وقوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } أي : تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم تتكتمون {[25677]} منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ، ولا تبالون منه في زعمكم ؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي : هذا الظن الفاسد - وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون - هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم ، { فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن ابن يزيد{[25678]} ، عن عبد الله قال : كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر : قرشي ، وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان - كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه {[25679]} ، وإذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله . قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } إلى قوله : { مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وكذا رواه الترمذي عن هناد ، عن أبي معاوية ، بإسناده نحوه {[25680]} . وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا ، من حديث سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن عُمارة بن عمير ، عن وهب بن
ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، بنحوه {[25681]} . ورواه البخاري ومسلم أيضا ، من حديث السفيانين ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبرة ، عن ابن مسعود به{[25682]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } قال : " إنكم تُدعَون مُفَدَّمًا على أفواهكم بالفدام ، فأول شيء يبين{[25683]} عن أحدكم فخذه وكفه{[25684]} {[25685]} " .
قال معمر : وتلا الحسن : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله أنا مع عبدي عند ظنه بي ، وأنا معه إذا دعاني " ثم أفترَّ الحسن ينظر في هذا فقال : ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم ، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل ، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل . ثم قال : قال الله تعالى : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ } إلى قوله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل القاص{[25686]} - وهو أبو المغيرة - حدثنا ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر{[25687]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن ، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله ، فقال الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } {[25688]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وهذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من قبائح أعمالكم ومساويها ، هو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا أرداكم ، يعني أهلككم . يقال منه : أردى فلانا كذا وكذا : إذا أهلكه ، ورَدِيَ هو : إذا هلك ، فهو يردى ردًى ومنه قول الأعشى :
أفِي الطّوْفِ خِفْتِ عَليّ الرّدَى *** وكَمْ مِنْ رَدٍ أهْلَهُ لَمْ يَرِمْ
يعني : وكم من هالك أهله لم يرم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : أرْدَاكُمْ قال : أهلككم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : تلا الحسن : وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنْتُم بِرَبّكُمْ أرْدَاكُمْ فقال : إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن بالله الظن ، فأحسن العمل وأما الكافر والمنافق ، فأساءا الظنّ فأساءا العمل ، قال ربكم : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارُكُمْ . . . حتى بلغ : الخاسرين . قال معمر : وحدثني رجل : أنه يؤمر برجل إلى النار ، فيلتفت فيقول : يا ربّ ما كان هذا ظني بك ، قال : وما كان ظنك بي ؟ قال : كان ظني أن تغفر لي ولا تعذّبني ، قال : فإني عند ظنك بي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الظنّ ظنان ، فظنّ منج ، وظنّ مُرْدٍ قالَ : الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهمْ قالَ إنّي ظَنَنْتُ أنّى مُلاقٍ حِسابِيَهْ ، وهذا الظنّ المنجى ظنا يقينا ، وقال ها هنا : وَذَلِكُمْ ظَنّكُمُ الّذِي ظَنَنْتُم بِرَبّكُمْ أرْدَاكُمْ هذا ظنّ مُرْدٍ .
وقوله : وَقالَ الكافِرُونَ إنْ نَظُنّ إلاّ ظَنّا وَما نَحْنُ بمُسْتَيْقِنِينَ وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ويروي ذلك عن ربه : «عَبْدِي عِنْدَ ظَنّهِ بِي ، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي » . وموضع قوله : ذَلِكُمْ رفع بقوله ظنكم . وإذا كان ذلك كذلك ، كان قوله : أرْدَاكُمْ في موضع نصب بمعنى : مرديا لكم . وقد يُحتمل أن يكون في موضع رفع بالاستئناف ، بمعنى : مردٍ لكم ، كما قال : تِلكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً في قراءة من قرأه بالرفع . فمعنى الكلام : هذا الظنّ الذي ظننتم بربكم من أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أهلككم ، لأنكم من أجل هذا الظنّ اجترأتم على محارم الله فقدمتم عليها ، وركبتم ما نهاكم الله عنه ، فأهلككم ذلك وأرداكم فأَصْبَحْتُمْ مِنْ الخاسِرِينَ يقول : فأصبحتم اليوم من الهالكين ، قد غبتم ببيعكم منازلكم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.