُخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ» فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: «إلاّ أنْ تخافُوا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ» وقراءة ذلك كذلك اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في «أن» وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته،

فأما قارئه إلا أن يخافا بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكةٍ تسميته وفي «أن»، فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسمّ فاعله، وفي أن التي تنوب عن شيئين، ولا تقول العرب في كلامها ظُنّا أن يقوما، لكن قراءة ذلك كذلك صحيحة على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله، أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في أن غير الخوف، ويكون الخوف عاملاً فيما لم يسمّ فاعله. وذلك هو الصواب عندنا في القراءة لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله: "فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ" فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.

فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟ قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحقّ، ويخاف على زوجها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه، فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان أتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له... كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام أخت عبد الله بن أبيّ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا؛ إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عِدّة، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة فلتردد عليّ حديقتي قال: «ما تقولين؟» قالت: نعم، وإن شاء زدته قال: ففرّق بينهما.

وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى الخوف منهما أن لا يقيما حدود الله؛ فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حلّ له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.

وقال آخرون: بل الخوف من ذلك أن لا تبرّ له قسما ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا، فحينئذ يحلّ له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.

وقال آخرون: بل الخوف من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولاً أنها له كارهة.

وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الاَخر. وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحلّ للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن ومن قال في ذلك قولهما لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها له؟ قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد، وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه.

"فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ": اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: "فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ" التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما بصنيعها؛ فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله. والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما أوجب الله عليهما من الفرائض فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به. لأن من الواجب للزوج على المرأة إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، وأن لا تؤذيه بقول، ولا تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها.

وأما معنى إقامة حدود الله، فإنه العمل بها، والمحافظة عليها، وترك تضييعها، وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته.

"فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ": فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدّي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما فيما أعطت هذه على فراق زوجها إياها ولا على هذا فيما أخذ منها من الجُعُل والعوض عليه.

فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حَرِجة لو كان الضّرارُ من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، فيكون لا جناح عليهما فيما أعطته من الفدية على فراقها إذا كان النشوز من قبلها؟ قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حقّ لها لما حلّ لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحلّ له أخذه منها لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حقّ لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحلّ له أخذه منها على الوجه الذي أعطته عليه، فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم، وهي إذا أعطته على هذا الوجه باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، ولذلك قال تعالى ذكره: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذا كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم.

وقد يتجه قوله: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما" وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس، وذلك لكراهتها أخلاق زوجها أو دمامة خَلْقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض، ولكن على الانصراف منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحلّ لها كان حراما عليها أن تعطى على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها لله، وتلك هي المختلعة إن خولعت على ذلك الوجه التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها منافقة. كما:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيّمَا امرأةٍ سألَتْ زوْجَها الطّلاقَ مِنْ غيرِ بأْسٍ حِرّمَ اللّهُ عَلَيْها رَائحَةَ الجَنّةِ». وقال: «المُخْتَلِعاتُ هُنّ المُنافِقاتُ».

فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح، وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة، ومنه ما يكون عليهما، ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح. قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها لا جناح عليهما فيما افتدت به من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.

وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في سورة الرحمن: "يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجان" وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله: "فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوَتهُما" وإنما الناسي صاحب موسى وحده قال: ومثله في الكلام أن تقول: عندي دابتان أركبهما وأسقي عليهما وإنما تركب إحداهما وتسقي على الأخرى، وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها في الكلام.

قال: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تُعطي ما قد نُفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت إلى مثل ذلك.

فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتجّ به قوله: "يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ". فأما قوله: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما" فقد بينا وجه صوابه.

وإنما خطّأنا قوله ذلك لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين، فلو جاز لقائل أن يقول: إنما أريد به الخبر عن أحدهما فيما لم يكن مستحيلاً أن يكون عنهما جاز في كل خبر كان عن اثنين غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما أن يقال: إنما هو خبر عن أحدهما، وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ" أمعنيّ به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟ فقال بعضهم: عنى بذلك فلا جناح عليهما فيما افتدت به من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: "وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافا ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ" مما آتيتموهن.

قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه أن تردّ ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائز إحالة ظاهر عام إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها. وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: "وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيئَا". وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله على سبيل ما قدمنا البيان عنه، فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حدّ لا يجاوَز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصيةٍ لله، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جُعْل فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها. فأما من قال أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: "وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا" فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإنابة عن خطئه لمعنيين. أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره. والاَخر: أن الآية التي في سورة النساء إنما حرّم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما بمقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالاً على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا. وأما الآية التي في سورة البقرة، فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في سورة البقرة ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في سورة النساء، كما الحظر في سورة النساء غير الطلاق والإباحة في سورة البقرة. فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة. وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.

"تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأوُلَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ".

يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحلّ لكم، وما حرّم عليكم أيها الناس، فلا تعتدوا ما أحلّ لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرّم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها" هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ" مما أحلّ لعباده وحرّم عليهم، وما أمر ونهى. ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء التي بينت لكم حلالها من حرامها حدودي، يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي فلا تعتدوها يقول: فلا تتجاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرّمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، فإن من تعدّى ذلك يعني من تخطاه وتجاوزه إلى ما حرّمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم، وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}: إمَّا صحبة جميلة أو فُرْقة جميلة. فأمَّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مَرْضِيٍ في الطريقة، ولا محمود في الشريعة.

{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}. فإِن في الخبر "العائد في هبته كالعائد في قَيْئِه "والرجوع فيما خرجتَ عنه خِسَّة.

{إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. يعني إنْ أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنَّ النفس تساوي لصاحبها كل شيء، والرجال إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئاً فلا أقلَّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شيء من المال.

: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. هذه آداب يُعَلِّمكمها الله ويَسُنُّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{الطلاق} بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله: {ثم ارجع البصر كرّتين} [الملك: 4] أي كرّة بعد كرّة، لا كرّتين اثنتين. ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك.

{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم.

وقيل: معناه الطلاق الرجعي مرّتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف أي برجعة، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها...

فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ}؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت: يجوز الأمران جميعاً: أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله تعالى: {تلك حدود الله} الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها، ثم توعد -تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم:» الظلم ظلمات يوم القيامة «.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله تعالى: {تلك حدود الله} فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع {فلا تعتدوها} أي فلا تتجاوزوا عنها.

ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد، فقال: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وفيه وجوه:

أحدها: أنه تعالى ذكره في سائر الآيات {ألا لعنة الله على الظالمين} فذكر الظلم ههنا تنبيها على حصول اللعن.

وثانيها: أن الظالم اسم ذم وتحقير، فوقوع هذا الاسم يكون جاريا مجرى الوعيد،

وثالثها: أنه أطلق لفظ الظلم تنبيها على أنه ظلم من الإنسان على نفسه، حيث أقدم على المعصية، وظلم أيضا للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها، أو كتمت شيئا مما خلق في رحمها، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئا لا بسبب نشوز من جهة المرأة، ففي كل هذه المواضع يكون ظالما للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالما لنفسه، وظالما لغيره، وفيه أعظم التهديدات.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي، وكانوا يطلقون ويراجعون من غير حد ولا عدّ، بيَّن في هذه الآية، أنه: مرتان، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان، أي يملك المراجعة إذا طلقها، ثم يملكها إذا طلق، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها.

وما زال يختلج في خاطري انه لو قال: أنتِ طالق مرتين أو ثلاثاً، أنه لا يقع إلاَّ واحدة، لأنه مصدر للطلاق، ويقتضي العدد، فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجوداً، كما تقول: ضربت ضربتين، أو ثلاث ضربات، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل، فمتى لم يتكرر وجوداً استحال أن يكرر مصدره وان يبين رتب العدد، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فهذه لفظ واحد، ومدلوله واحد، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثاً أو اثنين، ونظير هذا أن ينشئ الإنسان بيعاً بينه وبين رجل في شيء ثم يقول عند التخاطب: بعتك هذا ثلاثاً، فقوله ثلاثاً لغو وغير مطابق لما قبله، والإنشاءات أيضاً يستحيل التكرار فيها حتى يصير المجمل قابلاً لذلك الإنشاء، وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال: طلقتك مرتين أو ثلاثاً، أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثاً على ما نذكره.

{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} إشارة إلى الآيات التي تقدمت من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} إلى هنا، وإبراز الحدود بالاسم الظاهر، لا بالضمير، دليل على التعظيم لحدود الله تعالى: وفي تكرار الإضافة تخصيص لها وتشريف، ويحسن التكرار بالظاهر كون ذلك في جمل مختلفة.

{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لما نهى عن اعتداء الحدود، وهو تجاوزها، وكان ذلك خطاباً لمن سبق له الخطاب قبل ذلك، أتى بهذه الجملة الشرطية العامّة الشاملة لكل فرد فرد ممن يتعدّى الحدود، وحكم عليهم أنهم الظالمون، والظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فشمل بذلك المخاطبين.

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن قلت: هلا قيل: فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف، وهذا السؤال مذكور في حسن الائتلاف؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن المعروف أخفّ من الإحسان لأن المعروف حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية والإحسان ألاّ يظلمها شيئا من حقها، فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن العشرة، فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي لدوام العصمة إذ لا يضر تكرّره، وجعل الإحسان المشق على النفوس مع التسريح الذي لا يتكرر بل هو مرة أو مرتان أو ثلاث فقط.

قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً...} إن أريد تأكيد التحريم يقال: لا يحل كذا، وإن أريد مطلق التحريم يقال: لا تفعل كذا، لاحتماله الكراهة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر الرجعة ولم يبين لها غاية تنتهي بها فكانت الآية كالمجمل عرض سؤال: هل هي ممتدة كما كانوا يفعلون في الجاهلية متى راجعها في العدة له أن يطلقها ما دام يفعل ذلك ولو ألف مرة أو منقطعة؟ فقال: {الطلاق} أي المحدث عنه وهو الذي تملك فيه الرجعة.

قال الحرالي: لما كان الطلاق لما يتهيأ رده قصره الحق تعالى على المرتين اللتين يمكن فيهما تلافي النكاح بالرجعة... وقال تعالى: {مرتان} دون طلقتان تنبيهاً -على أنه ينبغي أن تكون مرة بعد مرة كل طلقة في مرة لا أن يجمعهما في مرة.

ولما كان له بعد الثانية في العدة حالان إعمال وإهمال وكان الإعمال إما بالرجعة وإما بالطلاق بدأ بالإعمال لأنه الأولى بالبيان لأنه أقرب إلى أن يؤذي به وأخر الإهمال إلى أن تنقضي العدة لأنه مع فهمه من آية الأقراء سيصرح به في قوله في الآية الآتية {أو سرحوهن بمعروف} [البقرة: 231] فقال معقباً بالفاء

{فإمساك} أي إن راجعها في عدة الثانية. قال الحرالي: هو من المسك وهو إحاطة تحبس الشيء، ومنه المسك- بالفتح -للجلد

{بمعروف} قال الحرالي فصرفهم بذلك عن ضرار الجاهلية الذي كانوا عليه بتكرير الطلاق إلى غير حد فجعل له حداً يقطع قصد الضرار...

{أو تسريح} أي إن طلقها الثالثة، ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة لما كان عليه حال أهل الجاهلية. قال الحرالي: سمى الثالثة تسريحاً لأنه إرسال لغير معنى الأخذ كتسريح الشيء الذي لا يراد إرجاعه. وقال أيضاً: هو إطلاق الشيء على وجه لا يتهيأ للعود، فمن أرسل البازي مثلاً ليسترده فهو مطلق، ومن أرسله لا ليسترجعه فهو مسرح... ويجوز أن يراد بالتسريح عدم المراجعة من الثانية لا أنه طلقة ثالثة.

ولما كان مقصود النكاح حسن الصحبة وكانت من الرجل الإمتاع بالنفس والمال وكان الطلاق منعاً للإمتاع بالنفس قال: {بإحسان} تعريضاً بالجبر بالمال لئلا يجتمع منعان: منع النفس وذات اليد- أفاده الحرالي وقال: ففيه بوجه ما تعريض بما صرحت به آية المتعة الآتية... ومن ذلك بذل الصداق كاملاً وأن لا يشاححها في شيء لها فيه حق مع طيب المقال وكرم الفعال.

ولما كان سبحانه وتعالى قد خيره بين شيئين: الرجعة والتسريح الموصوفين وكانت الرجعة أقرب إلى الخير بدأ بها ولكنها لما كانت قد تكون لأجل الافتداء بما أعطيته المرأة وكان أخذه أو شيئاً منه مشاركاً للسراح في أنه يقطع عليه ما كان له من ملك الرجعة ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة كما كان عليه حال أهل الجاهلية وكان الافتداء قد يكون في الأولى لم يفرعها بالقابل قال مشيراً إلى أن من إحسان التسريح سماح الزوج بما أعطاها عاطفاً على ما تقديره: فلا يحل لكم مضارتهن: {ولا يحل لكم} أي أيها المطلقون أو المتوسطون من الحكام وغيرهم لأنهم لما كانوا آمرين عدوا آخذين {أن تأخذوا} إحساناً في السراح.

{مما آتيتموهن} من صداق وغيره {شيئاً} أي بدون مخالفة.

قال الحرالي: لأن إيتاء الرجل للمرأة إيتاء نحلة لإظهار مزية الدرجة لا في مقابلة الانتفاع فلذلك أمضاه ولم يرجع منه شيئاً ولذلك لزم في النكاح الصداق لتظهر مزية الرجل بذات اليد كما ظهرت في ذات النفس...

ولما كان إسناد الخوف إلى ضمير الجمع ربما ألبس قال: {إلا أن يخافا} نصاً على المراد بالإسناد إلى الزوجين، وعبر عن الظن بالخوف تحذيراً من عذاب الله، وعبر في هذا الاستثناء إن قلنا إنه منقطع بأداة المتصل تنفيراً من الأخذ ومعنى البناء للمفعول في قراءة حمزة وأبي جعفر ويعقوب إلا أن يحصل لهما أمر من حظ أو شهوة يضطرهما إلى الخوف من التقصير في الحدود، ولا مفهوم للتقييد بالخوف لأنه لا يتصور من عاقل أن يفتدي بمال من غير أمر محوج ومتى حصل المحوج كان الخوف ومتى خاف أحدهما خافا لأنه متى خالفه الآخر حصل التشاجر المثير للحظوظ المقتضية للإقدام على ما لا يسوغ والله سبحانه وتعالى أعلم.

