الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰلَمِينَ} (90)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر النبيين الثمانية عشر، فقال: {أولئك الذين هدى الله} لدينه، {فبهداهم اقتده}، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فبسنتهم اقتد. {قل لا أسألكم عليه}: على الإيمان بالقرآن، {أجرا}... {إن هو}: ما القرآن {إلا ذكرى}: تذكرة {للعالمين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"أُولَئِكَ": هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحقّ، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه من أمر الله والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جلّ ثناؤه لذلك. "فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ": فبالعمل الذي عملوا والمنهاج الذي سلكوا وبالهدى الذي هديناهم والتوفيق الذي وفقناهم، اقتده يا محمد: أي فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه عملٌ للّه فيه رضا، ومنهاج من سلكه اهتدى.

وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرينَ أنهم الأنبياء المسَمّوْنَ في الآيات المتقدمة، وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك. وأما على تأويل من تأوّل ذلك أن القوم الذين وكلوا بها هم أهل المدينة، أو أنهم هم الملائكة، فإنهم جعلوا قوله: "فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بهَا بِكافِرِينَ "اعتراضا بين الكلامين، ثم ردّوا قوله: "أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ "على قوله: "أُولَئِكَ الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتَابَ والحُكْمَ والنّبُوةَ"... ومعنى الاقتداء في كلام العرب بالرجل: اتباع أثره والأخذ بهديه، يقال: فلان يقدو فلانا إذا نحا نحوه واتبع أثره، قِدَةً وقُدْوَةً وقِدْوَة وقِدْية.

"قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرَى للْعَالمِينَ".

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكرهم بآياتي "أن تبسل نفس بما كسبت" من مشكري قومك يا محمد: لا أسألكم على تذكيري إياكم والهدى الذي أدعوكم إليه والقرآن الذي جئتكم به عوضا أعتاضه منكم عليه، وأجرا آخذه منكم، وما ذلك مني إلا تذكير لكم ولكلّ من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل بأسَ الله أن يحلّ بكم، وسخطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم، وإنذار لجميعكم بين يدي عذاب شديد، لتذكروا وتنزجروا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ...)

يحتمل فبهداهم الذي هدوا هم، اهدِ أنت أمتك.

ويحتمل: فبهداهم الذي هدوا هم اهتد أنت؛ يأمره -عَزَّ وَجَلَّ بالاقتداء بإخوانه الذين مضوا من الرسل. أمر رسوله أن يقتدي بهم بذلك، وذلك يدل على أن الأنبياء والرسل كانوا على دين واحد، وأن الدِّين لا يحتمل النسخ والتغيير. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا...) أخبر أنه شرع لنا الدِّين الذي وصى به نوحًا، وذلك يدل على أن الدِّين واحد لا يحتمل النسخ، وأما الشرائع: فهي مختلفة؛ لأنها تحتمل النسخ، وتحتمل الأمر بالاقتداء بهم ما ذكر.

(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي: اقتد بمن تقدم من الرسل، ولا تأخذ على تبليغ الرسالة أجرا كما لم يأخذوا هم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

واستدل قوم بقوله (فبهداهم اقتده) على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان متعبدا بشريعة من قبله من الأنبياء وهذا لا دلالة فيه، لأن قوله (فبهداهم اقتده) معناه: فبأدلتهم اقتده. والدلالة ما أوجبت العلم ويجب الاقتداء بها، لكونها موجبة للعلم لا غير، ولذلك قال تعالى (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) فنسب الهدى إلى نفسه، فعلم بذلك أنه أراد ما قلناه.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

