122- ليس للمؤمنين أن يخرجوا جميعا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم إذا لم يقتض الأمر ذلك ، فليكن الأمر أن تخرج إلى الرسول طائفة ليتفقهوا في دينهم ، وليدعوا قومهم بالإنذار والتبشير حينما يرجعون إليهم ليثبتوا دائما على الحق ، وليحذروا الباطل والضلال{[87]} .
قالت فرقة : سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكاناً ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ الكهف : 62 ] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك ، وقالت فرقة ، سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم } [ الكهف : 62 ] عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر ، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة } إلى قوله { يحذرون } بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر ، و «التفقه » هو من النافرين ، و «الإنذار » هو منهم ، والضمير في { رجعوا } لهم أيضاً ، وقالت فرقة هذه : الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة ، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع{[5974]} فنزلت الآية في ذلك ، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين ، وقال ابن عباس ما معناه : إن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا ، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفرداً وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين ، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم ، وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال ، والضمير في قوله { ليتفقهوا } عائد أيضاً على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى عليه وسلم ، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة ، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه ، والجمهور على أن «التفقة » إنما بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ، وقالت فرقة يشبه أن يكون «التفقه » في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته في الله تعالى ، ورجحه الطبري وقواه ، والآخر أيضاً قوي ، والضمير في قوله { لينذروا } عائد على المتفقهين بحسب الخلاف ، و «الإنذار » عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضاً كذلك .
كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضاً على الجهاد وتنديداً على المقصرين في شأنه ، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين للغزو . وإذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها ، من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً ، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين ، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه ، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه ، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان ، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلاً حتى تقلص ، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المُدن التي فتحوها ووكَلوا أمر الدولة إليهم .
وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقاً من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يُذكر عقبها نَفْر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام .
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذْ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ التوبة : 120 ] الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشىء عن قوله : { مالكم إذا قيل لكم انفروا } [ التوبة : 38 ] ثم عن قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا } [ التوبة : 120 ] الخ . ومعنى { أن يتخلفوا } هو أن لا ينفروا ، فناسب أن يذكر بعده { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
والمراد بالنفير في قوله : { لينفروا } وقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفرَ كلُّهم .
فضمير { ليتفقهوا في الدين } يجوز أن يعود على قوله : { المؤمنون } ، أي ليتفقه المؤمنون .
والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر ، كما اقتضاه قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ، فهو عام مراد به الخصوص .
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهومٍ من الكلام من قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } لأن مفهومه وبقيتْ طائفةً ليتفقهوا في الدين ، فأعيد الضمير على ( طائفة ) بصيغة الجمع نظراً إلى معنى طائفة ، كقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] على تأويل اقتتل جمعهم .
ويجوز أن يكون المراد من النفرْ في قوله : { لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } نفْراً آخر غير النفر في سبيل الله ، وهو النفر للتفقه في الدين ، وتكون إعادةُ فعل ( ينفروا ) و ( نَفَر ) من الاستخدام بقرينة قوله : { ليتفقهوا في الدين } فيكون الضمير في قوله : { ليتفقهوا } عائداً إلى { طائفة } ويكون قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } تمهيداً لقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } .
وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين . والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة .
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي ، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي ، أي كونه نهياً جازماً يقتضي التحريم . وذلك أنه كما كان النفْر للغزو واجباً لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجباً لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضاً ، فأفاد مجموع الكلامين أن النفْر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه ، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو . وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل ( انفروا ) ، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير ( انفروا ) .
ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوباً على الكفاية ، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب . وأشعر نفي وجوب النفْر على جميع المسلمين وإثباتُ إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عدداً من الذين يبقون للتفقه والإنذار ، وأن ليست إحدى الحالتين بأوْلى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر ، وأن البقية باقية على الأصل ، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزُو ، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع ، وأن ذلك سواء . ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة .
والفرقة : الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن ؛ فالقبيلة فرقة ، وأهل البلاد الواحدة فرقة .
