{ إلا الذين عاهدتم من المشركين } . هذا استثناء من قوله { براءة من الله ورسوله إلا الذين عاهدتم من المشركين } إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين ، وهم بنو ضمرة ، حي من كنانة ، أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر ، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد ، وهذا معنى قوله تعالى .
قوله تعالى : { ثم لم ينقصوكم شيئا } . من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه .
قوله تعالى : { ولم يظاهروا } ، ولم يعاونوا .
قوله تعالى : { عليكم أحدا } ، من عدوكم ، وقرأ عطاء بن يسار : لم ينقصوكم ، بالضاد المعجمة ، من نقض العهد .
قوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم } . فأوفوا لهم بعهدهم .
قوله تعالى : { إلى مدتهم } . إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه .
وبعد تقرير المبدأ العام في العلاقات بالبراءة المطلقة من المشركين ومن عهودهم يجيء الاستثناء المخصص للحالات المؤقتة ، التي يصار بعدها إلى ذلك المبدأ العام :
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ، ولم يظاهروا عليكم أحداً ، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين } . .
وأصح ما قيل عن هؤلاء الذين ورد فيهم هذا الاستثناء أنهم جماعة من بني بكر - هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة - لم ينقضوا عهدهم الذي كان في الحديبية مع قريش وحلفائهم ، ولم يشتركوا مع بني بكر في العدوان على خزاعة ، ذلك العدوان الذي أعانتهم عليه قريش ، فانتقض بذلك عهد الحديبية ، وكان فتح مكة بعد سنتين اثنتين من الحديبية ، وكان العهد لمدة عشر سنوات من الحديبية . وكانت هذه الجماعة من بني بكر بقيت على عهدها وبقيت على شركها . فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم . والذي يؤيد ما ذهبنا إليه - وهو رواية محمد بن عباد بن جعفر - أن السدي يقول : " هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج حيان من بني كنانة . وأن مجاهد يقول : " كان لبني مدلج وخزاعة عهد فهو الذي قال الله { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } . . غير أنه يلاحظ أن خزاعة كانت قد دخلت في الإسلام بعد الفتح . وهذا خاص بالمشركين الذين بقوا على شركهم . . كما يؤيده ما سيجيء في الآية السابعة من قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } . . فهذان الحيان من كنانة ممن عاهدوا عند المسجد الحرام في الحديبية ، ثم لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً . فهم المعنيون في الاستثناء أولاً وأخيراً كما ذهب إلى ذلك المفسرون الأوائل ، وقد أخذ بهذا القول الأستاذ الشيخ رشيد رضا . وذهب الأستاذ محمد عزة دروزة إلى أن المعنيين بالمعاهدين عند المسجد الحرام هم طائفة أخرى غير المذكورة في الاستثناء الأول . ذلك أنه كان يحب أن يذهب إلى جواز قيام معاهدات دائمة بين المسلمين والمشركين ، فارتكن إلى قوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ليستدل منه على جواز تأبيد المعاهدات ! وهو قول بعيد كل البعد عن طبيعة الموقف ، وعن طبيعة المنهج ، وعن طبيعة هذا الدين أيضاً ! كما بينا ذلك مراراً .
لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم ، فلم يمهلهم أربعة أشهر - كما أمهل كل من عداهم - ولكنه أمهلهم إلى مدتهم . ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئاً مما عاهدوهم عليه ، ولم يعينوا عليهم عدواً ، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته .
ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك ؛ وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام ؛ لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره ، وأخذوا يجمعون له كما سيجيء في الحديث عن غزوة تبوك - ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذاراً بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم . فضلاً على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن ، للتألب على الدين الجديد .
ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم . بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض ، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضاً !
لقد علم الله - سبحانه - وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة ، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة ؛ وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت ؛ وأنها تجيء في أوانها المناسب ؛ وفق واقع الأمر الظاهر ، وفق قدر الله المضمر المغيب . فكان هذا الذي كان .
ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم :
{ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } . .
إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى الله وحبه - سبحانه - للمتقين . فيجعل هذا الوفاء عبادة له ؛ وتقوى يحبها من أهلها . . وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام . . إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة ؛ وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبداً . . إنها قاعدة العبادة لله وتقواه . فالمسلم يتخلق بما يحبه الله منه ويرضاه له ؛ وهو يخشى الله في هذا ويتطلب رضاه . ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام ؛ كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل . . ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد ، وتؤمن مصالحهم ، وتنشئ مجتمعاً تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن ، وترتفع بالنفس البشرية صُعداً في الطريق الصاعد إلى الله . .
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر ، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله ، أربعة أشهر ، يسيح في الأرض ، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت ، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث : " ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته " وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين أحدا ، أي : يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده{[13247]} إلى مدته ؛ ولهذا حرض{[13248]} الله تعالى على الوفاء بذلك فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : الموفين بعهدهم .
هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره في المشركين الذين بقي من عهدهم تسعة أشهر وكانوا قد وفوا بالعهد على ما يجب ، وقال قتادة : هم قريش الذين عوهدوا زمن الحديبية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الأذان بهذا كله ، وقال ابن عباس : قوله { إلى مدتهم } إلى الأربعة الأشهر التي في الآية ، وقرأ الجمهور «ينقصوكم » بالصاد غير منقوطة ، وقرأ عطاء بن يسار وعكرمة وابن السميفع «ينقضوكم » بالضاد من النقض وهي متمكنة مع العهد ولكنها قلقة في تعديلها إلى الضمير ، ويحسن ذلك أن النقض نقض وفاء وحق للمعاهد ، وكذلك تعدى «أتموا » ب «إلى » لما كان العهد في معنى ما يؤدى ويبرأ به{[5513]} وكأنهم يقتضون العهد ، و { يظاهروا } معناه يعاونوا ، والضمير المعين ، وأصله من الظهر كان هذا يسند ظهره إلى الآخر والآخر كذلك وقوله { إن الله يحب المتقين } تنبيه عكلى أن الوفاء بالعهد من التقوى .
استثناء من المشركين في قوله : { أن الله بريء من المشركين } [ التوبة : 3 ] ، ومن { الذين كفروا } في قوله : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } [ التوبة : 3 ] لأنّ شأن الاستثناء إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعُها ممّا يصلح لِذلك الاستثناء ، فهو استثناء لهؤلاء : من حكم نقض العهد ، ومن حُكم الإنذار بالقتال ، المترتّببِ على النقض ، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم .
والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة ، وقد بين مدلول الاستثناء قوله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } .
وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم لم ينقصوكم شيئاً } للتراخي الرتبي ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول .
والنقصُ لِشيء إزالة بعضه ، والمراد : أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه . وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ ( ثُمَّ ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة ، أي بُعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه ، بُعد كمال وارتفاع شأن . فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به .
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين ، ووفّوا به على أتمّ وجه ، فلم يكيدوا المسلمين بكيد ، ولا ظاهروا عليهم عدّواً سِرًّا ، فهؤلاء أمِر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها . ومن هؤلاء : بنو ضَمره ، وحَيَّان من بني كنانة : هم بنو جذيمة ، وبنو الدِّيل . ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية .
وقد علم من هذا : أنّ الذين أمَر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك ، وهم قوم نقصُوا ممّا عاهدوا عليه ، أي كَادوا ، وغدروا سرّاً ، أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة .
ومن هؤلاء : قريظة أمَدُّوا المشركين غير مرّة ، وبنو بَكر ، عَدَوْا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعُبِّر عن فعلهم ذلك بالنقصصِ لأنّهم لم ينقضوا العهد علناً ، ولاَ أبطلوه ، ولكنهم أخلُّوا به ، ممّا استطاعوا أن يَكيدوا ويمكروا ، ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه .
وذكر كلمة { شيئاً } للمبالغة في نفي الانتقاص ، لأنّ كلمة « شيء » نكرة عامّة ، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود ، كما تقدّم في قوله تعالى : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } في سورة البقرة ( 113 ) .
والمظاهرة : المعاونة ، يجوز أن يكون فعلها مشتقّاً من الاسم الجامد وهو الظهر ، أي صُلب الإنسان أو البعيرِ ، لأنّ الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلّب ، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل ، يقال : بعير ظهير ، أي قوي على الرحلة ، مُثِّلَ المُعِين لأحدٍ على عمل بحال من يُعطيه ظهره يحمل عليه ، فكأنّه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره ، فمن ثَمّ جاءت صيغة المفاعلة ، ومثله المعاضدة مشتقّة من العَضد ، والمساعدة من الساعد ، والتأييد من اليد ، والمكاتفة مشتقّة من الكتف ، وكلّها أعضاء العمل .
ويجوز أن يكون فعله مشتقّاً من الظهور ، وهو مصدر ضدّ الخفاء ، لأنّ المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس ، فمُثِّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء ، ولذلك يعدى بحرف ( على ) للاستعلاء المجازي ، قال تعالى : { وإن تظاهرا عليه } [ التحريم : 4 ] وقال { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة } [ التوبة : 8 ] وقال { ليظهره على الدين كله } [ الفتح : 28 ] وقال { والملائكة بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] أي معين .
والفاء في قوله : { فأتموا } تفريع على ما أفاده استثناء قوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } إلخ ، وهو أنّهم لا تشملهم البراءة من العهد .
والمدّة : الأجل ، مشتقّة من المَدّ لأنّ الأجل مَدّ في زمن العمل ، أي تطويل ، ولذلك يقولون : مَاد القُوم غيرَهم ، إذا أجَّلوا الحربَ إلى أمد ، وإضافة المدّة إلى ضمير المعاهَدين لأنّها منعقدة معهم ، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ، ولكن رجّح هنا جانبهم ، لأنّ انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به ، إذ صار المسلمون أقوى منهم ، وأقدر على حربهم .
وجملة : { إن الله يحب المتقين } تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأنّ ذلك من التقوَى ، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به ، لأنّ الإخبار بمحبة الله المتّقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى .
ثم إنّ قبائل العرب كلّها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدّة فانتهت حُرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: "وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ اللّهَ بَريءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، إلاّ من عهد "الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ "أيها المؤمنون، "ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا "من عهدكم الذي عاهدتموهم، "ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا من عدوّكم"، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال. "فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ" يقول: ففوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه، ولا تنصبوا لهم حربا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم. "إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ" يقول: إن الله يحبّ من اتقاه بطاعته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...ثم لم ينقصوكم من شروطكم العهد شيئا، ولم يظاهروا عليكم أحدا فالمظاهرة: المعاونة على العدو للظهور عليه...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{إلا الذين عاهدتم من المشركين}. هذا استثناء من قوله {براءة من الله ورسوله إلا الذين عاهدتم من المشركين} إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين، وهم بنو ضمرة، حي من كنانة، أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر...
واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: أحدهما: قوله: {ثم لم ينقصوكم}، والثاني: قوله: {ولم يظاهروا عليكم أحدا}. والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم، ومن الثاني: أن يهيجوا أقواما آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت، فأجله، أربعة أشهر، يسيح في الأرض، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا من له عهد مؤقت، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، وقد تقدمت الأحاديث:"ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته" وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين أحدا، أي: يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته؛ ولهذا حرض الله تعالى على الوفاء بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي: الموفين بعهدهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم استثنى من هؤلاء الذين تبرأ من عهودهم، وأمر بوعيدهم وتهديدهم، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر، من حافظوا على عهدهم بالدقة التامة والإخلاص فقال: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}...
والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقودا، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره، من نص القول وفحواه ولحنه، والمعبر عنهما في هذا العصر بروحه. فإن نقص شيئا ما من شروط العهد وأخلّ بغرض ما من أغراضه عد ناقضا له، إذ قال: {ثم لم ينقصوكم شيئا} ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي، فيصدق بأدنى إخلال بالعهد. وقرئ في الشواذ (ينقضوكم) بالضاد المعجمة والمهملة أبلغ، ومن الضروري أن من شروطه -التي ينتقض بالإخلال بها- عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا، وقد صرح بهذا للاهتمام به، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر- أي معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به- كمباشرته للقتال وغيره بنفسه، يقال ظاهره إذا عاونه {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} [الأحزاب: 26]، وظاهره عليه إذا ساعده عليه. وتظاهروا عليهم تعاونوا. وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة، ومنه بعير ظهير، ويحتمل أن يكون من الظهور.
{إن الله يحب المتقين} أي لنقض العهود وإخفار الذمم، ولسائر المفاسد المخلة بالنظام، والعدل العام.
وقد ورد في تنفيذ أمر الله تعالى بهذه البراءة والأذان بها- أي التبليغ العام العلني لها- أحاديث في الصحاح والسنن وكتب التفسير المأثور فيها شيء من الخلاف والتعارض نقتصر على أمثلها وأثبتها، وما يجمع بين الروايات ويزيل تعارضها. فجملة تلك الروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع، وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام، ثم أردفه بعلي (رضي الله عنه) ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها. ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لمسألة نبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة وهي 40 أو 33 آية، وما ذكر في بعض الروايات من التردد بين 30 و40 فتعبير بالأعشار، مع إلغاء كسرها من زيادة ونقصان، وذلك لأن من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان يساعده على ذلك ويأمر بعض الصحابة كأبي هريرة بمساعدته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد تقرير المبدأ العام في العلاقات بالبراءة المطلقة من المشركين ومن عهودهم يجيء الاستثناء المخصص للحالات المؤقتة، التي يصار بعدها إلى ذلك المبدأ العام:
{إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}...
لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم، فلم يمهلهم أربعة أشهر -كما أمهل كل من عداهم- ولكنه أمهلهم إلى مدتهم. ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئاً مما عاهدوهم عليه، ولم يعينوا عليهم عدواً، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته.
ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك؛ وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام؛ لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره، وأخذوا يجمعون له كما سيجيئ في الحديث عن غزوة تبوك -ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذاراً بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم. فضلاً على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن، للتألب على الدين الجديد.
ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم. بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضاً!
لقد علم الله- سبحانه -وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة؛ وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت؛ وأنها تجيء في أوانها المناسب؛ وفق واقع الأمر الظاهر، وفق قدر الله المضمر المغيب. فكان هذا الذي كان.
ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم:
{فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين}..
إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى الله وحبه- سبحانه -للمتقين. فيجعل هذا الوفاء عبادة له؛ وتقوى يحبها من أهلها.. وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام.. إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة؛ وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبداً.. إنها قاعدة العبادة لله وتقواه. فالمسلم يتخلق بما يحبه الله منه ويرضاه له؛ وهو يخشى الله في هذا ويتطلب رضاه. ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام؛ كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل.. ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد، وتؤمن مصالحهم، وتنشئ مجتمعاً تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن، وترتفع بالنفس البشرية صُعداً في الطريق الصاعد إلى الله..