قوله تعالى : { سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق } المقدر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره ، كما قال : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق }( الزمر- 6 ) ، { البارئ } المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ، { المصور } الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض . يقال : هذه صورة الأمر أي مثاله ، فأولاً يكون خلقاً ثم برءاً ثم تصويراً . { له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا أحمد بن أبي شريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا أنبأنا أبو أحمد الرمادي ، قالا : أنبأنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا خالد بن طهمان ، حدثني نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يصبح -ثلاث مرات- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة " . ورواه أبو عيسى عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري بهذا الإسناد ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة .
( هو الله ) . . فهي الألوهية الواحدة . وليس غيره بإله .
( الخالق ) . . ( البارئ ) . . والخلق : التصميم والتقدير . والبرء : التنفيذ والإخراج ، فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق . .
( المصور ) . وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها . ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة .
وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق ، يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة - حسب التصور الإنساني - فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات . وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله . إنما نحن ندرك شيئا من آثارها هو الذي نعرفها به في حدود طاقاتنا الصغيرة !
( له الأسماء الحسنى ) . . الحسنى في ذاتها . بلا حاجة إلى استحسان من الخلق ولا توقف على استحسانهم .
والحسنى التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها . وهي الأسماء التي يتدبرها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها ، إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف بها . وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها .
وخاتمة هذه التسبيحة المديدة بهذه الأسماء الحسنى ، والسبحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضها العجيبة ، هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود ، وينبعث من كل موجود :
يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . .
وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء ؛ ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء . . كما يتلاقى فيه المطلع والختام . في تناسق والتئام .
{ هُوَ الله الخالق البارىء المصور } .
القول في ضمير { هو } المفتتح به وفي تكرير الجملة كالقول في التي سبقتها . فإن كان ضمير الغيبة ضميرَ شأن فالجملة بعده خبر عنه .
وجملة { الله الخالق } تفيد قصراً بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم . وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق . قال تعالى : { والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } [ النحل : 20 ] ، وقال : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] ، وإن كان عائداً على اسم الجلالة المتقدم فاسم الجلالة بعده خبر عنه و { الخالق } صفة .
و { الخالق } : اسم فاعل من الخلق ، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصه . وقد تقدم عند قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام { إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } الآية [ 49 ] في سورة آل عمران . ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو إيجاد ما لم يكن موجوداً . كقوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } [ ق : 38 ] . وهذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم الله تعالى { الخالق } .
قال في « الكشاف » : « المقدر لما يوجده » . ونقل عنه في بيان مراده بذلك أنه قال : « لما كانت إحداثات الله مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق » اهـ . يشير إلى أن الخالق في صفة الله بمعنى المحدث الأشياء عن عدم ، وبهذا يكون الخلق أعم من التصوير . ويكون ذكر { البارىء } و { المصور } بعد { الخالق } تنبيهاً على أحوال خاصة في الخلق . قال تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } [ الأعراف : 11 ] على أحد التأويلين .
وقال الراغب : الخلق التقدير المستقيم واستعمل في إيداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء اهـ .
وقال أبو بكر ابن العربي في « عارضة الأحوذي » على « سنن الترمذي » : { الخالق } : المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدر لها على صفاتها ( فخلط بين المعنيين ) ثم قال : فالخالق عام ، والبارىء أخص منه ، والمصور أخص من الأخص وهذا قريب من كلام صاحب « الكشاف » . وقال الغزالي في « المقصد الأسنى » : الخالق البارىء المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أولاً ، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانياً ، وإلى التصوير بعد الإِيجاد ثالثاً ، والله خالق من حيث أنه مقدِّر وبارىء من حيث إنه مخترع موجود ، ومصور من حيث إنه مرتبٌ صور المخترعات أحسن ترتيب ا ه . فجعل المعاني متلازمة وجعل الفرق بينها بالاعتبار ، ولا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء .
