قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } ، أي : أن يبين لكم ، كقوله تعالى : { وأمرت لأعدل بينكم } [ الشورى :15 ] أي : أن أعدل ، وقوله : { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [ الأنعام :71 ] . وقال في موضع آخر { وأمرت أن أسلم } [ غافر :66 ] . ومعنى الآية : ( يريد الله أن يبين لكم ) ، أي : يوضح لكم شرائع دينكم ، ومصالح أموركم ، قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم منه ، قال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم .
قوله تعالى : { ويهديكم } ، ويرشدكم .
قوله تعالى : { سنن } ، شرائع .
قوله تعالى : { الذين من قبلكم } ، في تحريم الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، فإنها كانت محرمة على من قبلكم ، وقيل : ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام . قوله تعالى : { ويتوب عليكم } ، ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ، وقيل : يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته ، وقيل : يوفقكم للتوبة .
قوله تعالى : { والله عليم } بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم .
يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون - ما{[7153]} أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : طرائقهم الحميدة واتباع{[7154]} شرائعه التي يحبها ويرضاها { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي من الإثم{[7155]} والمحارم ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله .
اختلف النحاة في اللام من قوله : { ليبين } فمذهب سيبويه رحمه الله : أن التقدير «لأن يبين » والمفعول مضمر ، تقديره : يريد الله هذا ، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن » لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون : اللام نفسها بمنزلة «أن » وهو ضعيف ، ونظير هذه اللام قول الشاعر : [ الطويل ]
أريدُ لأنسى ذكرَها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[3966]}
وقال بعض النحاة : التقدير إرادتي لأنسى . { ويهديكم } بمعنى : يرشدكم ، لا يتوجه غير ذلك ، بقرينة السنن ، وال { سنن } : الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا ، وليس ذلك كذلك ، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين ، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً ، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدينا سننهم في ذلك ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم ، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة{[3967]} .
والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له ، وحسن { عليم } هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و { حكيم } أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان .
تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا ، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائدَ ألفوها ، وصرفِهم عن شهوات استباحوها ، كما أشار إليه قوله بعد هذا { ويريد الذين يتبعون الشهوات } [ النساء : 27 ] ، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية ، فأعقب ذلك ببيان أنّ في ذلك بيانا وهُدى . حتّى لا تكون شريعة هذه الأمّة دون شرائع الأمم التي قبلها ، بل تفوقُها في انتظام أحوالها ، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرّمات . فقوله : { يريد الله ليبين لكم } تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلّوا كما ضلّ من قبلهم ، ففيه أنّ هذه الشريعة أهدى ممّا قبلها .
وقوله : { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } بَيان لقصدِ إلحاق هذه الأمّة بمزايا الأمم التي قبلها .
والإرادة : القصد والعزم على العمل ، وتطلق على الصفة الإلهيّة التي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه . والامتنانُ بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى ، وإنّا عُبّر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدّد البيان واستمراره ، فإنّ هذه التشريعات دائمة مستمرّة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم ، وللدلالة على أنّ الله يُبقي بعدها بياناً متعاقباً .
وقوله : { يريد الله ليبين لكم } انتصب فعل ( يبيّنَ ) بأنْ المصدرية محذوفة ، والمصدر المنسبك مفعول ( يريد ) ، أي يريد الله البيانَ لكم والهُدى والتوبةَ ، فكانَ أصل الاستعمال ذكر ( أنْ ) المصدرية ، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها ، وقد شاعت زيادة هذه اللاّم بعد مادّة الإرادة وبعد مادّة الأمر معاقِبة لأن المصدرية . تقول ، أريد أن تفعل وأريد لِتَفْعَل ، وقال تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ التوبة : 32 ] وقال : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] وقال : { وأمرت أن أسلم لرب العالمين } [ غافر : 66 ] وقال : { وأمرت لأعدل بينكم } [ الشورى : 15 ] فإذا جاؤوا باللاّم أشبهت لام التعليل فقدّروا ( أنْ ) بعد اللام المؤكّدة كما قد روها بعد لاَم كي لأنّها أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال الفرّاء : اللام نائبة عن أن المصدرية . وإلى هذه الطريقة مال صاحب « الكشاف » .
وقال سيبويه : هي لام التعليل أي لام كي ، وأنّ ما بعدها علّة ، ومفعولَ الفعل الذي قبلها محذوف يقدّر بالقرينة ، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبيّن . ومنهم من قرّر قول سيبويه بأنّ المفعول المحذوف دلّ عليه التعليل المذكور فيقدّر : يريد الله البيانَ ليبيّن ، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلّة نفس المعلّل .
وقال الخليل ، وسيبويه في رواية عنه : اللاّم ظَرف مستقرّ هو خبر عن الفعل السابق ، وذلك الفعلُ مقدّر بالمصدر دون سابك على حدّ « تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه » أي إرادة الله كائنة للبيان ، ولعلّ الكلام عندهم محمول على المبالغة كأنّ إرادة الله انحصرت في ذلك .
وقالت طائفة قليلة : هذه اللاّم للتقوية على خلاف الأصل ، لأنّ لام التقوية إنّما يجاء بها إذا ضعف العامل بالفرعية أو بالتأخّر . وأحسن الوجوه قول سيبويه ، بدليل دخول اللام على كَي في قول قيس بن سعد بن عَبادة الخزرجي .
أردتُ لكيمَا يَعْلَمَ الناسُ أنّها *** سَراويلُ قَيس والوفود شهود
وعن النحّاس أنّ بعض القرّاء سمّى هذه اللاّم لام ( أنْ ) .
ومعنى { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } الهداية إلى أصول ما صلح به حال الأمم التي سبقتنا ، من كليات الشرائع ، ومقاصدها . قال الفخر : « فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلاّ أنّها متّفقة في باب المصالح » . قلت : فهو كقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } الآية .
وقوله : { ويتوب عليكم } أي يتقبّل توبتكم ، إذْ آمنتم ونبذتم ما كان عليه أهل الشرك من نكاح أزواج الآباء ، ونكاح أمّهات نسائكم ، ونكاح الربائب ، والجمع بين الأختين .
ومعنى : { ويتوب عليكم } يقبل توبتكم الكاملة باتّباع الإسلام ، فلا تنقضوا ذلك بارتكاب الحرام . وليس معنى { ويتوب عليكم } يوفّقكم للتوبة ، فيشكل بأنّ مراد الله لا يتخلّف ، إذ ليس التوفيق للتوبة بمطّرد في جميع الناس . فالآية تحريض على التوبة بطريق الكناية لأنّ الوعد بقبولها يستلزم التحريض عليها مثل ما في الحديث : " فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له " هذا هو الوجه في تفسيرها ، وللفخر وغيره هنا تكلّفات لا داعي إليها .
وقوله : { والله عليم حكيم } مناسب للبيان والهداية والترغيب في التوبة بطريق الوعد بقبولها ، فإنّ كلّ ذلك أثر العلم والحكمة في إرشاد الأمّة وتقريبها إلى الرشد .