المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

190- ومن تقوى الله تحمل المشاق في طاعته ، وأشد المشاق على النفس هو قتال أعداء الله{[15]} ولكن إذا اعتدى عليكم فقاتلوا المعتدين ، وقد أذن لكم برد اعتداءاتهم ، ولكن لا تعتدوا بمبادأتهم أو بقتل من لا يقاتل ولا رأى له في القتال فإن الله لا يحب المعتدين .


[15]:أتهم الإسلام بأنه قام بحد السيف وهذه الآية واحدة من الآيات القرآنية الكثيرة التي تدحض هذا الزعم، وهي تتضمن أمرا صريحا للمسلمين بأن لا يبدأوا بقتال حتى يقاتلهم الغير، وسلوك هذا السبيل اعتداء مكروه من الله لأنه لا يجب المعتدين، وهذه الآية ثاني آية نزل بها الوحي من آيات القتال: الأولى آية 39من سورة الحج وهي {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير}. وموجز الدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى رسم لرسوله طريق الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن. ثم أمره أن يدعو الناس إلى الإيمان عن طريق العقل بالنظر إلى بديع صنعه في خلقه، وظل الرسول يدعو بالحسنى ثلاثة عشر عاما قضاها في مكة لم يشرع فيها سيفا ولم يرق دما ولم يرد على ما ألحقه الكفار به وبأتباعه من أذى بل أمرهم بالهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم، ثم نابذت قريش بني هاشم وبني عبد المطلب وهم خاصة أهل رسول الله وأنذروهم بالخروج من مكة أو يسلمون محمدا إليهم ليقتلوه، فلما أبوا قاموا بأهم أعمال الحرب إذ حاصروهم في شعب بني هاشم بمكة وكتبوا بذلك معاهدة علقوها في جوف الكعبة تعاهدوا فيها بألا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم. وامتد الحصار ثلاث سنوات اشتد فيها الكرب على المسلمين حتى أكلوا الحشائش الجافة وكادوا يهلكون جوعا. وهناك أذن الرسول لهم لأن يتسللوا ليلا فيهاجروا فرادى إلى الحبشة مرة ثانية، ولما سمعوا أن الرسول اعتزم الهجرة إلى المدينة تآمروا على قتله بواسطة جماعة تمثل مختلف القبائل بحيث يتفرق دمه في القبائل. ولما أفلت من المؤامرة تتبعوه فنصره الله وأعمى أعينهم عن مكان الغار فازدادوا حنقا واشتدوا بالأذى على اتباعه فتبعوه أرسالا إلى المدينة تاركين خلفهم أموالهم وديارهم وذراريهم، فلما استقر المسلمون بالمدينة كانت حالة الحرب التي أعلنتها قريش منذ الحصار قائمة وظل كل فريق بعد الهجرة يترصد طريق الآخر ويستمع أخباره. فترصد المسلمون قافلة أبى سفيان فأصرت قريش رغم عدم المساس بالقافلة على أن تخرج بقضها وقضيضها لتقضي على الإسلام والمسلمين بالمدينة. فكان لابد للمسلمين من رد الاعتداء. وهنالك أذن الله لهم بالقتال فنزلت أولى القتال {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} الآيات 39، 40، 41 من سورة الحجة وهي صريحة في أن الترخيص بالقتال جاء معللا بأن الكفار يقاتلونهم ظلما وبغيا. ثم وصف الله المسلمين بأنهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. وقبل أن يبرح المشركون ميدان القتال بعد هزيمتهم ببدر كبيرهم (الحرب يا محمد سجال وموعدنا العام القابل في أحد) فكان ذلك استمرارا لحالة الحرب المعلنة من جانب قريش ودفاعا من جانب المسلمين. وجاءوا بجيش جرار إلى أحد وهي على بعد ستة أميال من المدينة وبهذا كانت غزوة أحد اعتداء من قريش ودفاعا من جانب المسلمين، وكذلك الشأن في موقعة الخندق حيث أشرف جيش الكفار وبقية الأحزاب على مساكن المدينة فاضطر المسلمون إلى حفر خندق حولها واستمرت الحروب بين طرفيها اعتداء من قريش ودفاعا من المسلمين. ولما استتب الأمر للإسلام في الجزيرة العربية أرسل الرسول ورسله إلى الملوك والأمراء في أنحاء المعمورة يدعوهم إلى الإسلام فمزق كسرى كتاب الرسول وأرسل من يأتي برأس محمد، وبذلك أعلنت الفرس الحرب ضد المسلمين فخاضوها حربا دفاعية فتح الله بها ملك كسرى وأتباعه من ملوك العرب "المناذرة". أما شرحبيل بن عمرو الغساني أمير الغساسنة في الشام الذين كانوا يتبعون دولة الروم فقد قتل حامل كتاب رسول الله وهو في طريقه إلى هرقل، ثم قتل المسلمين الذين أسلمون من رعاياه وعبأ جيشا لقتال دولة الإسلام في الجزيرة العربية فدافع المسلمون عن أنفسهم وأورثهم الله ملك دولة الرم الشرقية، وهكذا لم يشرع الإسلام سيفا إلا ردا على اعتداء أو تأمينا للدعوة الإسلامية، وصدق الله إذ يقول: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} سور البقرة آية 256.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم } . كان في ابتداء الإسلام ، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ، ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتله منهم بهذه الآية ، وقال الربيع بن أنس : هذه أول آية نزلت في القتال ، ثم أمره بقتال المشركين كافة ، قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله ( فاقتلوا المشركين ) فصارت هذه الآية منسوخة بها ، وقيل : نسخ بقوله ( اقتلوا المشركين ) قريب من سبعين آية .