{ألا يقيما} أي في الاجتماع {حدود الله} العظيم فيفعل كل منهما ما وجب عليه من الحق. قال الحرالي: وفي إشعاره أن الفداء في حكم الكتاب مما أخذت الزوجة من زوجها لا من غير ذلك من مالها، والحدود جمع حد وهو النهاية في المتصرف المانع من الزيادة عليه...

ثم زاد الأمر بياناً لأنه في مقام التحديد فقال مسنداً إلى ضمير الجمع حثاً على التحقق ليحل الفداء حلاً نافياً لجميع الحرج: {فإن خفتم} أي أيها المتوسطون بينهما من الحكام وغيرهم من الأئمة بما ترون منهما وما يخبرانكم به عن أنفسهما {ألا يقيما حدود الله} وتكرير الاسم الأعظم يدل على رفعة زائدة لهذا المقام، وتعظيم كبير لهذه الأحكام، وحث عظيم على التقيد في هذه الرسوم بالمراعاة والالتزام، وذلك لأن كل إنسان مجبول على تقديم نفسه على غيره، والشرع كله مبني على العدل الذي هو الإنصاف ومحبة المرء لغيره ما يحب لنفسه {فلا جناح} أي ميل بإثم {عليهما} وسوغ ذلك أن الظن شبهة فإنك لا تخاف ما لا تظنه.

{فيما افتدت به} أي لا على الزوج بالأخذ ولا عليها بالإعطاء سواء [أكان] ذلك مما آتاها [أم] من غيره أكثر منه أو لا لأن الخلع عقد معاوضة فكما جاز لها أن تمتنع من أول العقد حتى ترضى ولو بأكثر من مهر المثل فكذا في الخلع يجوز له أن لا يرضى إلا بما في نفسه كائناً ما كان ويكون ذلك عما كان يملكه عليها من الرجعة، فإذا أخذه بانت المرأة فصارت أحق بنفسها فلا سبيل عليها إلا بإذنها.

ولما كانت أحكام النساء تارة بالمرافقة وتارة بالمفارقة وكانت مبنية على الشهوات تارة على البهيمية وتارة على السبعية وكان سبحانه وتعالى قد حد فيها حدوداً تكون بها المصالح وتزول المفاسد منع سبحانه وتعالى من تعدى تلك الحدود أي الأحكام التي بينها في ذلك ولم يذكر قربانها كما مضى في آية الصوم فقال: {تلك} أي الأحكام العظيمة التي تولى الله بيانها من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وغيرها {حدود الله} أي شرائع الملك الأعظم الذي له جميع العزة من الأوامر والنواهي التي بينها فصارت كالحدود المعروفة في الأراضي.

ولما كانت شرائع الله ملائمة للفطرة الأولى السليمة عن نوازع النقائص وجواذب الرذائل أشار إلى ذلك سبحانه بصيغة الافتعال في قوله: {فلا تعتدوها} أي لا تتكلفوا مجاوزتها، وفيه أيضاً إشارة إلى العفو عن المجاوزة من غير تعمد.

ولما أكد الأمر تارة بالبيان وتارة بالنهي زاد في التأكيد بالتهديد فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن تعدى شيئاً منها فقد ظلم: {ومن يتعد} أي يتجاوز {حدود الله} أي المحيط بصفات الكمال التي بينها وأكد أمرها وزاد تعظيمها بتكرير اسمه الأعظم. قال الحرالي: ففيه ترجية فيما يقع من تعدي الحدود من دون ذلك من حدود أهل العلم ووجوه السنن وفي إعلامه إيذان بأن وقوع الحساب يوم الجزاء على حدود القرآن التي لا مندوحة لأحد بوجه من وجوه السعة في مخالفتها ولذلك تتحقق التقوى والولاية مع الأخذ بمختلفات السنن ومختلفات أقوال العلماء... وإليه يرشد الحصر في قوله: {فأولئك} أي المستحقون للابعاد {هم الظالمون *} أي العريقون في الظلم بوضع الأشياء في غير مواضعها فكأنهم يمشون في الظلام.

قال الحرالي: وفي إشعاره تصنيف الحدود ثلاثة أصناف: حد الله سبحانه وتعالى، وحد النبي صلى الله عليه وسلم، وحد العالم؛ قال صلى الله عليه وسلم:"ما جاء من الله فهو الحق، وما جاء مني فهو السنة، وما جاء من أصحابي فهو السعة" فأبرأ العباد من الظلم من حافظ على أن لا يخرج عن حدود العلماء ليكون أبعد أن يخرج من حدود السنة ليكون أبعد أن يخرج من حدود الكتاب، فالظالم المنتهي ظلمه الخارج عن الحدود الثلاثة: حد العالم، وحد السنة، وحد الله...

