قرأ الجمهور «مرَحاً » بفتح الراء مصدر من مرَح يمرَح إذا تسبب مسروراً بدنياه مقبلاً على راحته ، فهذا هو المرح ، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه ، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك ، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولاً ، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فَقَصْرُكَ نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق ، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم .
قال القاضي أبو محمد : وإقبال الناس على الصيد ونحوه تنزهاً دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية ، وأما الرجل يستريح في اليوم النادر أو الساعة من يومه يجم بها نفسه في التفرج والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة ، فليس ذلك بداخل في هذه الآية ، وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب «مرِحاً » بكسر الراء على بناء اسم الفاعل ، وهذا المعنى يترتب على هذه القراءة ، ولكن يحسن معها معنى آخر ذكره الطبري مع القراءة الأولى وهو بهذه القراءة أليق ، وهو أن قوله { لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً } أراد به أنك أيها المرح المختال الفخور لا تخرق الأرض ولا تطاول الجبال بفخرك وكبرك ، وذهب بالألفاظ إلى هذا المعنى ، ويحسن ذلك مع القراءة بكسر الراء من المرح ، لأن الإنسان نهي حينئذ عن التخلق بالمرح في كل أوقاته ، إذ المشي في الأرض لا يفارقه ، فلم ينه إلا عن يكون مرحاً ، وعلى القراءة الأخرى إنما نهي من ليس بمرح عن أن يمشي في بعض أوقاته مرحاً فيترتب في «المرِح » بكسر الراء أن يؤخذ بمعنى المتكبر المختال ، وخرق الأرض قطعها ، والخرق الواسع من الأرض ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
وخرق تجاوزت مجهوله . . . بوجناء خرق تشكى الكلالا{[7575]}
ويقال لثقب الأرض ، وليس هذا المعنى في الآية ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
وقاتم الأعماق خاوي المخترق{[7576]} . . . وقرأ الجراح الأعرابي «تخرُق » بضم الراء ، وقال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تمش في الأرض مرحا}، يعني: بالعظمة، والخيلاء، والكبرياء،
{إنك لن تخرق الأرض} إذا مشيت بالخيلاء والكبرياء،
{ولن تبلغ} رأسك، {الجبال طولا}، إذا تكبرت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تمش في الأرض مختالاً مستكبرا. "إنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ "يقول: إنك لن تقطع الأرض باختيالك... يعني بالمخترق: المقطع. "وَلَنْ تَبلُغَ الجِبالَ طُولاً" بفخرك وكبرك. وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء، وتقدم منه إليهم فيه معرّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تمش في الأرض مرحا} ليس النهي عن المشي نفسه، إنما النهي للمشي المرح. ثم النهي عن الشيء، يوجب ضده...
وقال بعضهم: {مرحا} بطرا وأشرا، وقيل: متعظما متكبرا بالخيلاء...
{إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} قال بعضهم: ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها، ويبلغ الجبال، وهم الملائكة، ثم لم يتكبروا على الله، ولا تعظموا عليه ولا على رسوله، بل خضعوا له، فمن لم يبلغ في القوة والشدة ذلك أحرى أن يخضع له، ويتواضع، ولا يتكبر... ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدين وقهر رسول الله صلى الله ليه وسلم فيقول: كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا لم يتهيأ لكم إطفاء دين الله وقهر رسوله، وهو ما ذكر: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر: 56)... وكيف تتكبر، وتمرح على غيرك، وهو مثلك في القوة والشدة... وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج لم يتكبر على مثله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الخُيَلاءُ والتجبُّر، والمدح والتكّبُر -كل ذلك نتائجُ الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقِّ؛ فإنَّ اللَّهَ إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له بذلك وَرَدَ الخبر. فأمَّا في حال حضورِ القلبِ واستيلاءِ الذكر وسلطان الشهود. فالقلبُ مُطْرِقٌ، وحُكْمُ الهيبة غالِبٌ. ونعتُ المدحِ وصفةُ الزَّهْوِ وأسبابُ التفرقة- كل ذلك ساقط... والناسُ- في الخلاص من صفة التكبر- أصنافٌ: فأصحابُ الاعتبار إِذْ عرفوا أنهم مخلوقونَ من نطفة أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم.. تعلو هِمَمُهم عن التضييق والتدنيق، ويَبْعُدُ عن قلوبهم قيامُ أَخْطارٍ للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبُّر...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{إنك لن تخرق الأرض} لن تثقبها حتى تبلغ آخرها ولا تطاول الجبال. والمعنى إن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال، يريد إنه ليس ينبغي للعاجز أن يبذخ ويستكبر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَن تَخْرِقَ الأرض} لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطأتك... {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} بتطاولك. وهو تهكم بالمختال...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قرأ الجمهور «مرَحاً» بفتح الراء مصدر من مرَح يمرَح إذا تسبب مسروراً بدنياه مقبلاً على راحته، فهذا هو المرح، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولاً، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فَقَصْرُكَ نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم...