والطائفة : الجماعة ، ولا تتقيد بعدد . وتقدم عند قوله : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) .
وتنكير { طائفة } مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية . وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية .
والتفقه : تكلف الفقاهة ، وهي مشتقة من فقه ( بكسر القاف ) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ . فالفقه أخص من العلم ، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله : { لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] ، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته ، فقاهة فهو فقيه .
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه ، أي الفهم في الدين . وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح « مَن يرد الله به خيراً يفَقِّهْه في الدِين » ، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم .
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد .
والإنذار : الإخبار بما يتوقع منه شر . والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة . ومنه النذير . وتقدم في قوله تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) ، فالإنذار هو الموعظة ، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم ، لأن التخلية مقدمة على التحْلية ، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده . ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطإ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين .
وحذف مفعول يحذرون } للتعميم ، أي يحذرون ما يُحذر ، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات . واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير ، وقد علمت أنه يفيد الأمرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا...
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية، وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين؛
فقال بعضهم: هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فلما نزل قوله:"ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ" انْصَرفوا عن البادية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية، فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله: "وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً "وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة...
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوّهم ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده... قال: قال ابن زيد، في قوله: "وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً" قال: ليذهبوا كلهم، فلولا نفر من كلّ حيّ وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين، ليتفقه المتخلفون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون... عن ابن عباس، قوله: "وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً" يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده. فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتسروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: "لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ" يقول: يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون، ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم...
وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزّروهم في تخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف.. واختلف الذين قالوا: عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبيّ عليه الصلاة والسلام وحده في المعنيين بقوله: "لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ"؛ فقال بعضهم: عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة...
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفةَ... عن الحسن: "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ" قال: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول الله سرية أن ينفر معها من كلّ قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة، طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال الله جلّ ثناؤه: "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ" يقول: فهلاّ نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الأقوال التي رُويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك وقتادة.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدوّ قبل هذه الآية بقوله: "ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ"، ثم عقب ذلك جلّ ثناؤه بقوله: "وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً" فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
وأما قوله: "لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ" فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. "لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ" يقول: لعلّ قومهم إذا هم حذّروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون، فيؤمنون بالله ورسوله، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لأن النفر قد بيّنا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو، فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جلّ ثناؤه قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدّينِ علم أن قوله: «ليتفقهوا» إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذ كان يليه دون غيره من الكلام.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدين؟ قيل: ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه. وبعد، فإنه قال جلّ ثناؤه: "وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ" عطفا به على قوله: "لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ" ولا شكّ أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة، ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نبي اللَّه كان إذا خرج للغزو خرجوا جميعًا، فتبقى المدينة خالية عن الرجال، فنهى اللَّه عن ذلك وقال: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إذا بعث سرية خرجوا جميعًا، فبقي هو وحده لم يبق معه أحد ممن يشهد التنزيل؛ ليخبروا أُولَئِكَ إذا حضروا.
وقال آخرون: الآية في الوفود، وذلك أن الوفود إذا قدموا من الآفاق المدينة قدموا مع النساء والذراري جميعًا، فأمروا أن ينفر الرجال منهم دون النساء والذراري، أو من كل قوم نفر؛ ليتفقهوا في الدِّين.
ذكر في هذه الآية: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)، نهى الكل أن ينفروا، وأمروا في الآية الأخرى بنفر الكل بقوله: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)، فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أمر بالنفر الجميع عند قلة المؤمنين؛ ليكون لهم الكفاية مع العدو. والثاني: أمر بنفر الكل عند النفير.
فيكون إحدى الآيتين في حالة النفير، والأخرى في غير حال النفير وما ذكرنا في وقت القلة والكثرة.