ولما بين قسمي الطلاق البائن -وكان نظر الطلاق إلى العدد أشد من نظره إلى العوض قدم قسمه في قوله {أو تسريح بإحسان} ثم فرع عليه فقال موحداً لئلا يفهم الحكم على الجمع أن الجمع قيد في الحكم وأفهم التكرير للجمع شدة الذم لما كانوا يفعلون في الجاهلية من غير هذه الأحكام.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه. فإذا وقعت الطلقتان: فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية؛ وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء. وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.. وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية؛ ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه. ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال! ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها. ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية؛ وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب. فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه؛ وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه؛ برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال. وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس؛ ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها؛ ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها؛ وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه.

ولما كان مرد الجد أو العبث، والصدق أو الاحتيال، في هذه الأحوال.. هو تقوى الله، وخوف عقابه. جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله: {تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}..

ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد، حسب اختلاف الملابستين: في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم. ورد تعقيب: {تلك حدود الله فلا تقربوها}.. وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: {تلك حدود الله فلا تعتدوها}.. في الأولى تحذير من القرب. وفي الثانية تحذير من الاعتداء.. فلماذا كان الاختلاف؟ في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة: والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية. فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها! أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات. فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف؛ وتجاوزها وعدم الوقوف عندها. فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة. بسبب اختلاف المناسبة.. وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف لذكر غاية الطلاق الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة: 228] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقاً كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة: منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جارياً على عدم تحديد نهاية الطلاق... ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعاً لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه. وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع. والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة. والتسريح ضد الإمساك في معنييه الحقيقي والمجازي، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.

وجيء بقوله: {شيئاً} لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام، تحذيراً من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالاً أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في « دلائل الإعجاز»...

[و] جملة {تلك حدود الله فلا تعتدوها} معترضة بين جملة {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} الآية. ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبْيِيناً؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله. وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس، لأن الأحكام الشرعية، تفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام، وما هم عليه بعده. والإقامة في الحقيقة الإظهار والإيجاد، يقال: أقام حداً لأرضه، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعاً لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.

وجملة: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} تذييل وأفادت جملة {فأولئك هم الظالمون} حصراً وهو حصر حقيقي، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.

واسم الإشارة من قوله: {فأولئك هم الظالمون} مقصود منه تمييز المشار إليه، أكمل تمييز، وهو من يتعدى حدود الله، اهتماماً بإيقاع وصف الظالمين عليهم.

وأطلق فعل {يتعد} على معنى يخالف حكم الله ترشيحاً لاستعارة الحدود لأحكام الله، وهو مع كونه ترشيحاً مستعار لمخالفة أحكام الله؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود. وفي الحديث: « ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه».

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

و لاشك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال، معنى الرفق في التفريق، فلا يفرق بعنف،و جرح للنفوس، وخدش للمروءة، ولمكارم الأخلاق، بل يفرق في رفق وعطف، من غير حرمان، بل بإعطاء من غير منع، كما قال تعالى في هذا المقام:"و لا تنسوا الفضل بينكم" (البقرة 237) فالإحسان في هذا المقام، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي، فهو من أحسن إليه، بمعنى أسدى إليه خيرا، أو أدى معروفا، أو أعطى إعطاء. فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير، وهي الأجل المفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها، بأن يفكر في ماضي أمره، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق، فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه، والتقويم من معوجه، والأخذ بالرفق، وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجاف ولا مشاق ولا مضار، كما قال تعالى: {و سرحوهن سراحا جميلا} (الأحزاب 49). و على هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما. و إن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها، أو لها الفراق الذي لا تريده، وثانيهما استرداد ما وهب. وقد يقول قائل: إذا طابت نفسها بذلك فلماذا لا يأخذ؟ فنقول إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها، والبغض منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده، فإن ذلك مكارم أخلاق منها، وفساد نفس منه، ومثل ذلك لا يكون حلالا، وليس من ذلك قوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} (النساء 4) لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية، كما أنه ليس من قوله تعالى: {و أن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة 237) لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف المهر، فإنهما لم تقم بينهما عشرة زوجية، فسوغ العفو منها إذا لم تكن قد قبضت شيئا، أو قبضت دون نصف المهر، وسوغ العفو منه إن كانت قد قبضت أكثر من النصف، ولذلك لم يكن في ذلك أخذ لما أعطى عند عفوها، بل إسقاط لما يجب، وعساه أن يكون في عسرة، وعسى أن يكون ذلك سبب الفراق ولم يكن منه أخذ، ولكن كان منها إسقاط، فلا ظلم ولا بهتان.

