قوله تعالى : { أن اعمل سابغات } دروعاً كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض ، { وقدر في السرد } والسرد نسج الدروع ، يقال لصانعه : السراد والزراد ، يقول : قدر المسامير في حلق الدرع أي : لا تجعل المسامير دقاقاً فتفلت ولا غلاظاً فتكسر الحلق ، ويقال : السرد المسمار في الحلقة ، يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق ، وقدر في السرد اجعله على القصد وقدر الحاجة ، { واعملوا صالحاً } يريد : داود وآله . { إني بما تعملون بصير* }
{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ }وهي : الدروع . قال قتادة : وهو أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا ابن سَمَاعة ، حدثنا ابن ضَمْرَة{[24165]} ، عن ابن شَوْذَب قال : كان داود ، عليه السلام ، يرفع في كل يوم درعًا فيبيعها بستة آلاف درهم : ألفين له ولأهله ، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحُوّاري .
{ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } : هذا إرشاد من الله لنبيه داود ، عليه السلام ، في تعليمه صنعة الدروع .
قال مجاهد في قوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } : لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحلقة ، ولا تُغَلّظه فيفصمها ، واجعله بقدر .
وقال الحكم بن عُتيبة{[24166]} : لا تُغَلظه فيفصم ، ولا تُدِقّه فيقلَق{[24167]} . وهكذا روي عن قتادة ، وغير واحد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السرد : حَلَق{[24168]} الحديد . وقال بعضهم : يقال : درع مسرودة : إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر :{[24169]}
وَعَليهما مَسْرُودَتَان قَضَاهُما *** دَاودُ أو صنعَ السَّوابغ تُبّعُ
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود ، عليه والسلام ، {[24170]} من طريق إسحاق بن بشر - وفيه كلام - عن أبي إلياس ، عن وهب بن مُنَبه ما مضمونه : أن داود ، عليه السلام ، كان يخرج متنكرًا ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحدًا إلا أثنى عليه خيرًا في عبادته وسيرته ومعدلته ، صلوات الله وسلامه عليه . قال وهب : حتى بعث الله مَلَكًا في صورة رجل ، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره ، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته ، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال : ما هي ؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين ، يعني : بيت المال ، فعند ذلك نصب داود ، عليه السلام ، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله ، فألان له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فعمل الدرع{[24171]} ، وهو أول مَنْ عملها ، فقال الله : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } يعني : مسامير الحلق ، قال : وكان يعمل الدرع{[24172]} ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها ، فتصدق بثلثها ، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها . وقال : إن الله أعطى داود شيئًا لم يعطه غيره من حسن الصوت ، إنه كان إذا قرأ الزبور تسمع الوحش{[24173]} حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته . وكان شديد الاجتهاد ، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير ، وكأن{[24174]} قد أعطي سبعين مزمارًا في حلقه .
وقوله : { وَاعْمَلُوا صَالِحًا } أي : في الذي أعطاكم الله من النعم ، { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى علي من ذلك شيء .
وقوله تعالى : { أن اعمل } قيل إن { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[9606]} ، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، و «السابغات » الدروع الكاسيات ذوات الفضول ، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها ، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر ، وقوله تعالى : { وقدر في السرد } اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد ، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ :
«كما تابعت سرد العنان الخوارز »{[9607]}
ومنه سرد الحديث{[9608]} ، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر [ القرطبي ] : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داود أو صَنَعُ السوابغ تبع{[9609]}
بالفارسي المسرد{[9610]} .
فقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها ، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها ، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال : المعنى لا تدق المسمار فيسلسل ، ويروى فيتسلسل ، ولا تغلظه فيقصم بالقاف ، وبالفاء أيضاً رواية ، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالاً ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة ، وقوله تعالى : { واعملوا صالحاً } لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم ، ثم توعدهم تعالى بقوله : { إني بما تعملون بصير } أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أن اعمل سابغات} الدروع الطوال...
قال لداود: {وقدر في السرد}: قدر المسامير في الخلق ولا تعظم المسامير فتنقصم ولا تضفر المسامير فتسلس.
ثم قال الله عز وجل لآل داود: {واعملوا صالحا}... {إني بما تعملون بصير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ" يقول: وعهدنا إليه أن اعمل سابغات، وهي التوامّ الكوامل من الدروع...
وقوله: "وَقَدّرْ فِي السّرْدِ "اختلف أهل التأويل في السرد؛ فقال بعضهم: السرد: هو مسمار حلق الدرع...
وقال آخرون: هو الحلق بعينها... أي قدّر تلك الحلق...
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب: يقال درع مسرودة: إذا كانت مسمورة الحلق...
وقيل: إنما قال الله لداود: "وَقَدّرْ فِي السّرْدِ" لأنها كانت قبلُ صفائح... عن قتادة "وَقَدّرْ فِي السّرْدِ" قال: كانت صفائح، فأمر أن يسردها حلقا.