فمن يقول: إن الآية في الذين كانوا يخرجون جميعًا مع رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إذا خرج، كأنه نهى عن الخروج جملة مع رسول اللَّه؛ خوفًا على أهاليهم وذراريهم، لعل العدو سباهم وأخذ أموالهم يقول اللَّه: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، أي: هلا نفر طائفة منهم فيخبروا الكفار المقيمين بما أنزل اللَّه على رسوله من النصر والمعونة والهزيمة على الكفار الذين قاتلوا رسول اللَّه، فيكون ذلك سبب دعائهم إلى الإسلام.
وإلى هذا ذهب الحسن والأصم ويقولون: إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها وهي قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ).
يقول الحسن: إن عليهم أن يخرجوا مع رسول اللَّه إذا خرج، فيقول: هذا منسوخ بالآية التي تليها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية.
ومن يقول بأن الآية في الوفود الذين كانوا يأتون رسول اللَّه المدينة بالنساء والذراري، فالنهي لذلك لما كانوا يضيقون على أهل المدينة أوطانهم ويغلون أسعارهم ونحوه؛ يقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ)، أي: يعلمون الدِّين وأحكامه، ثم ليرجعوا إلى قومهم فيعلموهم.
ومن يقول: الآية في الذين خرجوا ونفروا مع السرايا، نهاهم عن خروج الكل؛ لما لعله لما نزل على رسول اللَّه شيئًا، فلم يكن معه أحد يبلغه إليهم ثم يبلغ إلى من هو غاب عنه ضاع ذلك فيقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ما نزل على رسول اللَّه، وليبلغوا ذلك إلى من غاب عنه.
...رُوي عن ابن عباس أنه نسخ قوله: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً} [النساء: 71] وقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، فقال تعالى: ما كان لهم أن ينفروا في السرايا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وحده، ولكن تبقى بقية لتنفقّه ثم تنذر النافرة إذا رجعوا إليهم. وقال الحسن:لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة؛ وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية لأنه قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ}، فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها إذا رجعت إليهم. وعلى التأويل الأول الفرقة التي نفرت منها الطائفة هي التي تنفقه وتنذر الطائفة إذا رجعت إليها؛ وهو بعيد من وجهين، أحدهما: أن حكم العطف أن يتعلق بما يليه دون ما يتقدمه، فوجب على هذا أن يكون قوله: {مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا} أن تكون الطائفة هي التي تتفقه وتنذر، ولا يكون معناه من كل فرقة تتفقه في الدين تنفر منهم طائفة؛ لأنه يقتضي إزالة ترتيب الكلام عن ظاهره وإثبات التقديم والتأخير فيه. والوجه الثاني: أن قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ} الطائفة أوْلى منه بالفرقة النافرة منها الطائفة؛ وذلك لأن نفر الطائفة للتفقه معنى مفهوم يقع النفر من أجله، والفرقة التي منها الطائفة ليس تفقّهها لأجل خروج الطائفة منها، لأنها إنما تتفقَّه بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم حضرته لا لأن الطائفة نفرت منها، فحَمْلُ الكلام على ذلك يبطل فائدة قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، فثبت أن التي تتفقه هي الطائفة النافرة من الفرقة المقيمة في بلدها وتنذر قومها إذا رجعت إليها.
وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم وأنه مع ذلك فرض على الكفاية، لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه، وأمر الباقين بالقعود لقوله: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"فلولا نفر" معناه: هلاَّ نفر، وهي للتحضيض إذا دخلت على الفعل...
وقال أبو علي الجبائي: تنفر الطائفة من كل ناحية إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لتسمع كلامه وتتفقه عنه، ثم يبينوا ذلك لقومهم إذا رجعوا إليهم..
والنفور عن الشيء هو: الذهاب عنه لتكره النفس له، والنفور إليه: الذهاب اليه لتكره النفس لغيره. والتفقه: تعلم الفقه. والفقه: فهم موجبات المعنى المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها...
وقوله "لعلهم يحذرون "معناه لكي يحذروا، لأن الشك لا يجوز على الله. والحذر: تجنب الشيء لما فيه من المضرة..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدِّين لَتَعَطَّل عليهم المعاش، ولبقي الكافة عن درك ذلك المطلوب، فجعل ذلك فرضاً على الكفاية...