قوله تعالى : { ولا تعتدوا } . أي لا تبدؤوهم بالقتال وقيل : هذه الآية محكمة غير منسوخة ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المقاتلين ومعنى قوله : ( ولا تعتدوا ) أي لا تقتلوا النساء ، والصبيان والشيخ الكبير ، والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام هذا قول ابن عباس ومجاهد .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو بكر بن سهل القهستاني المعروف بأبي تراب ، أخبرنا محمد بن عيسى الطوسي ، أنا يحيى بن بكير ، أنا الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن شعبة عن علقمة ابن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً قال : اغزوا بسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغلوا ولا تعتدوا ولا تقتلوا امرأة ، ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة ، فساروا حتى نزلوا الحديبية ، فصدهم المشركون عن البيت الحرام ، فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكة العام القابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ، فلما كان العام القابل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي قريش بما قالوا ، وأن يصدوهم عن البيت الحرام ، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام ، وفي الحرم فأنزل الله تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله ) يعني محرمين ( الذين يقاتلونكم ) يعني قريشاً ( ولا تعتدوا ) فتبدؤوا بالقتال في الحرم محرمين .

قوله تعالى : { إن الله لا يحب المعتدين } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

جملة { وقاتلوا } معطوفة على جملة { وليس البر } [ البقرة : 189 ] الخ ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لعُمرة القضاء سنة ست وتوقعُ المسلمين غدر المشركين بالعهد ، وهو قتال متوقع لقَصْد الدفاع لقوله : { الذين يقاتلونكم } ، وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } في [ سورة الحج : 39 ] ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية .

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس الرسولَ على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان .

ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شأن الخروج إلى الحديبية ينبىء بأن المشركين كانوا قد أضمروا ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤ المسلمين لقتالهم ، فقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذٍ ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألاّ يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك .

وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخاً ، وهي أيضاً ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخاً ولا يرى نسخ المفهوم ، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادىء المشركون فيه المسلمين بالقتال ، لأن السبب لا يخصص .

وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتِلوا الشيوخ والنساء والصبيان ، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين ، وقيل : المراد الكفار كلهم ، فإنهم بصدد أن يقاتلوا . ذكره في « الكشاف » ، أي ففعل { يقاتلونكم } مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] .

والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين ، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين ؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يَقْتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة ، فقوله { وقاتلوا } بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون .

وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعلَيْها فالمقصود أنه هو المبتدىء بالفعل ، ولهذا قال تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال : { الذين يقاتلونكم } فجعل فاعله ضمير عدوهم ، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم .

والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا ؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها ، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة ، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين ، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] تخصيصاً أو تقييداً ببعض البقاع .

فقوله : { ولا تعتدوا أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله : إن الله لا يحب المعتدين } تحذير من الاعتداء ؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين ، وقيل : أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } آنفاً .