17- أفَمَنْ كان يسير في حياته على بصيرة وهداية من ربه ، ويطلب الحق مخلصاً ، معه شاهد بالصدق من الله وهو القرآن ، وشاهد من قبله وهو كتاب موسى الذي أنزله الله قدوة يتبع ما جاء به ، ورحمة لمتبعيه ، كمن يسير في حياته على ضلال وعماية ، فلا يهتم إلا بمتاع الدنيا وزينتها ؟ ! أولئك الأولون هم الذين أنار الله بصائرهم ، يؤمنون بالنبي والكتاب الذي أنزل عليه . ومن يكفر به ممن تألبوا على الحق وتحزّبوا ضده ، فالنار موعده يوم القيامة . فلا تكن - أيها النبي - في شك من هذا القرآن ، إنه الحق النازل من عند ربك ، لا يأتيه الباطل ، ولكن أكثر الناس تضلّهم الشهوات ، فلا يؤمنون بما يجب الإيمان به .
قوله تعالى : { أفمن كان على بينة } ، بيان ، { من ربه } ، قيل : في الآية حذف ، ومعناه : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ، أو من كان على بينة من ربه كمن هو في الضلالة والجهالة ، والمراد بالذي هو على بينة من ربه : النبي صلى الله عليه وسلم . { ويتلوه شاهد منه } ، أي : يتبعه من يشهد به بصدقه . واختلفوا في هذا الشاهد : فقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأكثر أهل التفسير : إنه جبريل عليه السلام . وقال الحسن وقتادة : هو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جريج عن مجاهد قال : هو ملك يحفظه ويسدده . وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن ونظمه وإعجازه . وقيل : هو على بن أبي طالب رضي الله عنه . قال علي : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية من القرآن ، فقال له رجل : وأنت أي شيء نزل فيك ؟ قال : { ويتلوه شاهد منه } . وقيل : شاهد منه هو الإنجيل . { ومن قبله } ، أي : ومن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قبل نزول القرآن . { كتاب موسى } ، أي : كان كتاب موسى ، { إماماً ورحمةً } ، لمن اتبعها ، يعني : التوراة ، وهي مصدقة للقرآن ، وشاهد للنبي صلى الله عليه وسلم ، { أولئك يؤمنون به } ، يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب . { ومن يكفر به } ، أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : بالقرآن ، { من الأحزاب } ، من الكفار من أهل الملل كلها ، { فالنار موعده } .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا يهودي ، ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .
قوله تعالى : { فلا تك في مرية منه } ، أي : في شك منه ، { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون* } .
بطل على الفعل { أفمن كان على بيّنة من ربه } برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة ، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا ، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص . وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب . { ويتلوه } ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل . { شاهدٌ منه } شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن . { ومن قبله } ومن قبل القرآن . { كتاب موسى } يعني التوراة فإنها أيضا تتلوه في التصديق ، أو البينة هو القرآن { ويتلوه } من التلاوة والشاهد جبريل ، أو لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه . والضمير في { يتلوه } إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى { ومن قبله كتاب موسى } جملة مبتدأة . وقرئ { كتاب } بالنصب عطفا على الضمير في { يتلوه } أي يتلو القرآن شاهد ممن أن على بينة دالة على أنه حق كقوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ويقرأ من قبل القرآن التوراة . { إماماً } كتابا مؤتما به في الدين . { ورحمة } على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين . { أولئك } إشارة إلى من كان على بينة . { يؤمنون به } بالقرآن . { ومن يكفر به من الأحزاب } من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم . { فالنار موعده } يردها لا محالة . { فلا تك في مرية منه } من الموعد ، أو القرآن وقرئ " مُريةٍ " بالضم وهما الشك . { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لقلة نظرهم واختلال فكرهم .
اختلف المتأولون في المراد بقوله { أفمن } فقالت فرقة : المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة المراد محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس : المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جميعاً .
وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة » فقالت فرقة : المراد بذلك القرآن ، أي على جلية بسبب القرآن ، وقالت فرقة : المراد محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في «البيّنة » للمبالغة كهاء علامة ونسابة .
وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد » فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة : هو جبريل .