و { البارىء } اسم فاعل من بَرَأَ مهموزاً . قال في « الكشاف » المميز لما يوجده بعضه من بعض بالأشكال المختلفة اهـ . وهو مغاير لمعنى الخالق بالخصوص . وفي الحديث " من شر ما خلق وذرأ وبرأ " ومن كلام علي رضي الله عنه : لا والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة ، فيكون اسم البريئة غير خاص بالناس في قوله تعالى : { أولئك هم شر البريئة أولئك هم خير البريئة } [ البينة : 6 ، 7 ] . وقال الراغب : البريئة : الخلق .
وقال ابن العربي في « العارضة » : { البارىء } : خالق الناس من البرَى ( مقصوراً ) وهو التراب خاصاً بخلق جنس الإِنسان ، وعليه يكون اسم البريئة خاصاً بالبشر في قوله تعالى : { أولئك هم شر البريئة أولئك هم خير البريئة .
وفسره ابن عطية بمعنى الخالق . وكذلك صاحب « القاموس » . وفسره الغزالي بأنه الموجود المخترع ، وقد علمت أنه غير منطبق فأحسن تفسير له ما في « الكشاف » .
و { المصور } : مكوّن الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية .
وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإِبداع الإلهي للإِنسان فابتدىء بالخلق الذي هو الإِيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإِنسان ثم بالتصّور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة ، كما أشار إليه قوله تعالى : { الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة } [ الانفطار : 7 ، 8 ] ، { الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] .
ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة ، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإِشارة إلى تصرفه في البشر بالإِيجاد على كيفيته البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك . ولذلك عقب بجملة { يسبح له ما في السموات والأرض } .
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحُسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفاً .
القسم الأول : يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافِهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى ، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين .
وإلى هذا القسم تنضوي صفة { لا إله إلا هو } [ الحشر : 23 ] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات ، فإن الإِشراك أصل الضلالات ، والمشركون هم الذين يُغرون اليهود ، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإِسلام ، فالشرك هو الذي صدّ الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى ، قال تعالى : { وما زادوهم غيرَ تتبيب } [ هود : 101 ] .
وصفة { عالم الغيب } [ الحشر : 22 ] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء ، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة . وهذا ناظر إلى قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } [ الأنفال : 13 ] الآية .
وكذلك ذكر صفات « المَلِك ، والعزيز ، والجبار ، والمتكبر » ، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة .
القسم الثاني : متعلق بما اجْتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير ، وتلك صفات : { السلام المؤمن } [ الحشر : 23 ] لقوله : { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } [ الحشر : 6 ] ، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالاً .
وكذلك صفتا { الرحمان الرحيم } [ الحشر : 22 ] لمناسبتهما لإِعطاء حظ في الفيء للضعفاء .
القسم الثالث : متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها ، وهي صفات : « القدوس ، المهيمن ، الخالق ، البارىء ، المصور » .
تذييل لما عُدّد من صفات الله تعالى ، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفاً .
والمراد بالأسماء الصفات ، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالأعلام على ذاته تعالى .
والمقصود : أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى : { ثم عرضهم على الملائكة } بعد قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] ، أي عرض المسميات على الملائكة .
وقد تقدم قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } في سورة [ الأعراف : 180 ] .
{ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } .
جملة { يسبح له } الخ في موضع الحال من ضمير { له الأسماء الحسنى } يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد . فالدُهري أو الطبائعي إذا نوّه بنظام الكائنات وأعجب بانتساقها فإنما يسبح في الواقع للفاعل المختار وإن كان هو يدعوه دَهراً أو طبيعة ، هذا إذا حمل التسبيح على معناه الحقيقي وهو التنزيه بالقول ، فأما إن حمل على ما يشمل المعنيين الحقيقي والمجازي من دلالة على التنزيه ولو بلسان الحال . فالمعنى : أن ما ثبت له من صفات الخلق والإِمداد والقهر تدل عليه شواهد المخلوقات وانتظام وجودها .
وجملة { وهو العزيز الحكيم } عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق .
وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها .
روى الترمذي بسند حسن عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يُصبح ثلاثَ مرّات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب } [ الحشر : 22 ] إلى آخر السورة ، وكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يُمسِيَ ، وإن مات ذلك اليومَ مات شهيداً . ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " فهذه فضيلة لهذه الآيات أخروية .