لما ذكر الله الأنبياء قال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} قلنا: أراد بالهدى: التوحيد، ولدلالة الأدلة العقلية على وحدانيته وصفاته بدليلين: أحدهما: أنه قال: {بهداهم اقتده} ولم يقل: بهم، وإنما هداهم: الأدلة التي ليست منسوبة إليهم، أما الشرع فمنسوب إليهم، فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم. الثاني: أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة، ومتى بحث في جميع ذلك وشرائعهم كثيرة. فدل ذلك على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم، وهو التوحيد [المستصفى: 2/44].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَبِهُدَاهُمُ اقتده} فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلاّ بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى ما لم تنسخ. فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً. والهاء في {اقتده} للوقف تسقط في الدرج. واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَفِيهَا من الْأَحْكَامِ الْعَمَلُ بِمَا ظَهَرَ من أَفْعَالِهِمْ، وَأَخْبَرَنَا عَنْهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَن الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْت مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ "ص "فَقَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ من أَيْنَ سَجَدْت؟ فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: {وَ من ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ...} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}. وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُد، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لا شبهة في أن قوله: {أولئك الذين هدى الله} هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله: {فبهداهم اقتده} أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدا أن يقتدي فيه بهم؛

فمن الناس من قال: المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات.

وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم. وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل. وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا يلزمنا. وقال آخرون: إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين}. ثم قال في هذه الآية: {أولئك الذين هدى الله} أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد {فبهداهم اقتده} أي اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب.

وقال آخرون: اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل. قال القاضي: يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم...

أما قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا} فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء عليهم السلام المتقدمين، وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة. لا جرم اقتدى بهم في ذلك، فقال: {لا أسألكم عليه أجرا} ولا أطلب منكم مالا ولا جعلا {إن هو} يعني القرآن {إلا ذكرى للعالمين} يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم. والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان المراد بسوقهم هكذا -والله أعلم- أن كلاًّ منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك، لم يُشْغِل أحداً منهم عن ذلك سراء ولا ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لازموا الهدى والدعاء إليه على كل حال؛ قال مستأنفاً لتكرار أمداحهم بما يحمل على التحلي بأوصافهم، مؤكداً لإثبات الرسالة: {أولئك} أي العالو المراتب {الذين هدى الله} أي الملك الحائز لرتب الكمال، الهدى الكامل، ولذلك سبب عن مدحهم قوله: {فبهداهم} أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها {اقتده} وأشار بهاء السكت التي هي أمارة الوقوف -وهي ثابتة في جميع المصاحف- إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء؛ ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال: {قل} أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفي التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقي {لا أسئلكم} أي أيها المدعوون {عليه} أي على الدعاء {أجراً} فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد؛ ثم استأنف قوله: {إن} أي ما {هو} أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به {إلا ذكرى} أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد {للعالمين} أي الجن والإنس والملائكة دائماً، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم، وتركوا من يجب الاقتداء به.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

واستدل بعضهم بها على أنه صلى الله عليه وسلم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه وسلم عند أرباب الذوق.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} الهدى ضد الضلال، وهو يطلق في مقام الدين على الطريق الموصل إلى الحق، وهو الصراط المستقيم الذي نطلبه في صلاتنا وعلى سلوك ذلك الطريق والاستقامة في السير عليه، وقال الراغب: الهدى والهداية في موضوع اللغة واحد ولكن قد خص الله عز وجل لفظة الهدى بما تولاه وأعطاه واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان اه، وهو لا يصح مطردا. والاقتداء في اللغة: السير على سنن من يتخذ قدوة أي مثالا يتبع. قال في اللسان: يقال – قدوة وقدوة لما يقتدى به، ابن سيده: القدوة والقدوة ما تسننت به. ثم قال: وقد اقتدى به والقدوة الأسوة. بعد هذا ينبغي أن نعلم ما يكون به الاقتداء وما لا يكون، ولا سيما اقتداء النبي المرسل، بالشرع الأكمل، بغيره ممن لو كان حيا لما وسعه إلى اتباعه؛ فأما العلم بتوحيد الله وتنزيهه وإثبات صفات الكمال له وبسائر أصول الدين وعقائده كالإيمان بالملائكة وأمر البعث والجزاء فكل ذلك مما أوحاه الله تعالى إلى رسوله على أكمل وجه فكان علما ضروريا وبرهانيا له – كما تقدم تقريره من عهد قريب – فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء فيه بمن قبله ولا مما يقع فيه الاقتداء.