وأمَّا الذين يتفقهون في الدِّين فهم الداعون إلى الله، وإنما يُفْهمُ الخلْقَ عن الله مَنْ كان يَفْهَمْ عن الله.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} والمراد هو التعليم والإرشاد. [الإحياء: 1/20].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللام لتأكيد النفي، ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن. وفيه أنه لو صحّ وأمكن، ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر {مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير {لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، ومن التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً، وفشوّ داء الضرائر بينهم وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجلّ: {لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} [القصص: 83]. {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً. ووجه آخر: وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً -بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد- استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأنّ الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. وقوله: {لّيَتَفَقَّهُواْ} الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف، النافرة من بينهم {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... و «الإنذار» عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضاً كذلك.
المسألة الأولى: اعلم أنه يمكن أن يقال: هذه الآية من بقية أحكام الجهاد، ويمكن أن يقال: إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد.
أما الاحتمال الأول: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر. فلما بالغ الله سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية. فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة، وأرسل السرايا إلى الكفار، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة، فنزلت هذه الآية. والمعنى: أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد، بل يجب أن يصيروا طائفتين. تبقى طائفة في خدمة الرسول، وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجا إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار، وأيضا كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيما بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع، ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين. فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين، أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد، والثاني: يكونون مقيمين بحضرة الرسول، فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو، والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين، في التفقه، وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين.
إذا عرفت هذا فنقول على هذا القول احتمالان:
أحدهما: أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل، فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه، فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم، فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع، وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم.
والاحتمال الثاني: هو أن يقال: التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن. ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين، وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين، فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته، فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون، فيتركوا الكفر والشك والنفاق، فهذا القول أيضا محتمل...
وأما الاحتمال الثالث: وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد، بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه، وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسفر، بين أيضا عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر. فقال: وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز، وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له.
ثم قال: {فلولا نفر من كل فرقة منهم} يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين، وليعرفوا الحلال والحرام، ويعودوا إلى أوطانهم، فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم.
فإن قيل: أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه في كل زمان؟
قلنا: متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه السفر، وفي زمان الرسول عليه السلام كان الأمر كذلك، لأن الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد وشرع حادث. أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة، فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجبا، إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلا على السفر، لا جرم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا في السفر.
المسألة الرابعة: دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم، لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين، لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق، وأولئك يحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين. فكل من تفقه وتعلم لهذا الغرض كان على المنهج القويم والصراط المستقيم، ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} أي ليتكلفوا الفقاهة فيه فصيغة التفعل للتكلف، وليس المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الشدة في طلب ذلك لصعوبته فهو لا يحصل بدون جد وجهد...
كان الظاهر أن يقال: ليعلموا بدل {لينذروا} ويفقهون بدل {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} لكنه اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم الإرشاد والإنذار وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.
قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة: كان اسم الفقه في العصر الأول اسماً لعلم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب وتدل عليه هذه الآية فما به الإنذار والتخويف هو الفقه دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات، وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن: ثكلتك أمك هل رأيت فقيهاً بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن إعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى، اه، وهو من الحسن بمكان، لكن الشائع إطلاق الفقيه على من يحفظ الفروع مطلقاً سواء كانت بدلائلها أم لا كما في التحرير. وفي «البحر» عن المنتقى ما يوافقه...
