الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَكَيۡفَ أَخَافُ مَآ أَشۡرَكۡتُمۡ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗاۚ فَأَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (81)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا جواب إبراهيم لقومه حين خوّفوه من آلهتهم أن تمسه لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه، فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربكم فعبدتموه من دونه وهو لا يضرّ ولا ينفع ولو كانت تنفع أو تضرّ لدفعت عن أنفسها كسري إياها وضربي لها بالفأس، وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم وهو القادر على نفعكم وضرّكم في إشراككم في عبادتكم إياه "ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا": ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حجة، ولم يضع لكم عليه برهانا، ولم يجعل لكم به عذرا. "فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأَمْنِ "يقول: أنا أحقّ بالأمن من عاقبة عبادتي ربي مخلصا له العبادة حنيفا له ديني بريئا من عبادة الأوثان والأصنام، أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصناما لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانا ولا حجة؟ "إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ": إن كنتم تعلمون صدق ما أقول وحقيقة ما أحتجّ به عليكم، فقولوا وأخبروني أيّ الفريقين أحقّ بالأمن.

"فَأيّ الفَرِيقَيْنِ أحَقّ بالأمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ": أي بالأمن من عذاب الله في الدنيا والاَخرة الذي يعبد، الذي بيده الضرّ والنفع؟ أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال، ويصرّف لهم العبر، ليعلموا أن الله هو أحقّ أن يُخاف ويعبد مما يعبدون من دونه.

عن مجاهد: قول إبراهيم حين سألهم: "أيّ الفَرِيقَينِ أحَقّ بالأمْنِ" هي حجة إبراهيم عليه السلام.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) الإشراك: هو الجمع بين الشيئين في معنى؛ فالإشراك بالله: هو أن يجمع مع الله غير الله فيما لا يجوز إلا لله، ومعنى الآية: وكيف أخاف الأصنام وما أشركتم، وأنتم أحق بالخوف مني حيث أشركتم بالله، ولا تخافون الله بشرككم أو فعلكم الذي لم ينزل به الله حجة وسلطانا؟ (فأي الفريقين أحق بالأمن) الموحد أو المشرك (إن كنتم تعلمون).

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَكَيْفَ أَخَافُ} لتخويفكم شيئاً مأمون الخوف لا يتعلق به ضرر بوجه {و} أنتم {لا تخافون} ما يتعلق به كل مخوف وهو إشراككم بالله ما لم ينزل بإشراكه {سلطانا} أي حجة، لأن الإشراك لا يصحّ أن يكون عليه حجة، كأنه قال: وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف. ولم يقل: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم، احترازاً من تزكيته نفسه، فعدل عنه إلى قوله: {فَأَيّ الفريقين} يعني فريقي المشركين والموحدين.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية إلى {تعلمون} هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، المعنى: وكيف أخاف الأصنام التي لا خطب لها وهي حجارة وخشب إذا أنا نبذتها ولم أعظمها، ولا تخافون أنتم الله عز وجل وقد أشركتم به في الربوبية أشياء لم ينزل بها عليكم حجة، و «السلطان»: الحجة، ثم استفهم على جهة التقرير {فأي الفريقين أحق بالأمن} أي من لم يشرك بالقادر العالم أحق أن يأمن.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وتعجب منهم في ظنهم خوفه من معبوداتهم بقوله منكراً: {وكيف أخاف ما أشركتم} أي من دون الله من الأصنام وغيرها مع أنها لا تقدر على شيء {ولا} أي والحال أنكم أنتم لا {تخافون أنكم أشركتم بالله} أي المستجمع لصفات العظمة والقدرة على العذاب والنقمة.

ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء قال: {ما لم ينزل به} أي بإشراكه؛ ولما كان المقام صعباً لأنه أصل الدين، أثبت الجار والمجرور وقدمه فقال: {عليكم سلطاناً} أي حجة تكون مانعة من إنزاله الغضبَ بكم، والحاصل أنه عليه السلام أوقع الأمن في موضعه وهم أوقعوه في موضع الخوف، فعجب منهم لذلك فبان أن هذا وقول شعيب عليه السلام في الأعراف {وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله ربنا} [الأعراف: 89] -الآية، وقوله تعالى في الكهف {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله} [الكهف: 24] من مشكاة واحدة؛ ولما كان المحذور المنفي هنا إنما هو خوف الضرر من آلهتهم، وكان حصول الضرر لمخالفها بواسطة أتباعها أو غيرهم من سنن الله الجارية في عباده، اقتصر الخليل عليه السلام على صفة الربوبية المقتضية للرأفة والرحمة والكفاية والحماية، وقد وقع في قصته الأمران: إمكانهم من أسباب ضرره بإيقاد النار وإلقائهم له فيها، ورحمته بجعلها عليه برداً وسلاماً؛ ولما كان المحذور في قصة شعيب عليه السلام العود في ملتهم، زاد الإتيان بالاسم الأعظم الجامع لجميع الكمالات المنزه عن جميع النقائص المقتضي لاستحضار الجلال والعظمة والتفرد والكبر المانع من دنو ساحات الكفر- والله الموفق.

ولما بان كالشمس بما أقام من الدليل أنه أحق بالأمن منهم، قال مسبباً عما مضى تقريراً لهم: {فأيّ الفريقين} أي حزب الله وحزب ما أشركتم به، ولم يقل: فأيّنا، تعميماً للمعنى {أحق بالأمن} وألزمهم بالجواب حتماً بقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وبعد أن بين لهم عليه السلام أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده من ناحية الأسباب ومن غير ناحيتها قال: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا}؟؟ أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندا له، وهو لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، ولا تخافون أنتم إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به عليكم حجة بينة بالوحي، ولا بنظر العقل، تثبت لكم جعله شريكا له في الخلق والتدبير، أو في الوساطة والشفاعة والتأثير، فافتياتكم على خالقكم الذي بيده الضر والنفع بهذه الموبقة الفظيعة هو الذي يجب أن يخاف ويتقى. فالاستفهام للإنكار التعجبي من تخويفهم إياه ما لا يخيف، في حال كونهم لا يخافون أخوف ما يخاف، وقد قيل إن هذا الاستفهام عن كيفية الخوف لا عن الخوف نفسه وبحثوا عن نكتته، والمراد نكتة العدول عن الاستفهام بالهمزة إلى الاستفهام بكيف، وهي تؤخذ من قول أهل اللغة في معنى كيف من كونها سؤالا عن الأحوال- لا مما تكلفه بعض المفسرين- والمعنى أن كل صفة وحال يمكن أن تدعى لصحة هذا الخوف فهي باطلة، وأنه عليه السلام لم يجد لهذا الخوف حالا ولا وجها، فلا هو يخاف هؤلاء الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمونه من وساطتهم عند الله وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدَّعى- ولو بجعل الله- لهم، ولا لثبوت جعلهم أسبابا للضرر بغير إرادة ولا اختيار منهم، فالمراد أن جميع وجوه الخوف وأحواله الحقيقية والمجازية منتفية، وإلا فعليهم بيان كيف يخافون.

وقد حذف متعلق الشرك في مقام إنكار خوفه من شركائهم، وذكره بعده في مقام إنكار عدم خوفهم من شركهم، وهو قوله: {ما لم ينزل به عليكم سلطانا} – لأن الحاجة إلى بيان عدم وجود السلطان – أي الدليل – على هذا الشرك إنما يحتاج إليه في مقام إسناده إليهم والتعجب من عدم خوفهم سوء عاقبته، ما لا يحتاج إليه في مقام إنكاره هو كل حال يمكن أن تدعى لخوفه من شركائهم، فهو يثبت بذلك الإطلاق أنه لا يمكن أن توجد حال ولا صفة للخوف مما أشركوه، فلو عدل عنه إلى تقييد إنكاره بما ذكر لفات بهذا القيد ذلك العموم البليغ، وذهب ذهن السامعين إلى أنه سيخاف إذا ظهر له دليل على صحة دعواهم، وهم قوم مقلدون يعتقدون أنه لا بد من وجود أدلة تثبت صحة اعتقادهم، وإن لم يعرفوها أو يقدروا على بيانها لخصمهم، وأما ذكر هذا المتعلق في مقام الإنكار التعجبي من عدم خوفهم فهو ضروري لأنه تذكير لهم عند ذكر عقيدتهم بأنهم لا عذر لهم بالجهل ببطلانها، لأنه لا دليل لهم عليها.