وقوله تعالى له صلى الله عليه وسلم {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} [النحل: 123] معناه أن الملة التي أوحاها إليه وأمره باتباعها وهي العقيدة وأصل الدين هي ملة إبراهيم، وإنما يتبعها لأمر الله لا لأنها ملة إبراهيم، إذ ليست مما علمه من إبراهيم بالتلقي عنه لأنه لم يكن في عصره، ولا بالنقل لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ناقلا ذلك عن العرب، وإن كان من المشهور المتواتر عند العرب أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان موحدا حنيفا. وأما الشرائع العملية فلا يقتدي فيها الرسول بأحد أيضا، وإنما يتبعها لأن الله أمره باتباعها، ذلك بأن الرسول لا يتبع في الدين إلا ما أوحي إليه من حيث إنه أوحي إليه، وقد تقدم مما فسرنا من هذه السورة فيه قوله تعالى حكاية عن رسوله بأمره {إن اتبع إلا ما يوحى إلي} [الأنعام: 106] ومثله في أواخر سورة الأعراف وقال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} [الجاثية: 18] الآية.

وموافقة الرسول لمن قبله في أصول الدين وبعض فروعه لا يسمى اقتداء ولا تأسيا، وإنما يكون التأسي به في طريقته التي سلكها في الدعوة إلى الدين وإقامته، ومن الشواهد على هذا قوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} [الممتحنة: 4] الآية – فإنه تعالى أرشد المؤمنين إلى التأسي بإبراهيم ومن آمن معه وجعلهم قدوة لهم في سيرتهم العملية التي كانت من هدى الله تعالى لهم، وهي البراءة من معبودات قومهم ومنهم ما داموا عابدين لها – ولما كان وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار له وهو مشرك ليس من هذا الهدى بل كان مسألة شاذة لها سبب خاص استثناها تعالى من التأسي به فقال: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} [الممتحنة: 4] الخ.

فمعنى الجملة على هذا: أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات المتلوة آنفا، والموصوفون في الآية الأخيرة بإيتاء الله إياهم الكتاب والحكم والنبوة، هم الذين هداهم الله تعالى الهداية الكاملة، فبهداهم دون ما يغايره ويخالفه من أعمال غيرهم وهفوات بعضهم اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة، والصبر على التكذيب والجحود، وإيذاء أهل العناد والجمود، ومقلدة الآباء والجدود، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر، والشجاعة والحلم، والإيثار والزهد، والسخاء والبذل، والحكم بالعدل، الخ، {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود:120] -{ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين} [الأنعام: 34]{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} [الأحقاف: 35].