وروى الخطيب البغدادي في « تاريخه » بسنِده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف ( راوي حمزة ) فلما بلغت هذه الآية { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } [ الحشر : 21 ] إلى آخر السورة قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعْمش . فلما بلغتُ هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يَحيى بن وثاب ، فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا : ضع يدك على رأسك فإنّا قرأنا على عبد الله فلما بلغنا هذه الآية قال : ضعا أَيديكما على رؤوسكما ، فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغتُ هذه الآية قال لي : ضع يدك على رأسك فإن جبريل لما نزل بها إليَّ قال : ضعَ يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام .
والسام الموت . قلت : هذا حديث أغر مسلسل إلى جبريل عليه السلام .
وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن } [ الحشر : 21 ] إلى آخر السورة : هي رُقية الصداع ، فهذه مزية لهذه الآيات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الله الخالق} يعني خالق كل شيء خلق النطفة والمضغة،
ثم قال: {البارئ} الأنفس حين يراها بعد مضغة إنسانا فجعل له العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين،
ثم قال: {المصور} في الأرحام، كيف يشاء ذكر وأنثى، أبيض وأسود، سوى وغير سوى،
ثم قال: {له الأسماء الحسنى} يعني الرحمن الرحيم العزيز الجبار المتكبر، ونحوها من الأسماء...
ثم قال: {يسبح له ما في السماوات والأرض} يعني يذكره ويوحده ما في السماوات والأرض وما فيها من الخلق وغيره.
{وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في أمره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق، فأوجدهم بقدرته، المصوّر خلقه كيف شاء، وكيف يشاء.
وقوله: "لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى" يقول تعالى ذكره: لله الأسماء الحسنى، وهي هذه الأسماء التي سمى الله بها نفسه، التي ذكرها في هاتين الآيتين.
"يُسَبّحُ لَهُ ما في السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول: يسبح له جميع ما في السموات والأرض، ويسجد له طوعا وكرها.
"وَهُوَ العَزِيزُ" يقول: وهو الشديد الانتقام من أعدائه.
"الْحَكِيمُ" في تدبيره خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هو الله الخالق البارئ المصور} فالخالق والبارئ واحد، ويقال: برأ أي خلق، والبرية هي الخلق، ويقال: سميت البرية لأنها خلقت من التراب؛ إذ البرى، هو التراب.
{المصور} هو الذي يعطي كل شيء صورته، فيصوره على ما هو، فالتصوير، هو بيان المحدود.
{له الأسماء الحسنى} أي الأمثال العلا، أي لا يسمى بذلك إلا هو.
ويحتمل وجها آخر؛ أي لا شبيه له في أسمائه، ولا يشركه أحد في تلك الأسماء، بل هي خاصته.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{الْخَالِقُ} المقدّر المقلّب للشي بالتدبير الى غيره كما قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] وقال: {خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح: 14] المنشئ للأعيان من العدم الى الوجود.
{الْمُصَوِّرُ} الممثل للمخلوقات والعلامات المميّزة والهيئات المتفرّقة حتى يتميّز بها بعضها من بعض؛ يقال: هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقاً ثم (نطفة ثمّ علقة) ثم تصويراً إذا انتهى وكمل، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: المميز للخلق، ومنه قوله: برأت منه، إذا تميزت منه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«والبارئ» المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {له الأسماء الحسنى} أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو، وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»، وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة، واختلف في بعضها، ولم يصح فيها شيء إلا إحصاؤها دون تعين.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
و {المصور}: الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها: ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل.
{هو الله الخالق} والخلق هو التقدير معناه أنه يقدر أفعاله على وجوه مخصوصة، فالخالقية راجعة إلى صفة الإرادة. ثم قال: {البارئ} وهو بمنزلة قولنا: صانع وموجد إلا أنه يفيد اختراع الأجسام، ولذلك يقال في الخلق: برية ولا يقال في الأعراض التي هي كاللون والطعم. وأما {المصور} فمعناه أنه يخلق صور الخلق على ما يريد، وقدم ذكر الخالق على البارئ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة. وقدم البارئ على المصور، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} الخلق: التقدير، والبَراء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز وجل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة. (هو الله).. فهي الألوهية الواحدة. وليس غيره بإله. (الخالق).. (البارئ).. والخلق: التصميم والتقدير. والبرء: التنفيذ والإخراج، فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق..