وقال بعض المفسرين إن قوله: {ما لم ينزل به عليكم سلطانا} قد ذكر على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة المنزلة أو مطلق الحجة القاطعة، وأن التقليد ليس بعذر، ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم، ولا بصيرة ولا عقل...

ثم رتب صلوات الله عليه على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له بقوله: {فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81)}؟ المراد بالفريقين فريق الموحدين الحنفاء الذين يعبدون الله وحده، ويخافونه ويرجونه ولا يخافون ولا يرجون غيره من دونه، وإنما يعارضون الأسباب، ويدافعون الأقدار بالأقدار، كاتقاء أسباب الأمراض قبل وقوعها، ومدافعتها بالأدوية بعد الابتلاء بها، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب، فاتخذوا من الآلهة والأرباب، بل نسبوا إلى بعضها النفع والضر بخداع المصادفات واخترع الأوهام، فهو يقول لهم أي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه، من عاقبة عقيدته وعبادته؟ ونكتة عدوله عن قول: فأينا أحق بالأمن. إلى قوله: {فأي الفريقين} هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك، من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك، لا خاصة به وبهم، فهي متضمنة لعلة الأمن.

وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس. واسم التفضيل على غير بابه، فالمراد أينا الحقيق بالأمن، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن، وأنه هو الحقيق بالخوف، إلى الوسط النظري بين الأمرين، وهو أي الفريقين أحق، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله. ثم قال {إن كنتم تعلمون} أي أيهما أحق بالأمن- أو إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر- فأخبروني بذلك، وبينوه بالدلائل؟ وهذا إلجاء إلى الاعتراف بالحق، أو السكوت على الحماقة والجهل. وأما الجواب فهو قوله الحق: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

...إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود. إنه إن كان أحد قمينا بالخوف فليس هو إبراهيم -وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق- وكيف يخاف آلهة عاجزة -كائنة ما كانت هذه الآلهة، والتي تتبدى أحيانا في صورة جبارين في الأرض بطاشين؛ وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون!- كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطانا ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن، لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عُطفت جملة {وكيف أخاف} على جملة: {ولا أخاف ما تشركون به} [الأنعام: 80] ليبيّن لهم أنّ عدم خوفه من آلهتهم أقلّ عجباً من عدم خوفهم من الله تعالى، وهذا يؤذن بأنّ قومه كانوا يعرفون الله وأنَّهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتجّ عليهم بأنّهم أشركوا بربّهم المعتَرف به دون أن يُنَزّل عليهم سلطاناً بذلك.

و {كيف} استفهام إنكاري، لأنَّهم دعَوه إلى أن يخاف بأس الآلهة فأنكر هو عليهم ذلك وقلب عليهم الحجَّة، فأنكر عليهم أنَّهم لم يخافوا الله حين أشركوا به غيره بدون دليل نصبه لهم فجَمَعَت (كيف) الإنكارَ على الأمرين.

قالوا وفي قوله: {ولا تخافون أنَّكم أشركتم} يجوز أن تكون عاطفة على جملة: {أخاف ما أشركتم} فيدخل كلتاهما في حكم الإنكار، فخوفُه من آلهتهم مُنكر، وعدم خوفهم من الله منكر.

