قوله تعالى : { قل ما أسألكم عليه }أي : على تبليغ الوحي { من أجر } فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه ، { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } هذا من الاستثناء المنقطع ، مجازه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بالإنفاق من ماله في سبيله فعل ذلك ، والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجراً ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته .
( قل : ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) . .
فليس للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام . ليست هناك إتاوة ، ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم . وهو يدخل في الجماعة المسلمة بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه . وهذه ميزة الإسلام . ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته ، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته ؛ ليس هنالك " رسم دخول " ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال ! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان ؛ ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان . . ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه ! ( إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) . . هذا وحده هو أجره . . يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه ، فهو يبتغي رضاه ، ويتحرى طريقه ، ويتجه إلى مولاه .
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم ، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله ، { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28 ] { إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي : طريقا ومسلكا ومنهجا يقتدى فيها بما جئت به .
الأجر : العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء .
والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجراً لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم ، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعللِ في صورة الاستثناء ، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وبعبارة أتقن تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان : منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعاً عن المستثنى منه أصلاً كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فإن فلول سيوفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال ؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] ، ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجراً على الإطلاق في قوله تعالى { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } [ ص : 86 ] . فقوله تعالى : { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجراً إذ التقدير : إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً ، وذلك هو اتباع دين الإسلام . ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله { قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وقد يسمون مثل هذا الاستثناءِ الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك .
والسبيل : الطريق . واتخاذ السبيل تقدم آنفاً في قوله : { يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً } [ الفرقان : 27 ] . وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا كقوله تعالى : { فمن شاء اتخذ إلى ربه مئاباً } [ النبأ : 39 ] .
وذكر وصف الرب دون الاسم العلَم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلاّ كان آبقاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل ما أسألكم عليه} يعني: على الإيمان {من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا} لطاعته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قُلْ ما أسألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ" يقول له: قل لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم، ما أسألكم يا قوم على ما جئتكم به من عند ربي أجرا، فتقولون: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه فيه، ولا نعطيه من أموالنا شيئا. "إلاّ مَنْ شاءَ أنْ يَتّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً" يقول: لكن من شاء منكم اتخذ إلى ربه سبيلاً، طريقا بإنفاقه من ماله في سبيله، وفيما يقربه إليه من الصدقة والنفقة في جهاد عدوّه، وغير ذلك من سبل الخير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أمره، فقال: يا محمد "قل "لهؤلاء الكفار: إني لست أسألكم على ما أبشركم به وأحذركم منه "أجرا" تعطوني "إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا "استثناء من غير الجنس، ومعناه أنه جعل أجره على دعائه اتخاذ المدعو سبيلا إلى ربه وطاعته أياه.. وقيل:"إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا "بإنفاقه ماله في طاعة الله، وابتغاء مرضاته.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
إلا أجر "من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا "باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي لهم يا أكرم الخلق حقيقة، وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة: {ما أسألكم عليه} أي على الإبلاغ بالبشارة والنذارة {من أجر} لتتهموني أني أدعوكم لأجله، أو تقولوا: لولا ألقي إليه كنز ليغتني به عن ذلك، فكأنه يقول: الاقتصار عن التوسع في المال إنما يكره لمن يسأل الناس، وليس هذا من شيمي قبل النبوة فكيف بما بعدها؟ فلا غرض لي حينئذ إلا نفعكم. ثم أكد هذا المعنى بقوله، مستثنياً لأن الاستثناء معيار العموم: {إلا من} أي إلا أجر من {شاء أن يتخذ} أي يكلف نفسه ويخالف هواه ويجعل له {إلى ربه سبيلاً} فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره، لا نفع لي من جهتكم إلا هذا، فإن سميتم هذا أجراً فهو مطلوبي، ولا مرية في أنه لا ينقص أحداً شيئاً من دنياه، فلا ضرر على أحد في طي الدنيا عني، فأفاد هذا فائدتين: إحداهما أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم، والثانية إظهار الشفقة البالغة بأنه يعتد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل: ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا).. فليس للرسول [صلى الله عليه وسلم] من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام. ليست هناك إتاوة، ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم. وهو يدخل في الجماعة المسلمة بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه. وهذه ميزة الإسلام. ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته؛ ليس هنالك "رسم دخول "ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان؛ ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان.. ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول [صلى الله عليه وسلم] هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه! (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا).. هذا وحده هو أجره.. يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه، فهو يبتغي رضاه، ويتحرى طريقه، ويتجه إلى مولاه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وأمر الله تعالى نبيه أنه لا يريد أجرا إلا الهداية واتباع الحق، فقال عز من قائل:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}.
الأمر في {قل} للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك القول، لأنهم قالوا وأشاروا وصرحوا أنه يريد سيادة دنيوية في جاه يبتغيه، أو مال يتموله، فهو صلى الله عليه وسلم الذي يتولى الرد، وبيان أنه لا يريد الهداية {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} من هنا دالة على استغراق النفي، أي لا أسألكم على هذا الإرشاد والتوجيه الذي أدعوكم به إلى ترك الأوثان وعبادة الله تعالى وحده أي أجر، وإن فائدة هذه الدعوة مغبتها عليكم إذا اهتديتم، وتعود عليكم بالعقاب إن كفرتم.
ثم قال تعالى مستثنيا من الأجر {إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}.
هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى أنه متصل يكون المعنى ظاهرا والمعنى لا أسألكم أجرا تدفعونه، أو تؤدونه، إلا ابتغاء من شاء أن يتخذ إلى ربه منهاجا مستقيما، وطريقا موصلا إلى ربه، فإن ذلك هو الأجر الذي أبتغيه، وهو نعم الأجر ونعم الجزاء، فيكون الكلام دالا على مطلبه صلى الله عليه وسلم، ودالا على شرف الغاية التي يبتغيها، فليس يطلب مالا ولا جاها، ولكن يطلب هداية وتوفيقا وإرشادا.
ويكون معنى النص السامي على أن الاستثناء منقطع، لا أسألكم عليه أجرا، لكن من شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو مطلبي وغايتي، وموضع دعايتي ودعوتي.
ومهما يكن من تخريج، فالمعنى أنه لا جزاء للنبي إلا أن يتبعوا الحق، ويهتدوا به، ويوحدوا العبادة.
وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} إشارات بيانية ثلاث.
الأولى التعبير بقوله: {من شاء} إشارة إلى أن الثواب لا يكون إلا بالإرادة الحرة المختار، إذ هي أساس التكليف.
الثانية التعبير بقوله: {يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} التعبير بالرب توجيه إلى أنه الخالق المربي القائم على الخلق، ففي ذلك دعوة للاتباع المدرك، شكرا لنعمة الله تعالى عليه.
الثالثة وصف الهداية بأنها اتخاذ السبيل، لأنه المنهاج، وهو {سبيلا}، وكان التنكير لبيان أن السبيل المطلوب هو ما كان إلى الله تعالى.