قوله تعالى : { مسومةً } ، من نعت الحجارة ، وهي نصب على الحال ، ومعناها معلمة : قال ابن جريج : عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض . وقال قتادة وعكرمة : علها خطوط حمر على هيئة الجزع . وقال الحسن والسدي : كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم . وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به .
قوله تعالى : { عند ربك وما هي } ، يعني : تلك الحجارة ، { من الظالمين } ، أي : من مشركي مكة ، { ببعيد } ، وقال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأمة ، والله ما أجار الله منها ظالما بعد . وفي بعض الآثار : ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة . وروي : أن الحجر اتبع شذاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد ، ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه .
يقول تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } وكان ذلك عند طلوع الشمس ، { جَعَلْنَا عَالِيَهَا } وهي [ قريتهم العظيمة وهي ]{[14826]} سَدُوم [ ومعاملتها ]{[14827]} { سَافِلَهَا } كقوله{[14828]} { [ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ] فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } [ النجم : 53 ، 54 ]{[14829]} أي : أمطرنا{[14830]} عليها حجارة من " سجيل " وهي بالفارسية : حجارة من طين ، قاله ابن عباس وغيره .
وقال بعضهم : أي من " سنك " وهو الحجر ، و " كل " {[14831]} وهو الطين ، وقد قال في الآية الأخرى : { حِجَارَةً مِنْ طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] أي : مستحجرة قوية شديدة . وقال بعضهم : مشوية ، [ وقال بعضهم : مطبوخة قوية صلبة ]{[14832]} وقال البخاري . " سِجيل " : الشديد الكبير . سجيل وسجين واحد ، اللام والنون أختان ، وقال تميم بن مُقبِل :
وَرَجْلَةٍ يَضْربُون البَيْضَ ضَاحِيةٌ *** ضَرْبًا تواصَت به الأبطال{[14833]} سِجّينا{[14834]}
وقوله : { مَنْضُودٍ } قال بعضهم : منضودة في السماء ، أي : معدة لذلك .
وقال آخرون : { مَنْضُودٍ } أي : يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم .
وقوله : { مُسَوَّمَةً } أي مُعْلمَة مختومة ، عليها أسماء أصحابها ، كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه .
وقال قتادة وعِكْرِمة : { مُسَوَّمَةً } [ أي ]{[14835]} مُطَوّقة ، بها نَضْحٌ من حُمّرٍة .
وذكروا أنها نزلت على أهل البلد ، وعلى المتفرقين في القرى مما حولها ، فبينا أحدهم يكون عند{[14836]} الناس يتحدّث ، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس ، فدّمره ، فتتبعهم{[14837]} الحجارة من سائر البلاد ، حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد .
وقال مجاهد : أخذ جبريلُ قوم لوط من سَرْحهم ودورهم ، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نُباح كلابهم ثم أكفأهم{[14838]} [ وقال ]{[14839]} وكان حملهم على خوافي{[14840]} جناحه الأيمن . قال : ولما قلبها كان أول ما سقط منها شُذانها{[14841]} .
وقال قتادة : بلغنا أن جبريل أخذ بعروة{[14842]} القرية الوسطى ، ثم ألوَى بها إلى جو السماء ، حتى سمع أهل السماء{[14843]} ضواغي كلابهم ، ثم دمر بعضها على بعض ، ثم أتبع شُذّاذ القوم سُخْرًا{[14844]} - قال : وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى ، في كل قرية مائة ألف - وفي رواية : [ كانوا ]{[14845]} ثلاث قرى ، الكبرى منها سَدُوم . قال : وبلغنا أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يشرف على سدوم ، ويقول : سدوم ، يومٌ ، ما لَك ؟ .
وفي رواية عن قتادة وغيره : بلغنا أن جبريل عليه السلام ، لما أصبح نشر جناحه ، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصُورها ودوابها وحجارتها وشجرها ، وجميع ما فيها ، فضمها في جناحه ، فحواها وطواها في جوف جناحه ، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا ، حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب ، وكانوا أربعة آلاف ألف ، ثم قلبها ، فأرسلها إلى الأرض منكوسة ، وَدَمْدَم بعضها على بعض ، فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعها حجارة من سجيل .
وقال محمد بن كعب القُرَظي : كانت قرى قوم لوط خمس قريات : " سدوم " ، وهي العظمى ، و " صعبة " {[14846]} و " صعوة " و " عثرة " {[14847]} و " دوما " ، احتملها جبريل بجناحه ، ثم صعد بها ، حتى إنّ أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها ، وأصوات دجاجها ، ثم كفأها على وجهها ، ثم أتبعها الله بالحجارة ، يقول الله تعالى : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } {[14848]} فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات .
وقال السدي : لما أصبح قوم لوط ، نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين ، فحملها حتى بلغ بها السماء ، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم ، وأصوات ديوكهم ، ثم قلبها فقتلهم ، فذلك قوله{[14849]} { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } [ النجم : 53 ] ، ومن لم يمت حين سقط للأرض ، أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ، ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى ، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله ، فذلك قوله{[14850]} عز وجل : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : في القرى حجارة من سجيل . هكذا قال السدي .
وقوله : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } أي : وما هذه النقمة ممن تَشَبَّه بهم في ظلمهم ، ببعيد{[14851]} عنه .
وقد ورد في الحديث المروي في السنن{[14852]} عن ابن عباس مرفوعًا{[14853]} " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به " {[14854]} .
وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل ، سواء كان محصنًا أو غير{[14855]} محصن ، عملا بهذا الحديث .
وذهب الإمام أبو حنيفة [ رحمه الله إلى ]{[14856]} أنه يلقى من شاهق ، ويُتبَع بالحجارة ، كما فعل الله بقوم لوط ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
{ مُسوّمةً } معلمة للعذاب . وقيل معلمة ببياض وحمرةً . أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى بها . { عند ربك } في خزائنه . { وما هي من الظالمين ببعيد } فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم ، وفيه وعيد لكل ظالم . وعنه عليه الصلاة والسلام " أنه سأل جبريل عليه السلام فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة " . وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام ، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان .