الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبۡعَثَ فِيٓ أُمِّهَا رَسُولٗا يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِي ٱلۡقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَٰلِمُونَ} (59)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال الله عز وجل: {وما كان ربك مهلك القرى} يعني: معذب أهل القرى الخالية {حتى يبعث في أمها رسولا} يعني: في أكبر تلك القرى رسولا، وهي مكة {يتلو عليهم ءاياتنا} يقول: يخبرهم الرسول بالعذاب بأنه نازل بهم في الدنيا إن لم يؤمنوا، {وما كنا مهلكي القرى} يعني: معذبي أهل القرى في الدنيا {إلا وأهلها ظالمون} يقول: إلا وهم مذنبون، يقول: لم نعذب على غير ذنب.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَما كانَ رَبّكَ يا محمد مُهْلِكَ القُرَى" التي حوالي مكة في زمانك وعصرك "حتى يَبْعَثَ فِي أُمّها رَسُولاً "يقول: حتى يبعث في مكة رسولاً، وهي أمّ القرى، يتلو عليهم آيات كتابنا، والرسول: محمد صلى الله عليه وسلم... وقوله: "وَما كُنّا مُهْلِكِي القُرَى إلاّ وأهْلُها ظالِمُونَ" يقول: ولم نكن لنهلك قرية وهي بالله مؤمنة إنما نهلكها بظلمها أنفسها بكفرها بالله... عن ابن عباس، قوله: "وَما كُنّا مُهْلِكي القُرَى إلاّ وأهْلُها ظالِمُونَ" قال الله: لم يهلك قرية بإيمان، ولكنه يهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها، ولو كانت قرية آمنت لم يهلكوا مع من هلك، ولكنهم كذّبوا وظلموا، فبذلك أُهلكهوا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا}... جائز أن يكون هذا في كل القرى وجميع الرسل؛ أنه كان لا يهلكها بالكفر نفسه حتى يبعث في أكبرها وأعظمها، وهي المصر {رسولا يتلوا عليهم آياتنا} وذلك يشبه قوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15]. وإنما ذكر بعث الرسول في أمها لأن بعث الرسول في أعظمها، وهو المصر، ينتشر، وينتهي في الآفاق والصغائر منها والقرى لما أنهم يدخلون المصر لحوائجهم، فيتهيأ للرسول تلاوة الآيات عليهم والدعاء لهم، وإذا كان بعض القرى لا يتهيأ لها ذلك، والله أعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حتى يَبْعَثَ فِي} القرية التي هي أمّها، أي: أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها {رَسُولاً} لإلزام الحجة وقطع المعذرة، مع علمه أنهم لا يؤمنون... وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و «الظلم» هنا يجمع الكفر والمعاصي والتقصير في الجهاد وبالجملة وضع الباطل موضع الحق.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها، فكأن سائلا أورد السؤال من وجهين؛

الأول: لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد؟

الثاني: لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم؟

فأجاب عن السؤال الأول بقوله: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا} وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة...

ومعنى: {يتلو عليهم آياتنا} يؤدي ويبلغ، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: {وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون} أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمنا.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

فيه دلالة على أن النبي الأمي، وهو محمد، صلوات الله وسلامه عليه، المبعوث من أم القرى، رسول إلى جميع القرى، من عرب وأعجام، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]. وتمام الدليل [قوله] {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]. فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]. فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى؛ لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه، صلوات الله وسلامه عليه، أنه قال:"بعثت إلى الأحمر والأسود". ولهذا ختم به الرسالة والنبوة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أظهر سبحانه سوط العذاب بيد القدرة، دل على وطأ العدل بثمرة الغنى، ولكونه في سياق الرحمة بالإرسال عبر بالربوبية فقال: {وما كان} أي كوناً ما {ربك} أي المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس {مهلك القرى} أي هذا الجنس كله بجرم وإن عظم {حتى يبعث في أمها} أي أعظمها وأشرفها، لأن غيرها تبع لها، ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه الصلاة والسلام من الناصرة، وبعث في بيت المقدس {رسولاً يتلوا عليهم} أي أهل القرى كلهم {آياتنا} الدالة -بما لها من الجري على مناهيج العقول، على ما ينبغي لنا من الحكمة، وبما لها من الإعجاز- على تفرد الكلمة، وباهر العظمة، إلزاماً للحجة، وقطعاً للمعذرة، لئلا يقولوا {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول من أم القرى كلها، وهي مكة البلد الحرام، وفيها لأنها مع كونها مدينة تجري فيها الأمور على قانون الحكمة هي في بلاد البوادي تظهر فيها الكلمة، فجمعت الأمرين لأن المرسل إليها جامع، وحازت الأثرين لأن الختام به واقع، وكان السر في جعل المؤيد لدينه عيسى عليهما الصلاة والسلام من البادية كثرة ظهور الكلمة على يديه.

ولما غيّى الإهلاك بالإرسال تخويفاً، ضرب له غاية أخرى تحريراً للأمر وتعريفاً، ولكونه في سياق التجرؤ من أهل الضلال، على مقامه العال، بانتهاك الحرمات، عبر بأداة العظمة فقال: {وما كنا} أي بعظمتنا وغنانا {مهلكي القرى} أي كلها، بعد الإرسال {إلا وأهلها ظالمون} أي عريقون في الظلم بالعصيان، بترك ثمرات الإيمان.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيانِ إهلاكِ القُرى المذكورةِ، أي: وما صحَّ وما استقامَ بل استحال في سنَّته المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ، أو ما كان في حكمِه الماضِي وقضائِه السَّابق أنْ يُهلكَ قبلَ الإنذارِ.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 58]

وتعرض كتاب الله في هذا السياق للحديث عن مبدأ أساسي في الإسلام يتجلى فيه العدل الإلهي المطابق، والرحمة الإلهية الواسعة، وهذا المبدأ الأساسي يتألف من شقين اثنين: الشق الأول: أن الله تعالى لا يعاقب قوما ولا يهلكهم إلا إذا تعدوا حدود الله، وأصبح الظلم شيمتهم، والفساد في الأرض خطتهم، فلم يعودوا صالحين للخلافة عن الله فيها بعمارتها، وحسن التصرف في طيباتها. والشق الثاني: أن الله تعالى لا يهمل القوم الظالمين، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، ويوجه إليهم الإنذار تلو الإنذار، والإعذار تلو الإعذار، عن طريق الرسل الذين يبعثهم إليهم، والكتب التي ينزلها عليهم، فإذا لم يستجيبوا لله ورسوله ولم يهتدوا بكتابه سقطت حجتهم، وبطلت معذرتهم، ونفذ قضاء الله فيهم، فأهلكهم ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}. والمراد "بالقرى "في كلتا الآيتين نفس المدن الآهلة بالسكان، التي يكون لها من قوة الإشعاع والتوجيه شأن وأي شأن[...] و "أم القرى" هنا هي كبرى المدن التي تكون عاصمة لها أو بمنزلة العاصمة، كما كانت مكة عند ظهور الإسلام بالنسبة للعرب.