فأما قوله تعالى له في آخر سورة ن {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48] وصاحب الحوت هو يونس أحد هؤلاء الأنبياء الثمانية عشر – فالنهي فيه مما دل عليه الحصر بتقديم « فبهداهم» على « اقتده» كما تقدم فإن هذه الحالة لم تكن من الهدى الذي هدى الله يونس إليه، بل هفوة عاقبه الله عليها ثم تاب عليه، ولا يحط هذا من قدر يونس عليه السلام، ولإزالة توهم ذلك قال صلى الله عليه وسلم: « لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» 96 وقال: « لا تفضلوني على يونس بن متى» 97 أي في أصل النبوة لأجل هفوته، وهو كقوله: « لا تفضلوا بين الأنبياء» 98 وفيه « ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى» 99 وكل ذلك في الصحاح، والمراد منه عدم التفريق بين الرسل والأنبياء لا منع مطلق التفضيل، فعلم بهذا أن الله [لم] يأمر خاتم رسله بالاقتداء بكل فرد من أولئك الأنبياء في كل عمل، وإنما أمره أن يقتدي بهداهم الذي هداهم إليه في سيرتهم، سواء ما كان منه مشتركا بينهم وما امتاز في الكمال فيه بعضهم، كما امتاز نوح وإبراهيم وآل داود بالشكر ويوسف وأيوب وإسماعيل بالصبر، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس بالقناعة والزهد، وموسى وهارون بالشجاعة وشدة العزيمة في النهوض بالحق، فالله تعالى قد هدى كل نبي ورفعه درجات في الكمال، وجعل درجات بعضهم فوق بعض، ثم أوحى إلى خاتم رسله خلاصة سير أشهرهم وأفضلهم وهم المذكورون في هذه الآيات وفي سائر القرآن الكريم، وأمره أن يقتدي بهداهم ذاك، وهذه هي الحكمة العليا لذكر قصصهم في القرآن، وقد شهد الله تعالى به أنه جاء بالحق وصدق المرسلين وأنه لم يكن بدعا من الرسل.

فعلم بهذا أنه كان مهتديا بهداهم كلهم، وبهذا كانت فضائله ومناقبه الكسبية أعلى من جميع مناقبهم وفضائلهم، لأنه اقتدى بها كلها فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم، إلى ما هو خاص به دونهم، ولذلك شهد الله تعالى له بما لم يشهد به لأحد منهم، فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وأما فضائله وخصائصه الوهبية فأمر تفضيله عليهم فيها أظهر، وأعظمها عموم البعثة، وختم النبوة والرسالة، وإنما كمال الأشياء في خواتيمها، صلى الله عليه وعليهم أجمعين...

ثم ختم الله تعالى هذا السياق بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لا أسألكم عليه أجرا} أي قل أيها الرسول لمن بعثت إليهم أولا: لا أسألكم على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكركم به أو على التبليغ (وكلاهما مفهوم من السياق وإن لم يذكرا، والمختار الأول) أجرا من مال ولا غيره من المنافع، أي كما أن جميع من قبلي من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى – وذلك مصرح به في قصصهم من سورة هود وسورة الشعراء وغيرهما، وقد قيل إن هذا مما أمر أن يقتدي بهم فيه، والتحقيق أن ما أمره الله تعالى به استقلالا لا يدخل فيما أمر بفعله اقتداء كما تقدم بيانه، وقد تكرر هذا الأمر له صلى الله عليه وسلم في عدة سور، وهو على عمومه، والاستثناء في قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} [الشورى: 23] منقطع ومعناه على ما رواه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة 103. ويوضحه قوله في رواية لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عنه قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم. وفي هذا المعنى روايات أخرى.

والمعنى أني لا أسألكم على ما جئتكم به من سعادة الدنيا والآخرة جعلا منكم ولكن مودة القرابة بيني وبينكم مما يجب أن يحفظ وهي دون ما جريتم عليه من عصبية النسب ولو بالباطل فإن من تلك العصبية أن يحمي القريب قرابته وأهل نسبه ويقاتل من عاداهم، وإني أكتفي منكم بالمودة وأقلها أن لا تعادوني ولا تؤذوني، وأعلاها أن تمنعوني ممن يؤذيني. وليس هذا من الأجر على التبليغ في شيء فإنما يعطي الأجر على الشيء من يقبله وينتفع به فيكافئ صاحبه بمنفعة توازيه أو لا توازيه. وقد صرح ابن عباس بما ذكرنا من أقل المودة في رواية ابن مردويه عنه من طريق عكرمة، وقيل في الآية غير ذلك كقول بعضهم: إلا أن توادّوا الأقارب وتصلوا الأرحام بينكم، وقول بعضهم إنها في الأنصار وقول آخرين إنها في آل البيت النبوي توجب مودتهم وموالاتهم، ولا شك في أن حبهم وودهم وولاءهم من الإيمان، وأن بغضهم من الكفر أو النفاق، ولكن الرسول لم يطلب من الأمة بأمر الله أن تجعل هذا أجرا له على تبليغ الدعوة والقيام بأعباء الرسالة، بل أجره في ذلك على الله تعالى وحده كغيره من إخوانه الرسل كما هو صريح في آيات أخرى، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشورى وغيرها.