و أخيرا إن قوله تعالى عن إعطاء المال بأنها تفتدي نفسها، أي تخلص نفسها بفداء تقدمه، دليل على أن خوف عدم القيام بحدود الله هو من جانبها، أو على الأقل هو من جانبها أظهر. {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الجناح معناه الإثم، من جنح بمعنى مال. والافتداء معناه تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها، ودفع الأذى عنها، وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله.

{تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}. وإضافتها إليه سبحانه وهو العليم الخبير البصير إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتطرق الريب إليها، وأن من يخالفها يعاند الله ويحاربه، ويتجنب الصالح، ويتبع الطالح، ويترك النافع إلى ما فيه الضرر في الدنيا والآخرة.

و إذا كانت تلك الأحكام حدودا فلا يصح تجاوزها وتركها، وإلا كان معتديا على حرمات الله، متهجما على شرع الله، ولذا قال سبحانه: {فلا تعتدوها} فالفاء هي فاء السببية التي تبين أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أنه إذا كانت تلك الأحكام حدود الله {فلا تعتدوها} فلا تتجاوزوها إلى الشقة الحرام، وإلا كان الردى وسوء العقبى وفساد المال، لأن تلك الحدود عدل الله القائم إلى يوم القيامة، وهي عدله في الأسرة التي هي عماد المجتمع، وبها قام بنيانه، فإذا قامت على الظلم انهار المجتمع من دعائمه.

و لقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقضية عامة هي في عنق التاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {و من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} من يترك أحكام الله سبحانه وتعالى التي شرعها في قرآنه، وبينها على لسان نبيه الكريم، فإنه بسبب تركه لها ظالم لنفسه، وظالم لجماعته، وظالم في الحكم بين الناس. و قد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم على من يترك شرع الله بالظلم، فقد ربط بفاء السببية بين التعدي لحدود الله والحكم بالظلم، وتكرار الربط بالسببية للتوكيد، وعبر بالإشارة مع وجود ما يغني عنها لتأكيد معنى السببية، أي أن السبب في ظلمهم تحملهم لتلك المخالفة والمعاندة لحدود الله ولله، وأردف ذلك بقوله "هم "وهو للتأكيد، ثم عبر بالجملة الاسمية للإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم ووصف ملازم لهم ما داموا تاركين لحدوده، ثم كان القصر، أي قصر الظلم عليهم، وهو قصر حقيقي.

ولماذا كان ذلك التأكيد الشديد؟ كان لسببين:

أولهما: أن الإنسان مغرور دائما، ومحكوم نفسيا بأمور زمنية، تسيطر عليه الأحوال التي تلابسه، وقد يكون فيها الظلم والضرر، ويتوهمهما العدل والمصلحة،و يتوهم أن لا مصلحة في شرع الله ويحاول إخضاع حدود الله لزمانه، أو يتركها، كشأن الناس في الربا والطلاق وتعدد الزوجات والحدود وغير ذلك، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم ظالمون لأنفسهم إن تركوا شرع الله إلى أهوائهم، بل يجب أن تكون أهواؤهم خاضعة لحكم الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".

ثانيهما: المقام الذي سيق فيه ذلك النص الكريم، وهو ما يتعلق بالأسرة، فإن الظلم فيها أقبح الظلم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. فمادام قد قال: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقال: {الطلاق مرتان} أي أن لكل فعل زمناً، فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب، وإلا فالطلاق الثلاث بكلمة واحدة في زمن واحد، يكون عملية قسرية واحدة، وليس فيها تأديب أو إصلاح أو تهذيب، وفي هذه المسألة يقول الحق: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} لأن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع، فإذا ما حدث الطلاق لا يحل للمطلّق أن يأخذ من مهره شيئاً، لكن الحق استثنى في المسألة فقال: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}. فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجاً إن أريد بها الضرر وهي لا تقبل هذا الضرر. فيأتي الحق ويشرع: ومادام قد خافا ألا يقيما حدود الله، فقد أذن لها أن افتدى نفسك أيتها المرأة بشيء من مال، ويكره أن يزيد على المهر إلا إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها ومخالفة للزوج فلا كراهة إذن في الزيادة على المهر. ويسمى هذا الأمر بالخلع، أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف ألا تؤدي له حقاً من حقوق الزوجية، إنها تخلع نفسها منه بمال حتى لا يصيبه ضرر، فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه.

