قوله تعالى : { فوسوس لهما الشيطان } ، أي : إليهما ، والوسوسة : حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان .
قوله تعالى : { ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما } ، أي : ليظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما ، قيل : اللام فيه لام العاقبة ، وذلك أن إبليس لم يوسوس بهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك ، وهو ظهور عورتهما ، كقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] ثم بين الوسوسة فقال : { وقال } إبليس لآدم وحواء .
قوله تعالى : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } ، يعني : إلا كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر .
قوله تعالى : { أو تكونا من الخالدين } ، من الباقين الذين لا يموتون ، كما قال في موضع آخر : { هل أدلك على شجرة الخلد } . [ طه :120 ] .
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له . .
إن هذا الكائن المتفرد ؛ الذي كرمه الله كل هذا التكريم ؛ والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب ؛ والذي أسجد له الملائكة فسجدوا ؛ والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى . . إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة ؛ مستعد للاتجاهين على السواء . وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها - ما لم يلتزم بأمر الله فيها - ومن هذه النقط تمكن إصابته ، ويمكن الدخول إليه . . إن له شهوات معينة . . ومن شهواته يمكن أن يقاد !
وراح إبليس يداعب هذه الشهوات :
( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ؛ وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ، أو تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) . .
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم ؛ لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله ، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه . ولكننا نعلم - بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب - أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور ؛ وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات . وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان . وأن هذا الضعف يمكن إتقاؤه بالإيمان والذكر ؛ حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر ؛ وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير . . وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما . . فهذا كان هدفه . . لقد كانت لهما سوآت ، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها - وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية ، فكأنها عوراتهما - ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال ! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة :
( وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) . .
بذلك داعب رغائب " الإنسان " الكامنة . . إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت أو معمرا أجلا طويلاً كالخلود ! ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد . .
وفي قراءة : ( ملكين ) بكسر اللام . وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه : هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى . . وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال : إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلاً بعد جيل - وعلى قراءة( ملكين )بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود . . ولكن القراءة الأولى - وإن لم تكن هي المشهورة - أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر ، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة .
يذكر تعالى أنه أباح لآدم ، عليه السلام ، ولزوجته [ حواء ]{[11616]} الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة . وقد تقدم الكلام على ذلك في " سورة البقرة " ، فعند ذلك حسدهما الشيطان ، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا{[11617]} ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن ، وقال كذبا وافتراء : ما نهاكما ربكما عن أكل{[11618]} الشجرة إلا لتكونا ملكين أي : لئلا تكونا ملكين ، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما{[11619]} كقوله : { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [ طه : 120 ] أي : لئلا تكونا ملكين ، كقوله : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ، { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] أي : لئلا تميد بكم .
وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن : { إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ } بكسر اللام . وقرأه الجمهور بفتحها .
كانت وسوسة الشّيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشّجرة ، فعبّر عن القرب بحرف التّعقيب إشارة إلى أنّه قرب قريب ، لأنّ تعقيب كلّ شيء بحسبه .
والوسوسة الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلاّ المُداني للمتكلّم ، قال رؤبة يصف صائداً :
وَسْوَسَ يَدعُو جاهداً ربّ الفلق *** سِرّاً وقد أوّنَ تَأوِينُ العُق
وسمي إلقاء الشيطان وسوسة : لأنّه ألقَى إليهما تسويلاً خفياً من كلاممٍ كلمهما أو انفعالٍ في أنفسهما . كهيئة الغاش الماكر إذْ يُخفِي كلاماً عَن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشّه بفضح مضاره فألقى لهما كلاماً في صورة التّخافت ليوهمهما أنّه ناصح لهما وأنّه يخافت الكلام ، وقد وقع في الآية الأخرى التّعبير عن تسويل الشّيطان بالقول : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخُلْد وملك لا يبلى } [ طه : 120 ] ثمّ درج اصطلاح القرآن وكلام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على تسمية إلقاء الشّيطان في نفوس النّاس خواطرَ فاسدة ، وسوسة تقريباً لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله : { من شر الوسواس الخنّاس } [ الناس : 4 ] وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم .
واللاّم في : { ليبدي } لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت ، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين ، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان . ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر ، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء ، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله ، ثم لغرض الإضرار بهما ، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة ، ولمّا كان عدُوّاً لهما كان يسعى إلى مَا يؤذيهما ، ويحسدهما على رضَى الله عنهما ، ويعلم أنّ العصيان يُفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال ، فكان مظهر ذلك السوء إبداءَ السوْآت ، فجُعل مفصِّلُ العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّةَ ، وإن لم تخطر بباله ، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل . والحاصلُ أنّه أراد الإضْرار ، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر ، كما سيصرّح به فيما بعدُ ، وفي قوله تعالى : { إن الشّيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } [ فاطر : 6 ] .
والإبداء ضدّ الإخفاء ، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره ، ويطلق مجازاً على معرفة الشّيء بعد جهله يقال : بدَا لي أنْ أفعل كذا .
وأسند إبداءُ السوْآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمعُ سوْأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقايص ، ومِن سَب العرب قولهم : سوأةً لك ، ومن تلهّفهم : يا سوْأتَا .
ويكنّى بالسوأة عن العورة . ومعنى ووُري عنهما حجب عنهما وأخفي ، مشتقاً من المواراة وهي التّغطيّة والإخفاء وتطلق المواراة مجازاً على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس .
والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة كما في قول أبي زبيد :
لَم يَهْب حُرمة النّديم وحُقَّت *** يا لَقَوْمي للسوأةِ السوآءِ
فتكون صيغة الجمع على حقيقتها ، والسّوآت حينئذٍ مستعمل في صريحه ، ويجوز أن تكون جمع السوأة ، المكنى بها عن العورة ، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم } [ الأعراف : 26 ] وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] . وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } [ الأعراف : 22 ] .
وعطفُ جملة : { وقال ما نهاكما ربكما } على جملة { فوسوس } يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غيرَ قوله : { ما نهاكما } إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما ، ولو كانت جملة : { ما نهاكما } إلى آخرها بياناً لجملة { فوسوس } لكانت جملة : { وقال ما نهاكما } بدون عاطف ، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن . وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما . ألا ترى أنّه لم يعطف قوله ، في سورة طه ( 120 ) : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالاً لطاعته ، واستزلالاً لقدمه ، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } الآية فأشار إلى الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائِهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة ، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوْق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصصُ مقصداً أصلياً للتنزيل .
والإشارة بقوله : { عن هذه لشجرة } إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها ، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي .
والاستثناء في قوله : { إلا أن تكونا ملكين } استثناء من علل ، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلاّ لغرض أن تكونا مَلكين ، فتعين تقدير لام التّعليل قبل ( أنْ ) وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على ( أنْ ) مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس .
وكونُهما مَلكين أو خالدَيْن علّة للنّهي : أي كونكما ملَكين هو باعث النّهي ، إلاّ أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله ، أي هو علّة في الجملة ، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير : كراهة أن تكونا .
وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، كما تقدّم في سورة الأنعام ، وقيل حذفت ( لا ) بعد ( أن ) وحذفها موجود ، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه . وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة ، إذا أكلا من الشّجرة ، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذْ ألفى آدم وزوجه غير متبصّريْن في حقائق الأشياء ، ولا عالِمَيْن المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّرِ الموجودات ، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم ، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة ، وقيل المراد التشبيهُ البليغ أي إلاّ أن تكونا في القرب والزلفى كالمَلكين ، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة .
وقوله : { أو تكونا من الخالدين } عطف على : { أن تكونا ملكين } وأصل ( أو ) الدّلالة على التّرْديد بين أحد الشّيئين أو الأشياء ، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلّها فتكون للإباحة بعد الطّلب ، وللتّجويز بعد الخبر أو للشكّ ؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتّخيير بعد الطّلب وللشكّ أو التّرْديد بعد الخبر ، والتّرديدُ لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا ، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشّجرة يكون مَلَكاً وخالداً ، كما قال عنه في سورة طه ( 120 ) : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فجعل نهي الله لهما عن الأكل لاَ يَعدو إرادة أحد الأمرين ، ويستفاد من المقام أنّه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعاً بدلالة الفحوى ، ولم يكن آدم قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر ، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس ، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ البقرة : 36 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فَوَسْوَسَ لَهُما": فوسوس إليهما، وتلك الوسوسة كانت قوله لهما: "ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَة إلاّ أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أو تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ "وإقسامه لهما على ذلك... فوسوس من نفسه إليهما الشيطان بالكذب من القيل "لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوآتِهِما"... ومعنى الكلام: فجذب إبليس إلى آدم حوّاء، وألقى إليهما: ما نهاكما ربكما عن أكل ثمر هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكين، أو تكونا من الخالدين ليبدي لهما ما واراه الله عنهما من عوراتهما. فغطاه بستره الذي ستره عليهما. وكان وهب بن منبه يقول في الستر الذي كان الله سترهما به...: كان عليهما نور لا ترى سوآتهما.
يقول جلّ ثناؤه: وقال الشيطان لاَدم وزوجته حوّاء: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا ثمرها إلا لئلا تكونا ملكين. وأسقطت «لا» من الكلام لدلالة ما ظهر عليها، كما أسقطت من قوله: "يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا "والمعنى: يبين الله لكم أن لا تضلوا. وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يزعم أن معنى الكلام: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين في الجنة الماكثين فيها أبدا فلا تموتا. والقراءة على فتح اللام بمعنى ملَكين من الملائكة. ورُوي عن ابن عباس: «إلاّ أنْ تَكُونا مَلِكَيْنِ» بكسر اللام.. وعن يحيى بن أبي كثير: «ملكين» بكسر اللام. وكأن ابن عباس ويحيى وجها تأويل الكلام إلى أن الشيطان قال لهما: «ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونا مَلِكَيْنِ» من الملوك، وأنهما تأوّلا في ذلك قول الله في موضع آخر: "قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى".
والقراءة التي لا أستجيز القراءة في ذلك بغيرها، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وهي فتح اللام من «مَلَكين»، بمعنى: ملَكين من الملائكة لما قد تقدم من بياننا في أن كلّ ما كان مستفيضا في قرأة الإسلام من القراءة، فهو الصواب الذي لا يجوز خلافه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفيه أنه يجب أن نكون على حذر من شر إبليس اللعين لئلا يجد فرصة علينا، فإنه أبدى على سلب نعمة أنعمها الله على عباده حين احتال كل حيلة حتى أبدى لهما ما ووري وسُتر عنهما من العورة، وعمل في إخراجهما من النعم واللّذّات، وأوقعهما في الشدائد والمشقة، وفيه أنه ليس حال عليه أشد من أن يرى أحدا في النعم والسعة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أما الوسوسة فهي إخفاء الصوت بالدعاء، ووسوس إليه إذا ألقى إليه المعنى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "ليبدي لهما "فالإبداء: الاظهار، وهو جعل الشيء على صفة ما يصح أن يدرك، وضده الإخفاء، وكل شيء أزيل عن الساتر فقد أبدي. وقوله "ما ووري" فالمواراة: جعل الشيء وراء ما يستره. ومثله المساترة، وضده المكاشفة... وقيل للفرج سوأة، لأنه يسوء صاحبه إظهاره، وكلما قبح إظهاره سوأة، والسوء من هذا المعنى. واذا بالغوا قالوا: السوأة السوآء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نِسْبَتُه ما حَصَلَ منهما إلى الشيطان من أمارات العناية، كانت الخطيئةُ منهما لكنَّه تعالى قال: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}.