الأول: أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل: إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال، والمراد التنبيه على كونه ضعيفا عاجزا فلا يليق به التكبر.
الثاني: المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها. وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثير، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له: تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الكبر والأنفة أعظم موقف عن العلم الداعي إلى كل خير، ومرض بمرض الجهل الحامل على كل شر، قال تعالى: {ولا تمش} أي مشياً ما، وحقق المعنى بقوله تعالى: {في الأرض} أي جنسها {مرحاً} وهو شدة الفرح التي يلزمها الخيلاء، لأن ذلك من رعونات النفس بطيش الهوى وداعي الشهوة وما طبعت عليه من النقائص، فإنه لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد ولن يكون ذلك لمخلوق، ولذلك علله بقوله تعالى: {إنك لن تخرق} أي ولو بأدنى الوجوه {الأرض} أي تقطعها سيراً من مكانك إلى طرفها {ولن تبلغ} أي بوجه من الوجوه {الجبال طولاً} أي طول الجبال كلها بالسير فيها، فإذا كنت تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض مع الجد والاجتهاد وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر؟ وذلك من فعل من بلغ جميع ما أمل.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وفيه تعريضٌ بما عليه المختالُ من رفع رأسه ومشيِه على صدور قدميه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان، أو قوة أو جمال. لو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا...
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء، أدب مع الله، وأدب مع الناس. أدب نفسي وأدب اجتماعي. وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات. يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نهي عن خصلة من خصال الجاهلية، وهي خصلة الكبرياء، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها... والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لا يناسب ما بَعده...
والمَرح بفتح الميم وفتح الراء: شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق... و {مرحاً} مصدر وقع حالاً من ضمير {تمش}. ومجيء المصدر حالاً كمجيئه صفة يرد منه المبالغة في الاتصاف. وتأويله باسم الفاعل، أي لا تمش مارحاً، أي مشية المارح، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختُر. ويجوز أن يكون {مرحاً} مفعولاً مطلقاً مبيناً لفعل {تمش} لأن للمشي أنواعاً، منها: ما يدلّ على أن صاحبه ذو مَرح. فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي. والمشي مرحاً أن يكون في المشي شدة وطْء على الأرض وتطاول في بَدن الماشي... والخَرْق: قطع الشيء والفصل بين الأديم، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب. والكلام مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطئ الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال... والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل. فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بإظهار الشفوف عليهم وإرهابهم بقوته... وإظهار اسم (الأرض) في قوله: {لن تخرق الأرض} دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلاً عن غيره جارياً مجرى المثل...
{ولا تمش في الأرض مرحاً}: أي: فخراً واختيالاً، أو بطراً أو تعالياً؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء ما افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أن جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هبة له، وليست أصيلة فيه. فالتواضع والأدب أليق بك، والتكبر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى، وكون الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا. ومن أحب أن يرى مساواة الخلق أمام الخالق سبحانه، فلينظر إلى العبادات، ففيها استطراق العبودية في الناس.