{إن هو إلا ذكرى للعالمين} الضمير راجع إلى القرآن كما رجحنا أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاده العالمين كافة، لا لكم خاصة، وهو نص في عموم البعثة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

.. وقوله: {فبهداهم اقتده} تفريع على كمال ذلك الهُدَى، وتخلُّص إلى ذكر حظّ محمدّ صلى الله عليه وسلم من هُدى الله بعد أن قُدّم قبله مسهب ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علوّ منزلة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّها منزلة جديدة بالتّخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدّمين، وأنّه جمَعَ هُدى الأوّلين، وأكملت له الفضائل، وجُمع له ما تفرّق من الخصائص والمزايا العظيمة. وفي إفراده بالذكر وترك عدّه مع الأوّلين رمز بديع إلى فذاذته وتفرّد مقداره، ورَعْي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة، ولذلك قُدّم المجرور وهو {بهداهم} على عامله، للاهتمام بذلك الهدى لأنّه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا، فلا يليق به الاقتداء بهُدى هو دون هُداهم. ولأجل هذا لم يسبق للنّبيء صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممّن تحنّفوا في الجاهليّة أو تنصَّروا أو تهوّدوا. فقد لقي النّبي صلى الله عليه وسلم زيدَ بن عَمْرو بن نُفَيْلٍ قبل النّبوءة في بَلْدَح وعَرض عليه أن يأكل معه من سُفْرته، فقال زيد « {إنِّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم توهّماً منه أنّ النبي يدين بدين الجاهليّة، وألهم الله محمّداً السكوت عن إجابته إلهاماً لحفظ السِرّ المدَّخر فلم يقل له إنّي لا أذبح على نُصُب. ولقي ورقةَ بن نوفل غير مرّة بمكّة. ولَقِي بَحيرا الرّاهبَ. ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرّسالة.

.. وفي قوله: {فبهداهم اقتده} تعريض للمشركين بأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم ما جاء إلاّ على سنّة الرّسل كلّهم وأنّه ما كان بدعاً من الرّسل.

وأمْرُ النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهُداهم يؤذن بأنّ الله زوى إليه كلّ فضيلة من فضائلهم الّتي اختصّ كلّ واحد بها سواء ما اتّفق منه واتّحد، أو اختلف وافترق، فإنّما يقتدي بما أطلعه الله عليه من فضائل الرّسل وسيرهم، وهو الخُلُق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى: {وإنّك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4].

ويشمل هداهم ما كان منه راجعاً إلى أصول الشّرائع، وما كان منه راجعاً إلى زكاء النّفس وحسن الخُلق. وأمّا مَا كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاماً جزئيّة من كلّ ما أبلغه الله إيّاه بالوحي ولم يأمره باتّباعه في الإسلام ولا بيّن له نسخه، فقد اختلف علماؤنا في أنّ الشّرائع الإلهيّة السّابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها.

وأرى أنّ أصل الاستدلال لهذا أنّ الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التّنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدلّ على أنّه شُرِع للتّشديد على أصحابه عقوبة لهم، ولا ما يدلّ على عدم العمل به، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يريد من المسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه، مثل أصل التّيسير ولا يقتضي القياسُ على حكم إسلامي ما يناقض حكماً من شرائع مَن قَبلنا. ولا حجّة في الآيات الّتي فيها أمرُ النّبيء صلى الله عليه وسلم باتّباع مَن قبله مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {ثمّ أوحينا إليك أن اتّبِعْ ملّة إبراهيم حنيفاً} [النحل: 123] ومثل قوله تعالى: {شَرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13]، لأنّ المقصود من ذلك أصول الدّيانة وأسس التّشريع الّتي لا تختلف فيها الشّرائع، فمن استدلّ بقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} فاستدلاله ضعيف...