هذا ومن باب الإشارة: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين} إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهراً فلفوات المصالح وأما باطناً فلعدم الاستعداد للجميع. والفقه من علوم القلب. وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة، فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى، ألا ترى كيف نفى الله عمن خشي غيره سبحانه الفقه فقال: {لأنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13]
وعطف سبحانه قوله: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} على قوله تعالى: {لّيَتَفَقَّهُواْ} إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية من تتمة أحكام الجهاد بالقتال، مع زيادة حكم طلب العلم والتفقه في الدين وهو آلة الجهاد بالحجة والبرهان، الذي عليه مدار الدعوة إلى الإيمان، وإقامة دعائم الإسلام، وإنما جهاد السيف حماية وسياج. وسببها أن ما ورد في فضل الجهاد وثوابه وفي ذم القاعدين عنه وكونه من شأن المنافقين دون المؤمنين الصادقين، قوى رغبة المؤمنين فيه حتى كانوا إذا أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إرسال سرية للقاء بعض المشركين وإن قلوا انتدب لها جميع المؤمنين، ويتسابقون إلى الخروج فيها، ويدعون الرسول صلى الله عليه وسلم وحده أو مع نفر قليل كما ورد، وإنما يجب هذا في النفير العام إذا وجد سببه بقدر الحاجة لا في كل استنفار لمقاومة الكفار، على أن النفر العام قد يتعذر أو تكثير فيه الأعذار، وقيل: إنه لم يكن واجبا على عمومه إلا في عهده صلى الله عليه وسلم أو على الأنصار بمقتضى مبايعتهم له (راجع ج 10).
{ومَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} أي ما كان شأن المؤمنين ولا مما يجب عليهم ويطلب منهم، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد، فإن هذه السرايا من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للخروج.
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} لولا حرف تحضيض وحث على ما تدخل عليه، أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة.
{مِّنْهُمْ} كالقبيلة أو أهل المدينة.
{طَآئِفَةٌ} أي جماعة بقدر الحاجة.
{لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} أي ليتأتى لهم -أي المؤمنين في جملتهم- التفقه في الدين، بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات، وما يجري عليه صلى الله عليه وسلم من بيانها بالقول والعمل، فيعرف الحكم مع حكمته، ويفصل العلم المجمل بالعمل به.
{ولِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} الذين نفروا للقاء العدو.
{إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} أي يجعلوا جل همهم من الفقاهة بأنفسهم إرشاد هؤلاء وتعليمهم ما عملوا، وإنذارهم عاقبة الجهل، وترك العمل بالعلم.
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي رجاء أن يخافوا الله ويحذوا عاقبة عصيانه. ويكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته، وإقامة حجته، وتعميم هدايته، فهذا ما يجب أن يكون غاية العلم والتفقه في الدين والغرض منه، لا الرياسة والعلو بالمناصب، والتكبر على الناس وطلب المنافع الشخصية منهم.
والآية تدل على وجوب تعميم العلم والتفقه في الدين، والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداة لغيرهم، وإن المتخصصين لهذا التفقه بهذه النية لا يقلون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله، والدفاع عن الملة والأمة؛ بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضا عينيا، والدلائل على هذا كثيرة...
وقد تعارضت الروايات المأثورة في هذه الآية، فاختلفت الأقوال في تفسيرها، والحق فيها ما قلنا وعليه الجمهور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين؛ والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب؛ قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة. مما اقتضى بيان حدود النفير العام -في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية- فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد، وقد بلغ من عددهم -بعد تخلف المتخلفين في تبوك- نحواً من ثلاثين ألفاً، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين. وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة؛ وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية.. ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)..
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم.. والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية: أن المؤمنين لا ينفرون كافة. ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة -على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون- لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة. والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه -وله أصل من تأويل ابن عباس- رضي اللّه عنهما -ومن تفسير الحسن البصري، واختيار ابن جرير، وقول لابن كثير- أن هذا الدين منهج حركي، لا يفقهه إلا من يتحرك به؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به. أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا؛ ولا فقهوا فقههم؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه. ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين! ولكن هذا وهم، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين.. إن الحركة هي قوام هذا الدين؛ ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس، وتغليبه على الجاهلية، بالحركة العملية. والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب -دراسة باردة!- وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق!