قوله جلّ ذكره: {لِيُبْدِي لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا}، وفي ذلك دلالة على عناية زائدة حيث قال: {لِيُبْدِي لَهُمَا} فلم يطلع على سوأتهما غيرهما.
قوله جلّ ذكره: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ}. تاقت أنفسهما إلى أن يكونا مَلَكين -لا لأن رتبة الملائكة كانت أعلى من رتبة آدم عليه السلام- ولكن لانقطاع الشهوات والمنى عنهما. ويقال لمَّا طمعا في الخلود وقعا في الخمود، ووقعا في البلا والخوف؛ وأصلُ كلَّ محنة الطمعُ. ويقال إذا كان الطمع في الجنة -وهي دار الخلود- أَوْجَبَ كُلَّ تلك المحن فالطمع في الدنيا -التي هي دار الفناء- متى يسلم صاحبه من ذلك؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِيُبْدِيَ} جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره، وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«الوسوسة» الحديث في اختفاء همساً وسراراً من الصوت، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه،،، هذا في حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس...
أما قوله تعالى: {ليبدي لهما} في هذا اللام قولان: أحدهما: أنه لام العاقبة كما في قوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} وذلك لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما، ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتهما، وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط. الثاني: لا يبعد أيضا أن يقال: إنه لام الغرض: أن يجعل بدو العورة كناية عن سقوط الحرمة وزوال الجاه، والمعنى: أن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم زوال حرمته وذهاب منصبه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والوسواس: اسم الشيطان، قال الله تعالى: "من شر الوسواس الخناس.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
معناه: أن النهي لم يقع لمفسدة في الشجرة ولا لسبب من الأسباب، على زعمه لعنه الله، إلا لسبب واحد وهو ألا يصلا إلى رتبة الملائكة، فهذا هو سبب النهي، هذا معنى الكلام الذي قصده إبليس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أمماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل، وأن الكل بيده سبحانه، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم، وأن "من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون"، فقال: {فوسوس} أي ألقى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء... {لهما الشيطان} أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله: {ليبدي} أي يظهر... {لهما ما وري} أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه {عنهما} والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله ينزع عنهما لباسهما} [الأعراف: 27]... و {من سوءاتهما} أي المواضع التي يسوءهما انكشافها، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للبعد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين...
ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع طويل، عطف عليه قوله: {وقال} أي في وسوسته أيضاً، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما بهذا القول: {ما نهاكما} وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال: {ربكما} أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه {عن} أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن {هذه الشجرة} جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص {إلا أن} أي كراهية أن {تكونا ملكين} أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم {أو تكونا} أي بما يصير لكما من الجبلة {من الخالدين*} أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
...قال الحاكم: وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة. قال الأصم: في الآية دليل على أنهما كرها التعري، وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعري، وإن لم يكن مع المتعري أحد، إلا لحاجة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} قال الراغب: الوسوسة: الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي، والهمس الخفي، قال: {فوسوس إليه الشيطان} (طه 120) وقال: {من شر الوسواس} (الناس 4) ويقال لهمس الصائد وسواس،اه. فوسوسة الشيطان للبشر هي ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم ومعاملتهم وقد فصلنا القول في ذلك مرارا. والظاهر هنا أن الشيطان تمثل لآدم وزوجه وكلمهما وأقسم لهما، ولا مانع منه على قول الجمهور. ومن جعل القصة تمثيلا لبيان حال النوع البشري في الأطوار التي تنقل فيها يفسر الوسوسة بما تقدم آنفا فإن الإنسان عندما ينتقل من طور الطفولة التي لا يعرف فيها هما ولا نصبا إلى طور التمييز الناقص يكون كثير التعرض لوسوسة الشيطان وأتباعها. وقد عللت هذه الوسوسة بأن غايتها أو غرضه منها أن يظهر لهما ما غطي وستر عنهما من سوآتهما. يقال وارى الشيء: إذا غطاه وستره و (ووري الشيء): غطي وستر، والسوأة ما يسوء الإنسان من أمر شائن وعمل قبيح. والسوأة السوآء: الخلة القبيحة والمرأة المخالفة...