{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين}.

استئناف عُقّب به ذلك البيانُ العظيم الجامع لأحوال كثير من الأمم. والإيماءُ إلى نبوءة جمع من الأنبياء والصّالحين، وبيان طريقة الجدل في تأييد الدّين، وأنّه ما جاء إلاّ كما جاءت مِلل تلك الرّسل، فلذلك ذيَّله الله بأمر رسوله أن يُذكِّر قومه بأنّه يذكِّرُهم. كما ذكَّرتْ الرّسلُ أقوامهم، وأنّه ما جاء إلاّ بالنّصح لهم كما جاءت الرّسل. وافتتح الكلام بفعل {قل} للتّنبيه على أهميّته كما تقدّم في هذه السّورة غير مرّة. وقُدّم ذلك بقوله: {لا أسألكم عليه أجراً} أي لست طالبَ نفع لنفسي على إبلاغ القرآن، ليكون ذلك تنبيهاً للاستدلال على صدقه لأنّه لو كان يريد لنفسه نفعاً لصانعهم ووافقهم. قال في « الكشاف» في سورة هود (51) عند قوله تعالى حكاية من هود {يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إنْ أجريَ إلاّ على الّذي فطَرنيَ أفَلا تعقلون} ما من رسول إلاّ واجه قومه بهذا القول لأنّ شأنهم النّصيحة والنّصيحة لا يمحّصها ولا يمحِّضُها إلاّ حَسم المطامع وما دام يتوهّم شيء منها لم تنفع ولم تنجع اه.

قلت: وحكى الله عن نوح مثل هذا في قوله في سورة [هود: 29] {ويَا قوم لا أسألكم عليه مَالاً إنْ أجريَ إلاّ على الله} وقال لرسوله أيضاً في سورة [الشّورى: 23] {قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى. فليس المقصود من قوله: لا أسألكم عليه أجراً} ردّ اعتقاد معتقد أو نفي تهمة قيلت ولكن المقصود به الاعتبار ولفت النّظر إلى محض نصح الرّسول صلى الله عليه وسلم في رسالته وأنّها لنفع النّاس لا يجرّ منها نفعاً إلى نفسه.

والضمير في قوله: {عليه} وقوله: {إن هو} راجع إلى معروف في الأذهان؛ فإنّ معرفة المقصود من الضمير مغنية عن ذكر المعاد مثل قوله تعالى: {حتّى توارتْ بالحجاب} [ص: 32]، وكما في حديث عُمر في خبر إيلاء النّبيء صلى الله عليه وسلم « فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بأبي ضرباً شديداً فقال: أثمّ هو» ألخ. والتّقدير: لا أسألكم على التّبليغ أو الدّعاء أجراً وما دعائي وتبليغي إلاّ ذِكْرى بالقرآن وغيره من الأقوال.

والذّكرى اسم مصدر الذِكر بالكسر، وهو ضدّ النّسيان، وتقدّم آنفاً. والمُراد بها هنا ذكر التّوحيد والبعث والثّواب والعقاب.

وجَعَل الدّعوة ذكرى للعالمين، لأنّ دعوته صلى الله عليه وسلم عامّة لسائر النّاس. وقد أشعر هذا بأنّ انتفاء سؤال الأجر عليه لسببين: أحدهما: أنّه ذِكرى لهم ونصح لنفعهم فليس محتاجاً لِجَزاءٍ منهم، ثانيهما: أنّه ذكرى لغيرهم من النّاس وليس خاصّاً بهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

