اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ} (4)

قوله { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين } في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّه استثناءٌ منقطعٌ ، والتقديرُ : لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم ، وإلى هذا نحا الزَّمخشري{[17567]} ، فإنه قال : " فإن قلت : ممَّا استثنى قوله : " إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم " ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : " فسيحُوا في الأرضِ " ؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم ، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم ، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا ، فأتمُّوا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم .

الثاني : أنَّه استثناءٌ متصلٌ ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة ، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم ، وفيه ضعفٌ ؛ قاله الزَّجَّاجُ ، فإنَّه قال : " إنَّه عائد إلى قوله : " براءةٌ " والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد " .

الثالث : أنَّه مبتدأ ، والخبر قوله : " فأتمُّوا إليهِمْ " قاله أبو البقاءِ ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها ، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط ؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم ، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش ، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً ، والأولى أنَّهُ منقطعٌ ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة ، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى ، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة .

قوله { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } الجمهور " يَنقصُوكُم " بالصَّاد المهملة ، وهو يتعدَّى لواحدٍ ، ولاثنين ، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف " كُمْ " مفعولٌ أول ، و " شَيْئاً " إمَّا مفعول ثان ، وإمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من النقصان ، أو : لا قليلاً ، ولا كثيراً من النقصان .

وقرأ عطاءُ بن السائب{[17568]} الكوفي وعكرمة ، وابن السَّمَيْفع ، وأبو زيد " يَنقُضُوكم " بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف ، أي : ينقضُوا عهدكم ، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه .

قال الكرمانيُّ : " وهي مناسبة لذكر العهد " . أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهد ، وهي قريبة من قراءة العامَّة ، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام .

فصل

ومعنى قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين } وهم بنو ضمرة حي من كنانة ، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا ، أي : لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، " ولمْ يُظاهِرُوا " لم يعاونوا " عَليكُمْ أحَداً " من عدوكم ، " فأتمُّوا إليهم عهدَهُم " الذي عاهدتموهم عليه ، أي : أوفوقا بعهدهم : " إلى مُدتِهِم " إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه " إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ " أي : إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض ، ونكث العهد ، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث .


[17567]:ينظر: الكشاف 2/245.
[17568]:ينظر: المحرر الوجيز 3/7، البحر المحيط 5/11، الدرالمصون 3/443.