وإذا أضيفت السوءة إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري ما لم يفسده بتعود إظهارها مع آخرين فيرتفع الحياء بينهم...
{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِين} أي وقال فيما وسوس به لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا منها إلا لأحد أمرين: اتقاء أن تكونا بالأكل منها ملكين أي كالملكين فيما أوتي الملائكة من الخصائص كالقوة وطول البقاء وعدم التأثير بفواعل الكون المؤلمة والمتعبة وغير ذلك، وقرأ ابن عباس وابن كثير "ملِكين "بكسر اللام واستشهد له الزجاج له بما حكاه تعالى عن الشيطان في سورة طه بقوله: {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} (طه 120) وهو ضعيف والقراءة شاذة أو اتقاء أن تكونا من الخالدين في الجنة، أو الذين لا يموتون البتة. أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة يعطي الآكل صفة الملائكة وغرائزهم ويقتضي الخلود في الحياة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له.. إن هذا الكائن المتفرد؛ الذي كرمه الله كل هذا التكريم؛ والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب؛ والذي أسجد له الملائكة فسجدوا؛ والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى.. إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة؛ مستعد للاتجاهين على السواء. وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها -ما لم يلتزم بأمر الله فيها- ومن هذه النقط تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه.. إن له شهوات معينة.. ومن شهواته يمكن أن يقاد! وراح إبليس يداعب هذه الشهوات:... ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم؛ لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه. ولكننا نعلم -بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب- أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور؛ وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات. وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان. وأن هذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر؛ حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر؛ وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير.. وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.. فهذا كان هدفه.. لقد كانت لهما سوآت، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها -وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية، فكأنها عوراتهما- ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة: (وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)...
. بذلك داعب رغائب "الإنسان "الكامنة.. إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت أو معمرا أجلا طويلاً كالخلود! ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد...
. وفي قراءة: (ملكين) بكسر اللام. وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه: هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى.. وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال: إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلاً بعد جيل... -وعلى قراءة (ملكين) بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود.. ولكن القراءة الأولى- وإن لم تكن هي المشهورة -أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانت وسوسة الشّيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشّجرة، فعبّر عن القرب بحرف التّعقيب إشارة إلى أنّه قرب قريب، لأنّ تعقيب كلّ شيء بحسبه.
والوسوسة: الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلاّ المُداني للمتكلّم...
وسمي إلقاء الشيطان وسوسة: لأنّه ألقَى إليهما تسويلاً خفياً من كلام كلمهما أو انفعالٍ في أنفسهما. كهيئة الغاش الماكر إذْ يُخفِي كلاماً عَن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشّه بفضح مضاره فألقى لهما كلاماً في صورة التّخافت ليوهمهما أنّه ناصح لهما وأنّه يخافت الكلام، وقد وقع في الآية الأخرى التّعبير عن تسويل الشّيطان بالقول: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخُلْد وملك لا يبلى} [طه: 120] ثمّ درج اصطلاح القرآن وكلام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على تسمية إلقاء الشّيطان في نفوس النّاس خواطرَ فاسدة، وسوسة تقريباً لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله: {من شر الوسواس الخنّاس} [الناس: 4] وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم.
واللاّم في: {ليبدي} لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان. ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله، ثم لغرض الإضرار بهما، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة، ولمّا كان عدُوّاً لهما كان يسعى إلى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضَى الله عنهما، ويعلم أنّ العصيان يُفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال، فكان مظهر ذلك السوء إبداءَ السوْآت، فجُعل مفصِّلُ العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّةَ، وإن لم تخطر بباله، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل. والحاصلُ أنّه أراد الإضْرار، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر، كما سيصرّح به فيما بعدُ، وفي قوله تعالى: {إن الشّيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6].