و (هدى الله) هنا أيضا هو هداية دلالة، وهداية معونة؛ بدليل أنه قال: {فبهداهم اقتده} والخطاب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن (أولاء) أي المشار إليهم هم المتقدمون، و (الكاف) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}... وكل واحد من هؤلاء الرسل السابق ذكرهم له خصلة تميز بها، وفيه قدر مشترك بين الجميع وهو إخلاص العبودية لله والإيمان بالله وأنه واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وكلهم مشتركون في هذه الأصول، وتميز كل منهم بخصلة في الخير؛ فسيدنا سليمان وداود أخذا القدرة والسلطان والملك، وأيوب أخذ القدرة في الصبر على البلاء، ويوسف أخذ القدرة في الصبر والتفوق في الحكم، وسيدنا يونس أخذ القدرة كضارع إلى الله وهو في بطن الحوت، وإسماعيل كان صادق الوعد.

والمطلوب إذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مقتديا بهم جميعا، أي أن يكون كسليمان وكداود وكإسحاق وكيعقوب وكأيوب وكيوسف وكيونس. وأن يأخذ خصلة التميز من كل واحد فيهم وأن يشترك معهم في القضية العامة وهي التوحيد لله. وبذلك يجتمع كل التميز الذي في جميع الأنبياء في سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرا من ربه فلابد أن نعتقد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد نفذ الأمر، وما دام أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد اجتمعت فيه مزايا الأنبياء فحق له أن يكون خاتم النبيين والمرسلين.

{قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} (من الآية 90 سورة الأنعام)

ولماذا يطلب الأجر؟ أنت لا تطلب أجرا ممن فعلت أمامه أو له عملا إلا إذا كان العمل الذي فعلته يعطيه منفعة تستحق أن تعطي وتمنح عليه أجرا، فكأن ما يؤديه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمة كان يستحق عليه أجرا، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ عن ربه: قل لهم: إنك نزلت عن هذا الأجر.

وقارنوا بين من يقدم لأي واحد منكم منفعة قد لا تأخذ من وقته نصف ساعة في جزئية من جزئيات الحياة، ومن يقوم بعمل ينفعكم في مدى يتعدى الدنيا إلى أن يصل إلى الآخرة ثم يقول: أنا لا أريد منكم أجرا.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وتنطلق خاتمة الفصل بالآية التي تدعو النبي إلى أن يقتدي بهذا الهدى الذي أرشد الله إليه هؤلاء الأنبياء، فيهتدي به، على أساس أنه هدى الله الذي تتحرك به الحياة فتحتوي كل مراحلها في خطّةٍ موحّدة لا سبيل معها للانحراف أو التبديل، لأنه يمثّل الحلّ الرسالي لمشكلة الإنسان، بعيداً عن الخصوصيّات، ولذلك كانت التغييرات والتبديلات في شرائع الأنبياء لا تمس المبادئ العامة، بل تتعرض للتفاصيل التي لا تمثل إلا اختلافاً في التطبيقات والهوامش والشكليات، وهذا هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. وفي ضوء ذلك، كانت الرسالة الإسلامية تؤكد في دعوتها إلى الإيمان، على الإيمان بما أنزل إلى الرسول محمد (ص) وإلى الأنبياء الذين سبقوه، انطلاقاً من وحدة الرسل في وحدة الرسالة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تؤكّد هذه الآية مرّة أُخرى على أن أُصول الدعوة التي قام بها الأنبياء واحدة، بالرغم من وجود بعض الاختلافات الخاصّة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق. بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إِلى المرحلة النهاية، أي الإِسلام. ولكن ما المقصود من أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهتدي أُولئك الأنبياء؟ يقول بعض المفسّرين: إِنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل، ويقول بعض آخر إِنّه «التوحيد وإِبلاغ الرسالة» ولكن يبدو أنّ للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الأُصول العقائدية، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأُصول الأخلاقية والتربوية. يتّضح ممّا سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإِسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة، إِذ إنّ النسخ إِنّما يشمل جانباً من أحكام تلك الشرائع لا الأُصول العامّة للدعوة.