(المصور). وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها. ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة. وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق، يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة -حسب التصور الإنساني- فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات. وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله. إنما نحن ندرك شيئا من آثارها هو الذي نعرفها به في حدود طاقاتنا الصغيرة!
(له الأسماء الحسنى).. الحسنى في ذاتها. بلا حاجة إلى استحسان من الخلق ولا توقف على استحسانهم...
والحسنى التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها. وهي الأسماء التي يتدبرها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها، إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف بها. وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها.
وخاتمة هذه التسبيحة المديدة بهذه الأسماء الحسنى، والسبحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضها العجيبة، هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود، وينبعث من كل موجود: "يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم".. وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء؛ ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء.. كما يتلاقى فيه المطلع والختام. في تناسق والتئام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الله الخالق} تفيد قصراً بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق، لا شركاؤهم. وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق. قال تعالى: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} [النحل: 20]، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17]،
و {الخالق}: اسم فاعل من الخلق، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصه. وقد تقدم عند قوله ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو إيجاد ما لم يكن موجوداً. كقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق: 38]. وهذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم الله تعالى {الخالق}.
و {المصور}: مكوّن الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية. وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإِبداع الإلهي للإِنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإِيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإِنسان ثم بالتصّور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة، كما أشار إليه قوله تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة} [الانفطار: 7، 8]، {الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6]. ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإِشارة إلى تصرفه في البشر بالإِيجاد على كيفيته البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك. ولذلك عقب بجملة {يسبح له ما في السموات والأرض}.
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحُسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفاً.
القسم الأول: يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافِهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين. وإلى هذا القسم تنضوي صفة {لا إله إلا هو} [الحشر: 23] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات، فإن الإِشراك أصل الضلالات، والمشركون هم الذين يُغرون اليهود، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإِسلام، فالشرك هو الذي صدّ الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى، قال تعالى: {وما زادوهم غيرَ تتبيب} [هود: 101]. وصفة {عالم الغيب} [الحشر: 22] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة. وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الأنفال: 13] الآية. وكذلك ذكر صفات « المَلِك، والعزيز، والجبار، والمتكبر»، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.
القسم الثاني: متعلق بما اجْتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير، وتلك صفات: {السلام المؤمن} [الحشر: 23] لقوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6]، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالاً. وكذلك صفتا {الرحمان الرحيم} [الحشر: 22] لمناسبتهما لإِعطاء حظ في الفيء للضعفاء.
القسم الثالث: متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها، وهي صفات: « القدوس، المهيمن، الخالق، البارئ، المصور».
{لَهُ الأسمآء الحسنى}. تذييل لما عُدّد من صفات الله تعالى، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفاً. والمراد بالأسماء الصفات، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالأعلام على ذاته تعالى. والمقصود: أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: {ثم عرضهم على الملائكة} بعد قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، أي عرض المسميات على الملائكة.
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم}. جملة {يسبح له} الخ في موضع الحال من ضمير {له الأسماء الحسنى} يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد.