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية.. فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه. وليس العكس هو الصحيح.. وجدت الدينونة للّه وحده، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده.. والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها؛ والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه.. ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة -إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة- وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده، واستيحاء شريعته وحدها، تحقيقاً لهذه الدينونة، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته.. وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية، وبدأ نمو الفقه الإسلامي.. الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه..
فأما اليوم.. "فماذا"..؟ أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده؛ والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد؛ والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته؛ والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد؟ لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده "أو" تطويره! "في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش. ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده؛ وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو" تجديده "أو تطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته. كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة!.. إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع.
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم؛ والمجتمع المسلم أنشأ" الفقه الإسلامي".. ولا بد من هذا الترتيب.. لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشئ من الدينونة لله وحده، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها. ثم بعد ذلك -لا قبله- ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ، وليس "جاهزا" معدا من قبل! ذلك أن كل حكم فقهي هو -بطبيعته- تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة، ذات حجم معين، وشكل معين، وملابسات معينة. وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة، داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها؛ ومن ثم "يفصل" لها حكم مباشر على "قدها".. فأما تلك الأحكام" الجاهزة "في بطون الكتب؛ فقد" فصلت "من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا.
لم تكن وقتها" جاهزة "باردة! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية؛ وعلينا اليوم أن" نفصل "مثلها للحالات الجديدة.. ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه؛ وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها. وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر، اللائق بجدية هذا الدين. وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر؛ ويمكن من التفقه في الدين حقا.. وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين؛ وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار" تجديد الفقه الإسلامي "أو" تطويره "!.. هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضاً على الجهاد وتنديداً على المقصرين في شأنه، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين للغزو. وإذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها، من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان...
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذْ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب} [التوبة: 120] الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
والتفقه: تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه (بكسر القاف) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ. فالفقه أخص من العلم، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله: {لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه. ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه، أي الفهم في الدين. وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح « مَن يرد الله به خيراً يفَقِّهْه في الدِين»، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم.
واستقبال وحي الله يقتضي وجود سامعين ليبلغوه، فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد الله أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد، فبيّن أن الإسلام منزّل من الله على رسوله ليبلغه للناس؛ لأن دين الله يحتاج إلى أمرين: أمر يحمله الناس، وأمر يثبت صدقه في الناس، وحين يرى الناس إنسانا يضحي بنفسه ويدخل معركة، وآخر يضحي بماله، حينئذ يعلم الناس أن من يفعل ذلك لا بد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص. لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هو دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله ما يوحي به الله. إذن: فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، ومن السامعين لرسول الله ثانيا؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يعلمون؟ إذن: فلا بد أن يحافظ المسلمون على أمرين: أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام بما استقبلوه إلى البلد. فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمرا واحدا، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول الله. فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض فقال: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
وساعة تسمع "كان "منفية فاعلم أنها جحود لهذه المسألة، أي: ما كان يصح أن ينفر المسلمون كافة، أي: جميعا، بدون أن يبقى منهم أحد ...
ونجد كلمة {طائفة} وهي تعني "بعض الكثرة "
وما دام الحق سبحانه قد قال: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} فهذا يعني أنه سبحانه قسمهم إلى طائفتين، إحداهما تنفر، والأخرى تبقى لتتفقه في الدين. إذن: فكأن أسلوب القرآن أسلوب أدائي كل ينفر لمهمته. {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يبين طائفة منهم تكون قتالية والأخرى إعلامية مهمتها {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}...
وقد سماها الحق" نفرة"؛ لأنها جهاد البحث في المنهج وتعلمه، وهي نفرة النفرة؛ لأن النفرة للجهاد بالقتال تتطلب فيهما الحيثيات الدفاع عن المنهج المنزّل من الله.