والإبداء: ضدّ الإخفاء، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره، ويطلق مجازاً على معرفة الشّيء بعد جهله يقال: بدَا لي أنْ أفعل كذا.
وأسند إبداءُ السوْآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمعُ سوْأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقايص، ومِن سَب العرب قولهم: سوأةً لك، ومن تلهّفهم: يا سوْأتَا.
ويكنّى بالسوأة عن العورة. ومعنى ووُري عنهما حجب عنهما وأخفي، مشتقاً من المواراة وهي التّغطيّة والإخفاء وتطلق المواراة مجازاً على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس.
والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة...
فتكون صيغة الجمع على حقيقتها، والسّوآت حينئذٍ مستعمل في صريحه، ويجوز أن تكون جمع السوأة، المكنى بها عن العورة، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم} [الأعراف: 26] وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى: {فقد صَغَت قلوبكما} [التحريم: 4]. وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} [الأعراف: 22].
وعطفُ جملة: {وقال ما نهاكما ربكما} على جملة {فوسوس} يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غيرَ قوله: {ما نهاكما} إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما، ولو كانت جملة: {ما نهاكما} إلى آخرها بياناً لجملة {فوسوس} لكانت جملة: {وقال ما نهاكما} بدون عاطف، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن. وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما. ألا ترى أنّه لم يعطف قوله، في سورة طه (120): {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالاً لطاعته، واستزلالاً لقدمه، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} الآية فأشار إلى الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائِهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوْق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصصُ مقصداً أصلياً للتنزيل.
والإشارة بقوله: {عن هذه لشجرة} إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي.
والاستثناء في قوله: {إلا أن تكونا ملكين} استثناء من علل، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلاّ لغرض أن تكونا مَلكين، فتعين تقدير لام التّعليل قبل (أنْ) وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على (أنْ) مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس.
وكونُهما مَلكين أو خالدَيْن علّة للنّهي: أي كونكما ملَكين هو باعث النّهي، إلاّ أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله، أي هو علّة في الجملة، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير: كراهة أن تكونا.
وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، كما تقدّم في سورة الأنعام، وقيل حذفت (لا) بعد (أن) وحذفها موجود، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه. وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة، إذا أكلا من الشّجرة، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذْ ألفى آدم وزوجه غير متبصّريْن في حقائق الأشياء، ولا عالِمَيْن المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّرِ الموجودات، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة، وقيل المراد التشبيهُ البليغ أي إلاّ أن تكونا في القرب والزلفى كالمَلكين، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة.
وقوله: {أو تكونا من الخالدين} عطف على: {أن تكونا ملكين} وأصل (أو) الدّلالة على التّرْديد بين أحد الشّيئين أو الأشياء، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلّها فتكون للإباحة بعد الطّلب، وللتّجويز بعد الخبر أو للشكّ؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتّخيير بعد الطّلب وللشكّ أو التّرْديد بعد الخبر، والتّرديدُ لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشّجرة يكون مَلَكاً وخالداً، كما قال عنه في سورة طه (120): {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} فجعل نهي الله لهما عن الأكل لاَ يَعدو إرادة أحد الأمرين، ويستفاد من المقام أنّه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعاً بدلالة الفحوى، ولم يكن آدم قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 36].
وقوله الحق: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معا.