ويجوز أن تكون الواو للحال فيكون محلّ الإنكار هو دعوتَهم إيّاه إلى الخوف من آلهتهم في حال إعراضهم عن الخوف ممَّن هو أعظم سلطاناً وأشدّ بطشاً، فتفيد (كيف) مع الإنكار معنى التعجيب على نحو قوله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44]. ولا يقتضي ذلك أنّ تخويفهم إيَّاه من أصنامهم لا ينكَر عليهم إلاّ في حال إعراضهم عن الخوف من الله لأنّ المقصود على هذا إنكار تحميق ومقابلة حال بحال، لا بيان ما هو منكر وما ليس بمنكر، بقرينة قوله في آخره {فأي الفريقين أحقّ بالأمن}. وهذا الوجه أبلغ.

و {ومَا أشركتُم} موصولة والعائد محذوف، أي ما أشركتُم به. حذف لدلالة قوله: {ولا أخاف ما تشركون به} [الأنعام:] عليه، والموصول في محلّ المفعول (به)، ل {ما أشركتم}.

وفي قوله: {أنَّكم أشركتم} حُذفت (من) المتعلِّقة ب {تخافون} لاطِّراد حذف الجارّ مع (أنّ)، أي من إشراككم، ولم يقل: ولا تخافون الله، لأنّ القوم كانوا يعرفون الله ويخافونه ولكنَّهم لم يخافوا الإشراك به. {وما لم ينزّل به عليكم سلطاناً} موصول مع صلته مفعول {أنَّكم أشركتم}.

ومعنى {لم يُنزّل به عليكم} لم يخبركم بإلهية الأصنام التي عبدتموها ولم يأمركم بعبادتها خبَراً تعلمون أنَّه من عنده فلذلك استعار لذلك الخبر التنزيل تشبيهاً لعظم قدره بالرفعة، ولبلوغه إلى من هم دون المخبِر، بنزول الشيء العالي إلى أسفلَ منه.

والسلطان: الحجّة لأنَّها تتسلَّط على نفس المخاصم، أي لم يأتكم خبر منه تجعلونه حجَّة على صحَّة عبادتكم الأصنام.

والفاء في قوله: {فأي الفريقين} تفريع على الإنكار، والتعجيب فَرع عليهما استفهاماً ملجئاً إلى الاعتراف بأنَّهم أوْلى بالخوف من الله من إبراهيم من آلهتهم. والاستفهام ب {أيّ} للتقرير بأنّ فريقه هو وحده أحقّ بالأمن.

والفريق: الطائفة الكثيرة من النّاس المتميِّزة عن غيرها بشيء يجمعها من نسب أو مكان أو غيرهما، مشتقّ من فَرَق إذا ميّز. والفِرْقَة أقلّ من الفريق، وأراد بالفريقين هنا قومه ونفسه، فأطلق على نفسه الفريق تغليباً، أو أراد نفسه ومن تبعه إن كان له أتباع ساعتئذٍ، قال تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]، أو أراد من سيوجد من أتباع ملَّته، كما يناسب قوله {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82].

والتعريف في {الأمن} للجنس، وهو ضدّ الخوف، وجملة {إن كنتم تعلمون} مستأنفة ابتدائية، وجواب شرطها محذوف دلّ عليه الاستفهام، تقديره: فأجيبوني، وفيه استحثاث على الجواب.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في الآية التّالية ينهج إِبراهيم منطقاً استدلالياً آخر، فيقول لعبدة الأصنام: كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإِدراك والشعور والقوة والعلم، أمّا أنتم فعلى الرغم من إِيمانكم بوجود الله وإِقراركم له بالعلم والقدرة، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام، فإنكم لا تخافون غضبه: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً). إِنّنا نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا ينكرون وجود الله خالق السماوات والأرض، ولكنّهم كانوا يشركون الأصنام في عبادته ويعتبرونها شفيعة لهم عنده، كونوا منصفين إِذن وقولوا: (فأي الفريقين أحق بالأمن إِن كنتم تعلمون). يستند منطق إِبراهيم (عليه السلام) هنا إِلى منطق العقل القائم على الواقع، إِنّكم تهددونني بغضب الأصنام، مع أن تأثيرها وهمٌ من الأوهام، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعاً، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً، وتمسكتم بأمر وهمي فهو لم يصدر إِلينا أمراً بعبادة الأصنام.