ويتابع الحق سبحانه: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} وهذا الشيء هو الذي قال عنه الله في مكان آخر: {وآتيتم إحداهن قنطاراً 20} (سورة النساء). {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}. وحدود الله هي ما شرعه الله لعباده حداً مانعاً بين الحل والحرمة. وحدود الله إما أن ترد بعد المناهي، وإما أن ترد بعد الأوامر، فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} أي آخر غايتكم هنا، ولا تتعدوا الحد، ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول: (تلك حدود الله فلا تقربوها)، لأن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس، فتلح عليها أن تفعل، فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

حركة التشريع كانت تنطلق من حاجة الواقع إلى معالجة المشاكل المتحرّكة فيه؛ فيأتي الحكم الشرعي في صعيد الحاجات الإنسانية الصعبة التي يتطلّع المسلمون إلى حلها، ليكون تأثيره أكثر عمقاً مما لو كان منطلقاً من تشريع ابتدائي. وهذا ما يوحي بأنَّ الإسلام كان واقعياً في تشريعه للإنسان، من خلال نظرته إلى واقع حياته، بحيث يجد الإنسان سرّ الحكم الشرعي في معاناته للواقع [المعيش] في حياته الخاصة والعامة.

وفي هذا التعبير إيحاء بطبيعة الموقف الذي ينبغي له أن يتخذه في كلتا الحالتين، فلا يبتعد عن الجوّ الحميم الذي تقتضيه العلاقة، ولا يتنكر للكرامة التي تطلبها المرأة... فإذا كان هناك رجوع وعودة وإمساك، فينبغي أن يكون بالمعروف في الروحية والدوافع والأسلوب. وإذا كان هناك انفصال وتسريح، فلا بُدَّ من أن يكون بالإحسان في الكلمة والمعاملة والجوّ اللطيف، حتّى يتمثّل كلّ منهما في نفسه روحيّة الخُلُق الإسلامي الذي يحبّ اللّه للنّاس أن يتّصفوا به.

{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} فليس للرّجل أن يستغل قوّته، فيغتصب من المرأة حقوقها الشرعية من مهر ونحوه. وهذا دليل على احترام الإسلام لملكية المرأة للمال الذي تملكه، باعتبار أنها شخصية قانونية شرعية مستقلة. فلها الحرية في التصرّف بمالها كما تشاء، وليس للآخرين أن يأخذوه منها في أية حالةٍ، حتى زوجها الذي بذل لها المهر في عقد الزواج، فإنها قد ملكته بذلك وأصبح ملكاً لها كبقية أموالها؛ فليس له استرجاعه منها بعد الطلاق. وليس له أن يأخذ منها أي شيء عوضاً عن الطلاق بوسيلة غير مشروعة،

{إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه} فتشعر المرأة بأن لا مجال للعيش مع زوجها على أساس الالتزام بالحكم الشرعي، ويشعر الرّجل بالشعور نفسه بالنظر إلى كراهيتها ونفورها منه. فيمكن لهما في هذه الحال أن يتفقا على أن تتنازل له عن مهرها أو عن شيء آخر، كتعويض له عمّا يفقده من هذه العلاقة الزوجية، ما يدخل في حساب الخسائر المادية والمعنوية؛ وذلك في سبيل أن يطلقها طلاقاً بائناً، لا مجال له معه في الرجوع؛ بل يكون لها الأمر في ذلك.

فإن رجعت في ما بذلته في أثناء العدّة، كان لها ذلك وثبت لها الحقّ في إرجاع ما بذلته، وكان له في مقابل ذلك أن يرجع بالطلاق. وإن بقيت على البذل ثبت الطلاق واستمر من دون أي مبرر شرعي للرجوع. وهذا ما يسميه الفقهاء «بالطلاق الخلعي»، للتعبير عنه بصيغة الخلع في مقام الإنشاء الإيقاعي. وفي هذه الحال، يجوز للرّجل أن يأخذ ما بذلته له من دون حرج، لأنه منطلق من موقع الاتفاق على ذلك... وهذا ما عبّر عنه اللّه سبحانه في قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ويلاحظ في هذا التعبير «الافتداء» معنى التعويض عن حريتها التي قيدها الزواج. وإنما نسب نفي الجناح إليهما، مع أنَّ الإباحة للزوج، لأنه هو الذي يأخذ المال، باعتبار قيام الأمر بالزوجة من جهة، لأنَّ لها التخلص منه بدفع الفدية، وبالزوج لأنَّ له الأخذ للمال.

ثُمَّ يؤكد القرآن على اعتبار هذا التشريع حداً من حدود اللّه التي ينبغي للمؤمن أن يقف عندها ولا يتعداها، لأنَّ ذلك هو معنى الالتزام بخطّ الإيمان، فيقف حيث يريد اللّه منه أن يقف، ويتحرّك حيث يريد اللّه منه أن يتحرّك. {تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم في ما يتعلّق بحياتهم الخاصة، ولغيرهم في ما يتصل بحياة الآخرين... وقد جعل اللّه للظلم عقابه الذي ينال الظالمين وغيرهم في يوم القيامة. وعلى ضوء هذا، يمكن للزوج أن يرجع في طلاقه الأول، فتعود العلاقة الزوجية كما كانت. فإذا طلقها للمرة الثانية أمكنه الرجوع في طلاقه الثاني، وتعود العلاقة من جديد

{فَإِن طَلَّقَهَا} للمرة الثالثة، {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} بأية وسيلة من رجوع أو عقد جديد؛ فقد حرمت عليه بالطلاق الثالث،

فلا مجال للعودة إليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}؛ وذلك بالعقد والدخول معاً، لما ورد في الحديث المأثور الذي يقول: «حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها» وهو كناية عن الالتذاذ بالجماع وعدم الاكتفاء بالعقد.