والفقه في اللغة: هو الفهم، ويقال عن أي أمر تفهمه: فقهت الأمر الفلاني. فإن فهمت الهندسة فهذا فقه، وإن فهمت في العلوم فهذا فقه، ولكن المعنى الذي غلب هو الفقه لأحكام الله؛ لأن هذا الأمر هو أهم لأمور الحياة، فالفقيه في الدين هو من يبين للناس حدود المنهج ب" افعل "و" لا تفعل".
إذن: الفقه مطلقا هو الفهم، لكنه أصبح مصطلحا يعني فهم أحكام الله لأنه هو الذي يحدد الصواب والخطأ؛ ولا يقال: "الفقيه" إلا لمن فقه. وهناك فرق بين فقه وفقه. فقه في دين الله، أي: أصبح الفقه عنده ملكة، وساعة تسأله في أي موضوع لا يتردد، بل يجيب؛ لأن الفقه صار ملكة عنده، والملكة: الصفة التي ترسخ في النفس من مزاولة أي عمل؛ فيسهل أداء هذا العمل. وكذلك الفقه. وهكذا نعرف أن معنى فقه: "فهم شيئا" أما فقه فمعناها: صار الفقه عنده ملكة. وقوله الحق: {ليتفقهوا} أي ليعلموا أحكام الله، ويصير هذا العلم: من بعد ذلك ملكة عندهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} فلا بد من أن يكون هناك جماعةٌ تتخصص في الأمور الدينية لتحفظ للأمة وعي دينها من خلال المعرفة الواسعة في أمور العقيدة والشريعة، لأن ذلك هو الأساس لانطلاقة الحياة في سبيل الله على هدى الإسلام بعيداً عن كل انحراف أو طغيان في ما يمكن أن يحدث من خلال الجهل الذي يستغلّه المستغلون، فيصورون الحق بصورة الباطل وبالعكس، فيتبعهم الجاهلون، لعدم وجود من يميز بين الحق والباطل في ساحة المعرفة الحقّة، فلا يجب على هذه الجماعة أن تنفر إلى الجهاد، بل هي تعيش الجهاد ولكن في موقع آخر، وهو جهاد المعرفة بمواجهة التحديات الفكرية التي تواجه الأمة من قِبل أعداء الإسلام، لتثير فيها الشكوك والشبهات، وتبعدها عن الطريق المستقيم...بل ربما يكون الجهاد في هذا الوجه، أكثر إلحاحاً وأعظم أهميّةً من الجهاد بالسيف، لأنه هو الذي يعطي ذلك الجهاد توازنه وسلامته واستقامته على الخط الواضح السليم...
{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وتلك هي مهمّة الفقهاء الذين يحملون مسؤولية الفقه الديني ليبلِّغوه إلى الأمة، في نطاق الإمكانات التي يملكونها في الحركة، لأن القضية لا تمثِّل حالةً ذاتيّة تمنحهم الحرية في العطاء وعدمه، بل هي حالةٌ عامةٌ، لأنهم يحملون في فكرهم فكر الأمّة وثقافتها ودينها، فلا يجوز لهم أن يمنعوها منه، أو يحجبوه عنها، بل ربما يستوحي الإنسان من الآية، أن المسألة لا تقتصر على الجواب عند السؤال، بل تتسع وتتسع ليتسلموا زمام المبادرة في الإبلاغ والإنذار، لأن ذلك هو الذي يفتح آفاقها على الجوانب الخفيّة للمعرفة الدينية، وهو الذي يوحي إليها بعلامات الاستفهام في التفاصيل، باعتبار أن الجهل قد يؤدي إلى الغفلة التي لا يشعر الإنسان معها بالحاجة إلى السؤال. وهذا هو الردّ على الذين يصرفون شطراً كبيراً من أعمارهم في التفقّه في الدين، حتى إذا تمّ لهم النضج العلمي والفكري، جلسوا في بيوتهم وابتعدوا عن المجتمع متعلّلين بأنهم لا يرون الانفتاح على الناس بالتعليم على أساس المبادرة واجباً عليهم، بل يرون الأمر متوقفاً على السؤال، فيجب عليهم الجواب للرّد على السائل، ولا يجب عليهم تعليم من لم يسأل.