وجملة {وهو العزيز الحكيم} عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق. وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولأنّ صفات الله لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية، فإنّه سبحانه يشير إلى صفة أساسية لذاته المقدّسة اللامتناهية، حيث يقول عزّ وجلّ: (له الأسماء الحسنى). ولهذا السبب فإنّه سبحانه منزّه ومبرّأ من كلّ عيب ونقص (يسبّح له ما في السماوات والأرض) ويعتبرونه تامّاً وكاملا من كلّ نقص وعيب. وأخيراً للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة يشير سبحانه إلى وصفين آخرين من صفاته المقدّسة، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى: (وهو العزيز الحكيم). الأولى دليل كمال قدرته على كلّ شيء، وغلبته على كلّ قوّة. والثانية إشارة إلى علمه واطّلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود وتدبير الحياة. وبهذه الصورة فإنّ مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة التوحيد التي تكرّرت مرّتين، فإنّ مجموع الصفات المقدّسة لله سبحانه تكون سبع عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل: 1 عالم الغيب والشهادة. 2 الرحمن. 3 الرحيم. 4 الملك. 5 القدّوس. 6 السلام. 7 المؤمن. 8 المهيمن. 9 العزيز. 10 الجبّار. 11 المتكبّر. 12 الخالق. 13 البارئ. 14 المصوّر. 15 الحكيم. 16 له الأسماء الحسنى. 17 الموجود الذي تسبّح له كلّ موجودات العالم. ومن بين مجموع هذه الصفات فإنّنا نلاحظ تنظيماً خاصّاً في الآيات الثلاث وهو: في الآية الأولى يبحث عن أعمّ صفات الذات وهي (العلم) وأعمّ صفات الفعل وهي (الرحمة) التي هي أساس كلّ أعماله تعالى. وفي الآية الثانية يتحدّث عن حاكميته وشؤون هذه الحاكمية وصفاته ك (القدّوس والسلام والمؤمن والجبّار والمتكبّر) وبملاحظة معاني هذه الصفات المذكورة أعلاه فإنّ جميعها من خصوصيات هذه الحاكمية الإلهية المطلقة. وفي الآية الأخيرة يبحث مسألة الخلق وما يرتبط بها من انتظام في مقام تسلسل الخلقة والتصوير، وكذلك البحث في موضوع القدرة والحكمة الإلهية. وبهذه الصورة فإنّ هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة الله، وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل، حيث تبدأ الآيات أوّلا بالحديث عن ذاته المقدّسة، ومن ثمّ إلى عالم الخلقة، وتارةً أخرى بالسير نحو الله تعالى، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدّسة، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف، حيث تنمو براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده، وتجعله لائقاً لقرب جواره لكي يكون وجوداً منسجماً مع كلّ ذرّات الوجود، مردّدين معاً ترانيم التسبيح والتقديس.
ـ التأثير الخارق للقرآن الكريم: إنّ لتأثير القرآن الكريم في القلوب والأفكار واقعية لا تنكر، وعلى طول التاريخ الإسلامي لوحظت شواهد عديدة على هذا المعنى، وثبت عملياً أنّ أقسى القلوب عند سماعها لآيات محدودة من القرآن الكريم تلين وتخضع وتؤمن بالذي جاء بالقرآن دفعةً واحدة، اللهمّ عدا الأشخاص المعاندين المكابرين فقد استثنوا من ذلك حيث طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، وليس هنالك من أمل في هداية نفوسهم المدبِرة عن الله سبحانه. ونقرأ في الآيات أعلاه العرض الرهيب الذي يصوّر نزول القرآن على جبل، وما هو الأثر سيحدثه حيث الخضوع والتصدّع والخشوع، وهذه كلّها دليل تأثير هذا الكلام الإلهي الذي نحسّ بحلاوة طعمه عند التلاوة المقرونة بحضور القلب. 2 ـ عظمة الآيات الأخيرة لسورة الحشر: إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة ـ التي اشتملت على قسم مهمّ من الأسماء والصفات الإلهية ـ آيات خارقة وعظيمة وملهمة، وهي درس تربوي كبير للإنسان، لأنّها تقول له: إذا كنت تطلب قرب الله، وتريد العظمة والكمال.. فاقتبس من هذه الصفات نوراً يضيء وجودك. والخلاصة أنّ الروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة... وتدلّ جميعها على عظمة هذه الآيات ولزوم التفكّر في محتواها. والجدير بالملاحظة أنّ هذه السورة كما أنّها بدأت بتسبيح الله واسمه العزيز الحكيم، فكذلك انتهت باسمه العزيز الحكيم، إذ أنّ الهدف النهائي للسورة هو معرفة الله وتسبيحه والتعرّف على أسمائه وصفاته المقدّسة.