وعنى بقوله "وَقَدّرْ فِي السّرْدِ": وقدّر المسامير في حلق الدروع حتى يكون بمقدار لا تغلظ المسمار، وتضيق الحلقة، فتفصم الحلقة، ولا توسع الحلقة، وتصغر المسامير وتدقها، فتسلس في الحلقة...
وقوله: "واعْمَلُوا صَالِحا" يقول تعالى ذكره: واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله، "إنّي بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" يقول جلّ ثناؤه: إني بما تعمل أنت وأتباعك ذو بصر لا يخفى عليّ منه شيء، وأنا مجازيك وإياهم على جميع ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أن اعمل سابغات}... أمره أن يتخذ من الدروع ما يُؤخذ من الرأس إلى القدم ما يصلح لحرب العدوّ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي: في الذي أعطاكم الله من النعم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم ذكر علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله فقال: {أن اعمل سابغات} أي دروعاً طوالاً واسعة.
ولما كان السرد الخرز في الأديم وإدخال الخيط في موضع الخرز شبه إدخال الحلقة في الأخرى بلحمة لا طرف لها بمواضع الخرز فقال: {وقدر في السرد} أي النسج بأن يكون كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلا ينفذ منها سهم ولتكن في تحتها بحيث لا يقلعها سيف ولا تثقل على الدارع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر، والظاهر أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق، ولا كان للإلانة فائدة، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير، قال الزجاج: السرد في اللغة: تقدير الشيء إلى الشيء ليتأتى متسقاً بعضه في أثر بعض متتابعاً، ومنه قولهم: سرد فلان الحديث. وهذا كما ألان الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في الخندق تلك الكدية...
ولما أتم سبحانه ما يختص به من الكرامات، عطف عليها ما جمع فيه الضمير لأنه يعم غيره فقال: {واعملوا} أي أنت ومن أطاعك {صالحاً} أي بما تفضلنا به عليكم من العلم والتوفيق للطاعة، ثم علل هذا الأمر ترغيباً وترهيباً بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم للقدرة على البعث إنكار لغيرها من الصفات وإلى أن المتهاون في العمل في عداد من ينكر أنه بعين الله: {إني بما تعملون} أي كله {بصير} أي مبصر وعالم بكل ظاهر له وباطن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {سابغات} صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف.
ومعنى {قَدِّر} اجعله على تقدير، والتقدير: جعل الشيء على مقدار مخصوص.
و {السَّرْد} صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة.
فلما سخر الله له ما استصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحاً، لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم.
{إني بما تعملون بصير} موقع « إن» فيه موقع فاء التسبب.
والبصير: المطلع العليم، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح.
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ..} يعني: دروعاً واسعة، وهي عُدة الحرب يلبسها الجندي على مظانِّ الفتك، وخاصة على الصدر؛ لأن بداخله القلب والرئتين، ولم يقُلْ له اعمل فأساً ولا محراثاً مثلاً؛ لأن هذه لمنافع الأرض، والله يريد ما يحمي المنهج ويزجر العاصي.
وكانت الدروع قبله تُصنع ملساء يتحرك عليها السيف ويتزحلق، وربما أصاب منطقة أخرى من الجسم، وكانت تُصْنع على قدر ما يحمي الصدر، فعلَّمه الله أنْ تكون واسعة لتحمي أكبر قدر ممكن من الجسم، فقال {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ..} [سبأ: 11].
وعلَّمه كذلك أن تكون على شكل حلَقٍ متداخلة {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ..} [سبأ: 11] يعني: أحكم تداخل هذه الحِلَق بعضها في بعض، حتى إذا ما نزل عليها السيف ثبت على إحداها ولم يتحرك...
فتأمل أن الله تعالى لم يُعلِّم نبيه داود أولاً وسائل السلم، إنما علَّمه أولاً وسائل الحرب وإعداد العُدة لمن نقض كلمة الله، وحاد عن منهجه، علَّمه أنْ يُعِد له ما استطاع من قوة.
ومعنى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ..} اجعلها بتقدير دقيق وإحكام في النسج...
ثم يقول سبحانه: {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} كأن الحق سبحانه يقول لنبيه داود: تذكَّر حين تعمل ما طُلِب منك أنِّي بصير بعملك مُطلع عليه، وهذه التذكرة لنبي مأمون على التصرف، فما بالك بنا نحن؟
إننا نلاحظ العامل يتقن عمله طالما يراه صاحب العمل، فإنْ غاب عنه أهمل العمل وغَشَّه، فالله يحذرنا من هذه المسألة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إن الله تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها استعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها. وإحدى خصائص العمل الصالح هي مراعاة الدقّة الكافية في الصناعات من كلّ الجوانب، وتقديم نتاج كامل ومفيد خال من أي عيب أو تقصير.
ومن المحتمل أيضاً أن يكون الخطاب لداود وكلّ من تحقّقت له الاستفادة من جهده ونسيجه، إشارة إلى أنّ هذه الوسيلة الدفاعية ينبغي أن تستخدم في طريق العمل الصالح، وليس في طريق المعاصي والجور والظلم.