الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ} (4)

قوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع . والتقدير : لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ فإنه قال : " فإن قلت : مِمَّ استثنى قولَه { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم ؟ } قلت : وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ } لأن الكلامَ خطابٌ للمسلمين ، ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم : سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم . والاستثناءُ بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين : ولكن الذين لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم " .

الثاني : أنه استثناءٌ متصلٌ ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره : اقتلوا المشركين المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم . وفيه ضعفٌ .

الثالث : أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ لأنَّ الفاءَ تزاد في غير موضعها ، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُِناسٍ بأعيانهم ، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً . والأَوْلَى أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة .

قوله : { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } الجمهور " يَنْقُصوكم " بالصاد مهملةً ، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين . ويجوز ذلك فيه هنا ، ف " كُمْ " مفعولٌ ، و " شيئاً " : إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من النقصان ، أو لا قليلاً و [ لا ] كثيراً من النقصان . وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع/ وأبو زيد " يَنْقُضوكم " بالضاد المعجمة ، وهي على حَذْفِ مضاف أي : ينقضوا عهدكم ، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه . قال الكرماني : " وهي مناسِبة لِذِكْرِ العهد " أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ ، وهي قريبة من قراءة العامة ؛ فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها التمام .