وقال الحسين بن علي : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد أيضاً : هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل عليه السلام{[6281]} .
وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة : هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وروي ذلك عنه ، وقالت فرقة : هو الإنجيل ، وقالت فرقة : هو القرآن ، وقالت فرقة : هو إعجاز القرآن .
قال القاضي أبو محمد : ويتصرف قوله { يتلوه } على معنيين : بمعنى يقرأ ، وبمعنى يتبعه ، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد » ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل .
فإذا قلنا إن قوله : «أفمن » يراد به المؤمنون : فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة » محمد صلى الله عليه وسلم صح أن يترتب «الشاهد » الإنجيل ويكون { يتلوه } بمعنى يقرأه ، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة فيه وأن يترتب الملك ويكون الضمير في { منه } عائداً على البيّنة التي قدرناها محمداً صلى الله عليه وسلم وأن يترتب القرآن ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في { منه } على الرب .
وإن جعلنا «البيّنة » القرآن على أن { أفمن } هم المؤمنون - صح أن يترتب «الشاهد » محمد صلى الله عليه وسلم ، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك ، ويكون { يتلوه } بمعنى يقرأه : وصح أن يترتب «الشاهد » الإعجاز ، ويكون { يتلوه } بمعنى يتبعه ، ويعود الضمير في { منه } على القرآن .
وإذا جعلنا { أفمن } للنبي صلى الله عليه وسلم ، كانت «البيّنة » القرآن ، وترتب «الشاهد » لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وترتب الإنجيل ، وترتب جبريل والملك ، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وترتب الإعجاز . ويتأول { يتلوه } بحسب «الشاهد » كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله { أولئك } فإنا إذا جعلنا قوله : { أفمن } للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى :
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }{[6282]} وهو شبه ليس بالقوي .
والصح في الآية أن يكون قوله : { أفمن } للمؤمنين ، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد »{[6283]} بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلاً في قوله : { أفمن } . وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله .
وقرأ جمهور الناس «كتابُ » بالرفع ؛ وقرأ الكلبي وغيره «كتاباً » بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد » الإنجيل{[6284]} معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم - بحسب الخلاف - و «الإنجيل » و «من قبل » كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم .
ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد » القرآن ، وتطرد الألفاظ بعد ذلك ، ومن نصب «كتاباً » قدر «الشاهد » جبريل عليه السلام ، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى{[6285]} .
قال القاضي أبو محمد : وهنا اعتراض يقال : إذ قال { من قبله كتاب موسى } أو «كتابَ » بالنصب على القراءتين : والضمير في { قبله } عائد على القرآن - فلم لم يذكر الإنجيل - وهو قبله - بينه وبين كتاب موسى ؟ فالانفصال : أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله ، والإنجيل ليس كذلك : فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى : وهذا يجري مع قول الجن : { إنا سمعنا كتاب أنزل من بعد موسى }{[6286]} ومع قول النجاشي : إن هذا ، والذي جاء به موسى ، لخرج من مشكاة واحدة ؛ فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة ، ونصب { إماماً } على الحال من { كتاب موسى } ، { والأحزاب } ها هنا يراد به جميع الأمم ، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار »{[6287]} فقلت{[6288]} : أين مصداق هذا من كتاب الله ؟ حتى وجدته في هذه الآية ، وكنت إذا سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله .
قال القاضي أبو محمد : والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون { أفمن } للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم ، إذ قد تقدم ذكر { الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } [ هود : 16 ] ، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم ، و «البيّنة » القرآن وما تضمن . و «الشاهد » محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله : { أفمن } أو الإنجيل والضمير في { يتلوه } للبيّنة ، وفي { منه } للرب تعالى ، والضمير في { قبله } للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفاً محتمل .
وقرأ الجمهور «في مِرية » بكسر الميم ، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مُرية » بضم الميم ، وهما لغتان في الشك ، والضمير في { منه } عائد على كون الكفرة موعدهم النار ، وسائر الآية بيّن .
وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه ، ونحو هذا ، في معنى الحذف ، قوله عز وجل : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }{[6289]} ، لكان هذا القرآن ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ] .
فأقسم لو شيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا{[6290]}