الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ} (120)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ودعوا أيها الناس علانية الإثم وذلك ظاهره، وسرّه وذلك باطنه...

إن الله تعالى ذكره تقدّم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه وذلك سرّه وعلانيته، والإثم: كلّ ما عصى الله به من محارمه، وقد يدخل في ذلك سرّ الزنا وعلانيته، ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهنّ، ونكاح حلائل الآباء والأمهات والبنات، والطواف بالبيت عريانا، وكلّ معصية لله ظهرت أو بطنت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان جميع ذلك إثما، وكان الله عمّ بقوله: {وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ} جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن، لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئا دون شيء إلا بحجة للعذر قاطعة. غير أنه لو جاز أن يوجه ذلك إلى الخصوص بغير برهان، كان توجيهه إلى أنه عني بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع: ما حرّم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم، وما بين الله تحريمه في قوله:"حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ..." إلى آخر الآية أوْلى، إذ كان ابتداء الآيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى وهذه في سياقها، ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك، وأدخل فيها الأمر باجتناب كلّ ما جانسه من معاصي الله، فخرج الأمر عامّا بالنهي عن كلّ ما ظهر أو بطن من الإثم.

"إنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثمَ سَيُجزّوْنَ بِمَا كانُوا يَقْتَرِفُونَ "يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويركبون معاصي الله ويأتون ما حرّم الله، "سَيُجْزَوْنَ" يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وذروا ظاهر الإثم وباطنه} اختلف فيه: قيل: {وذروا ظاهر الإثم} بظاهر الجوارح وباطنها؛ ظاهر الجوارح من نحو اليد والرجل واللسان والعين، وباطن الجوارح القلوب والضمائر. وقيل: ذروا الإثم في ملإ من الخلق وفي الخلاء...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ظاهر الإثم: ما للأغيار عليه اطلاع، وباطن الإثم هو: سرٌ بينك وبين الله، لا وقوفَ لمخلوقٍ عليه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا نهي عام من طرفيه لأن {الإثم} يعم الأحكام والنسب اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي، والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} الإثم في اللغة: القبيح الضار، وفي الشرع كل ما حرمه الله تعالى، وهو لم يحرم على العباد إلا ما كان ضارا بالأفراد في أنفسهم أو أموالهم أو عقولهم أو أعراضهم أو دينهم، أو ضارا بالجماعات في مصالحهم السياسة أو الاجتماعية. والظاهر منه ما فعل علنا، والباطن ما فعل سرا، أو الظاهر ما ظهر قبحه أو ضرره للعامة وإن فعل سرا والباطن ما يخفي ذلك فيه إلا عن بعض الخاصة وإن فعل جهرا، أو الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالنيات والكبر والحسد والتفكير في تدبير المكايد الضارة والشرور ويجوز الجمع بين هذه الوجوه. ومما يقتضيه السياق مما يدخل في عموم باطن الإثم على بعض الوجوه ما أهل به لغير الله فهو مما يخفى على غير العلماء بحقيقة التوحيد، ومنه الاعتداء في أكل المحرم الذي يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة وقيل الحاجة وذلك قوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (المائدة 3} وهذه جملة من جوامع الكلام والأصول الكلية في تحريم الآثام حتى قال ابن الأنباري: إن المراد بهذا التعبير ترك الإثم من جميع جهاته أي جميع أنواع الظهور والبطون فيه... {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} تقدم معنى لفظ الاقتراف في تفسير الآية الثالثة من هذا الجزء ومعنى الجملة: إن الذين يكتسبون جنس الإثم سواء أكان ظاهرا أم باطنا سيلقون جزاء إثمهم بقدر ما كانوا يبالغون في إفساد فطرتهم وتدسية أنفسهم بالإصرار عليه ومعاودته المرة بعد المرة كما يدل عليه فعل الكون وصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، وأما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، فأولئك يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم من قلوبهم بالحسنات المضادة لها {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود 114) فتعود أنفسهم زكية طاهرة، وتلقى ربها سليمة بارة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... والمعنى: إنْ أردتم الزّهد والتقرّب إلى الله فتقرّبوا إليْه بترك الإثم، لا بترك المباح. وهذا في معنى قوله تعالى: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله} [البقرة: 177] الآية...

والتّعريف في الإثم: تعريف الاستغراق، لأنَّه في المعنى تعريف للظاهر وللباطن منه، والمقصود من هذين الوصفين تعميم أفراد الإثم لانحصارها في هذين الوصفين، كما يقال: المَشرق والمغرب والبَرّ والبحر، لقصد استغراق الجهات.

وظاهر الإثم ما يراه النّاس، وباطنُه ما لا يطّلع عليه النّاس ويقع في السرّ، وقد استوعب هذا الأمر ترك جميع المعاصي. وقد كان كثير من العرب يراءون النّاس بعمل الخير، فإذا خلوا ارتكبوا الآثام، وفي بعضهم جاء قوله تعالى: {ومن النّاس مَن يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد وإذا قيل له اتَّق الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد} [البقرة: 204، 206].

{إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}.

تعليل للأمر بترك الإثم، وإنذارٌ وإعذار للمأمورين، ولذلك أكَّد الخبر ب (إنّ)، وهي في مثل هذا المقام، أي مقام تعقيب الأمر أو الإخبار تفيد معنى التّعليل...

وإظهار لفظ الإثم في مقام إضماره إذ لم يقل: إنّ الّذين يكسبونه لزيادة التّنديد بالإثم، وليستقرّ في ذهن السّامع أكمل استقرار، ولتكون الجملة مستقلّة فتسير مسير الأمثال والحكم. وحرف السّين، الموضوع للخبر المستقبل، مستعمل هنا في تحقّق الوقوع واستمراره.

ولمّا جاء في المذنبين فعلُ يكسبون المتعدي إلى الإثم، جاء في صلة جَزائهم بفعل (يقترفون)، لأنّ الاقتراف إذا أطلق فالمراد به اكتساب الإثم كما تقدّم آنفاً في قوله تعالى: {وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 113].