{فَإِن طَلَّقَهَا} من جديد، أمكنه أن يرجع إليها تماماً كما هو الحال في الطلاق الأول. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّه}، ولعلّ في هذا التقييد إشارة بأنَّ المؤمنين لا يحاولون إعادة التجربة على أساس مزاج شخصي أو شهوةٍ طارئة، بل ينطلقون في ذلك كلّه من موقع الدراسة الواعية للموقف، والاستفادة من تلك التجارب السابقة الفاشلة، والشعور بضرورة عدم تكرارها إلاَّ إذا أيقنا بإمكانية النجاح في ذلك؛ ما يجعل الظنّ غالباً في إقامتهما لحدود اللّه من جديد، لأنَّ اليقين بذلك لا يتحقّق في حسابات المستقبل...

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه} في الطلاق والرجوع {يُبَيِّنُهَا} ويوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيتحملون مسؤولية العلم فكراً وعملاً في كلّ ما يريده اللّه منهم وما لا يريده. جاء أنَّ أبا القاسم الفارسي قال: قلت للرضا (ع): جعلت فداك، إنَّ اللّه يقول في كتابه:] فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [؛ ما يعني بذلك؟ قال: أمّا الإمساك بالمعروف فكّف الأذى وإجباء النفقة، وأمّا التسريح بإحسان، فالطلاق على ما نزل به الكتاب. فإنها توحي بأنَّ الأمر دائر بين الأمرين، فلا تجميد للوضع السلبي. فلا بُدَّ من التسريح بإحسان إذا لم يكن هناك إمساك بالمعروف. ولا يضر بذلك اقتصار الحديث على كفّ الأذى وإجباء النفقة، لأنَّ من الممكن أن يكون ذلك على سبيل المثال، لأنَّ هناك حقوقاً أخرى للمرأة على الزوج كما هي النفقة، كالقسم في بعض الآراء أو بعض الحالات والجماع في الحدود الشرعية المعينة. فإنَّ إيحاء هذه الفقرة يدلّ على أنَّ اللّه لا يريد للمرأة في علاقتها بالرّجل في الزواج أن تسقط تحت تأثير تعسفه، وأن تتجمد حياتها في دائرة وحشيته. فليس له أن يمسكها ضراراً من دون فرقٍ بين الإمساك بها في مدى الحياة الزوجية الطبيعية، أو في الرجعة بها بعد طلاق. بل لا بُدَّ له، في حال إصراره على الإساءة أو الإضرار بها، من أن يطلقها أو يسرّحها بإحسان، لا سيما إذا دققنا في الآية الكريمة: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللّه هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، والآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] فإنَّ الآية الأولى ترفض الإمساك للإضرار، لأنَّ ذلك يمثّل لوناً من ألوان العدوان عليها. فلا يمكن اختصاص النهي عن الإضرار بها بصورة الإمساك في حالة العدّة بالرجعة، فلا مانع من الإضرار في الحياة الزوجية في أوضاعها العادية التي لا طلاق فيها. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا: هل هي نصيحة من اللّه للأزواج، أو هي برنامج عملي للزواج كطابعٍ عملي له، من خلال ما يريد اللّه للزوجة أن تعيشه مع زوجها في زواجها به؟؟ وهل نتصوّر أنَّ اللّه يريد للمرأة أن تخضع للمعاشرة بغير المعروف، بحيث يكون ذلك ضريبةً مفروضةً عليها من اللّه، فلا فرصة لها في التخلص من ذلك، مهما فعل الزوج ومهما أساء، ما عدا النفقة، تماماً كما لو كان كلّ شيء للمرأة أن تحصل على ما يقيم جسدها ويكسو عورتها في بيت زوجها؟. إنَّ السؤال يفرض نفسه، وإنَّ القرآن يجيب عن ذلك بأنَّ للمرأة الحقّ بأن تعيش مع زوجها بمعروف وسلام، أو أن تفارقه بإحسان وسلام. وفي ضوء ذلك، فإنَّ للمرأة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا منعها أيّ حقّ من حقوقها الشرعية في النفقة والمضاجعة بالمبيت معها، والجنس الكامل في وقته. فإذا لم يستجب لذلك، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي الذي جعل اللّه له الولاية على طلاقها.