وقد سميت "سوءة "و "عورة"، لأنها تسوء، فلماذا تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين: فتحة في الفم، وفتحة في العورة؟ إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا كما قلنا في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن إعداد الله يعطي كلا منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية؟. نعم؛ لأن كل شيء يخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجا من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (من الآية 20 سورة الأعراف): لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق: أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير ملكا، أو خالدا. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفا واهيا وغبيا؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكا أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله ملكا أو خالدا؟ وفي هذا درس يبين لنا أن من يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل. وإذا كان الشيطان قد قال: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ14} (من الآية 20 سورة الأعراف): فلماذا لم ينقد نفسه بالكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟. إذن كان ما يقوله الشيطان كذبا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
التوهّم علَّة الانحراف، ولكنّ إبليس الذي أخرجه الله من الجنة ومنعه أن يسكنها، كان يملك الاقتراب منها، أو التردّد عليها، فعمل على أن يثير في داخلهما الأفكار التي تجعل من هذه الشجرة قضيّةً مهمةً ذات أبعادٍ كبيرةٍ في حياتهما، وأن يحوّل هذا السلام الداخلي والصفاء الروحي اللذين يعيشانهما في علاقتهما بالله إلى حالةٍ عنيفةٍ من الهمّ والقلق والتطلُّع إلى آفاق موهومةٍ يفتحها الخيال الذي يريد إثارته في أحلامهما. وتلك هي قصّة الأحلام السعيدة في أكثر مظاهرها، فهي تتحرك من مواقع الخيال الذي يتحرك في النفس كما يتحرك الضباب، فيحسّ معه الإنسان بسحر الغموض الذي لا يطيق معه أن يخرج إلى مطالع النور، وكلّما زادت خيالات الإنسان، كلما ابتعدت الصورة الحقيقية عن وجدانه، لأنه يعطيها ضخامة لا تملكها، وسحراً لا تحتويه. وهذا ما يزيّن المعصية لدى الإنسان، عندما يتحرك للاعتداء على ما يملكه غيره، مما يملك مثله، على أساس الخيالات التي تصوّر له أنه يتميز عمّا لديه. وهذا ما عبّر عنه الإمام علي (ع) عندما كان جالساً بين أصحابه ذات يوم، فمرّت امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال لهم: «إن أبصار هذه الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته»...
هذا ما يريد أن يثيره في أنفسهم.. ليس هناك فرقٌ بين الشهوة التي يحصل عليها من الاتصال بامرأته أو من الاتصال بامرأة أخرى، إلا في ما يثيره الخيال في نفس الإنسان من أوهام، بما تحدثه من أحاسيس ومشاعر حميمة لا أساس لها. وهذا ما بدأه إبليس في تجربته الأولى لإغواء آدم وحوّاء؛ فقد عاشا في الجنّة، ولا فكرة لهما عن المستقبل، ولا عن الحياة والموت، أو عن الخلود والفناء، ولا طموح لهما في مسألة الملك والرفعة؛ فهما هنا في الجنة في رضوان الله ونعيمه، يعيشان السعادة والطمأنينة والسلام الروحي دون مشكلة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} بطريقته الخاصة، وأثار في داخلهما الإحساس بفكرةٍ جديدةٍ لم تخطر لهما على بال؛ فهما هنا في الجنة يستمتعان بكل شيءٍ فيها، ما عدا هذه الشجرة، فلماذا المنع عن هذه الشجرة بالذات؟ لا بد أن هناك سراً خفياً وراء ذلك، فما هو هذا السر؟!... وبدأت الأخيلة الجديدة تثير علامات الاستفهام أمامهما... ما هذا وما ذاك؟ وما دور هذا، وما دور ذاك... وتحوّلت الوسوسة الخفية الدائمة، إلى حالةٍ من القلق الخفيف الذي يزحف على المشاعر فيحرّكها في حالةٍ من التوتر والارتباك... واستمر إبليس في إثارة الوسوسة في داخلهما {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَتِهِمَا} ليعيشا هذا الهاجس العضوي في جسديهما...
{وَقَالَ مَا نَهَكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَلِدِينَ} وأثار في داخلهما طموح الملك والسيطرة والخلود، وربط ذلك بالشجرة، فهي تحمل في ثمرها سرّ الخلود والملك. فانطلقا إليها بكل شوقٍ ولهفةٍ، وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله ونهيه، لأن الإنسان إذا استغرق في مشاعره وطموحاته الذاتية، واستسلم لأحلامه الخياليّة، نسي ربّه، ونسي موقعه منه، وأصبح يفكّر في الاتجاه الواحد الذي يقوده إليها بعيداً عن كل مسؤولية...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
- سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين لا غير...