116- وإن هذا المصير المؤلم لمن هم كذلك ، لأنهم أعداء الإسلام ، ومثله مثل من أشرك بالله ، وإن كل ذنب قابل للغفران إلا الشرك بالله ، وعبادة غيره ، ومعاندة رسوله في الحق ، فإن الله من شأنه المغفرة إلا أن يشرك به في عبادته ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وإن من يشرك بالله في عبادته وولائه فقد تاه عن الحق وبَعُدَ عنه كثيراً ، لأنه أفسد عقله ونفسه .
قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا } أي : ذهب عن الطريق وحرم الخير كله ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن هذه الآية في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني شيخ منهك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته ، وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه ولياً ، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً ، وإني لنادم ، تائب ، مستغفر ، فما حالي ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ويعلل النص هذا المصير البائس السيء ، بأن مغفرة الله - سبحانه - تتناول كل شيء . . إلا أن يشرك به . . فهذه لا مغفرة لمن مات عليها :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به . ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) . .
والشرك بالله - كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل - يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذا صريحا على طريقه الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة - كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص الألوهية ؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص . كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ولم يكونوا عبدوهم مع الله . ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله . فحرموا عليهم وأحلوا لهم . فاتبعوهم في هذا . ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية ! فحق عليهم وصف الشرك . وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدًا ) . فيقيموا له وحده الشعائر ، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر .
ولا غفران لذنب الشرك - متى مات صاحبه عليه - بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه . . عندما يشاء الله . . والسبب في تعظيم جريمة الشرك ، وخروجها من دائرة المغفرة ، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماما ؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبدا :
( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا ) . .
ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه ؛ ولو قبل الموت بساعة . . فأما وقد غرغر - وهو على الشرك - فقد انتهى أمره وحق عليه القول :
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [ لِمَنْ يَشَاءُ ]{[8330]} } الآية [ النساء : 48 ] ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة .
وقد روى الترمذي حديث ثُوَيْر{[8331]} بن أبي فَاخِتَة سعيد بن عَلاقَةَ ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إليَّ من هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ]{[8332]} } الآية ، ثم قال : حسن غريب{[8333]} .
وقوله : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } أي : فقد سلك غير{[8334]} الطريق الحق ، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه وخسرها{[8335]} في الدنيا والآخرة ، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة .
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } كرره للتأكيد ، أو لقصة طعمة . وقيل جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني شيخ منهك في الذنوب ألا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا ، وإني لنادم تائب فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى . فنزلت { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى .
ثم أوجب تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به ، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية وما يتصل بها من المتعقد والبعد في صفة الضلال ، مقتض بعد الرجوع إلى المحجة البيضاء وتعذره{[4281]} وإن بقي غير مستحيل .
استئناف ابتدائي ، جعل تمهيداً لما بعده من وصف أحوال شركهم . وتعقيب الآية السابقة بهذه مشير إلى أنّ المراد باتّباع غير سبيل المؤمنين اتّباع سبيل الكفر من شرك وغيره ، فعقّبه بالتحذير من الشرك ، وأكّده بأنّ للدلالة على رفع احتمال المبالغة أو المجاز . وتقدّم القول في مثل هذه الآية قريباً . غير أنّ الآية السابقة قال فيها { ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } [ النساء : 48 ] وقال في هذه { فقد ضل ضلالاً بعيداً } وإنّما قال في السابقة { فقد افترى إثماً عظيماً } لأنّ المخاطب فيها أهل الكتاب بقوله : { يأيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم } [ النساء : 47 ] فنبّهوا على أنّ الشرك من قبيل الافتراء تحذيراً لهم من الافتراء وتفظيعاً لجنسه . وأمّا في هذه الآية فالكلام موجه إلى المسلمين فنبّهوا على أنّ الشرك من الضلال تحذيراً لهم من مشاقة الرسول وأحوال المنافقين فإنها من جنس الضلال . وأكِّدَ الخبر هنا بحرف ( قَدْ ) اهتماماً به لأنّ المواجه بالكلام هنا المؤمنون ، وهم لا يشكّون في تحقّق ذلك .
والبعيد أريد به القويّ في نوعه الذي لا يرجى لصاحبه اهتداء ، فاستعير له البعيد لأنّ البعيد يُقصي الكائن فيه عن الرجوع إلى حيث صدر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله لا يغفر أن يشرك به}: يعني يعدل به، فيموت عليه، {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}: ما دون الشرك لمن يشاء، فمشيئته لأهل التوحيد، {ومن يشرك بالله فقد ضل} عن الهدى، {ضلالا بعيدا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به، {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} يقول: ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء، يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه، وكذلك حكم كل من اجترم جرما، فإلى الله أمره، إلا أن يكون جرمه شركا بالله وكفرا، فإنه ممن حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه، فإذا مات على شركه، فقد حرّم الله عليه الجنة، ومأواه النار.
{وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا}: ومن يجعل لله في عبادته شريكا، فقد ذهب عن طريق الحقّ، وزال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا وزوالاً شديدا. وذلك أنه بإشراكه بالله في عبادته، فقد أطاع الشيطان وسلك طريقه وترك طاعة الله ومنهاج دينه، فذاك هو الضلال البعيد والخسران المبين.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) روى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن علي رضي الله عنه انه قال: هذه أحب آية إلي في القرآن...
اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة، وفي تكرارها فائدتان:
الأولى: أن عمومات الوعيد وعمومات الوعد متعارضة في القرآن، وأنه تعالى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين، وقد أعاد هذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة، وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد، فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد، وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد.
والفائدة الثانية: أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع، وقوله {ومن يشاقق الرسول} إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده، فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروما عن رحمتي، ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروما قطع عن رحمة الله، ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيدا، فلا جرم لا يصير محروما عن رحمتي، وهذه المناسبات دالة قطعا على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان فاعل ذلك بعد بيان الهدى هم أهل الكتاب ومن أضلوه من المنافقين بما ألقوه إليهم من الشبه، فردوهم إلى ظلام الشرك والشك بعد أن بهرت أبصارهم أشعة التوحيد؛ حسن إيلاؤه قوله سبحانه وتعالى -معللاً تعظيماً لأهل الإسلام، وحثاً على لزوم هديهم، وذما لمن نابذهم وتوعداً له، إشارة إلى أن من خرق إجماع المسلمين صار حكمه حكم المشركين، فكيف بمن نابذ المرسلين: {إن الله} أي الأحد المطلق فلا كفوء له {لا يغفر أن يشرك به} أي وقوع الشرك به، من أي شخص كان، وبأي شيء كان، لأن من قدح في الملك استحق البوار والهلك، وسارق الدرع أحق الناس بذلك {ويغفر ما} أي كل شيء هو {دون ذلك} أي الأمر الذي لم يدع للشناعة موضعاً- كما هو شأن من ألقى السلم ودخل في ربقة العبودية، ثم غلبته الشهوة فقصر في بعض أنواع الخدمة. ثم دل على نفوذ أمره بقوله: {لمن يشاء}. ولما كان التقدير: فإن من أشرك به فقد افترى إثماً مبيناً، عطف عليه قوله: {ومن يشرك} أي يوقع هذا الفعل القذر جداً في أي وقت كان من ماض أو حال أو استقبال مداوماً على تجديده {بالله} أي الملك الذي لا نزاع في تفرده بالعظمه لأنه لا خفاء في ذلك عند أحد {فقد ضل} أي ذهب عن السنن الموصل {ضلالاً بعيداً} لا تمكن سلامة مرتكبه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله لنا في الآية التي قبل هذه الآية أن جهنم هي مصير من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، وكلا هذين الأمرين كان يكون في زمن الرسول ظاهرا جليا بمثل ما فعل طعمة من ترك صحبة النبي والمؤمنين، وموالاة أعدائهم من المشركين، كما يظهر ذلك في عصره وغير عصره في كل من بلغته دعوته وتبين له الهدى فيها فتركها وعادى أهلها ووالى أعدائهم، فإن مشاقة ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) مشاقة له. ولكن وراء ذلك أنواعا من الكفر والضلال لا يصدق على كل واحد منها أنه مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، كما بينا ذلك في تفسير تلك الآية، وقلنا: إن كل صنف من أصناف الضالين يوليه الله ما تولى ويوجهه إلى حيث توجه بكسبه واجتهاده لأن الله تعالى وكل أمر النوع الإنساني إلى نفسه، إلا أن يختص من شاء من الناس برحمة من لدنه. وبقي علينا أن نعرف ما يجوز أن يغفره الله تعالى للناس من أنواع ضلالهم وخطاياهم ومالا يغفره لهم البتة فإن هذا مما يحتاج إليه في هذا المقام فبينه تعالى بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقد تقدم هذا النص بعينه في سياق آخر من هذه السورة ولم يمنع ذلك من إعادته هنا لأن القرآن ليس قانونا ولا كتابا فنيا فيذكر المسألة مرة واحدة يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها وإنما هو كتاب هداية ومثاني يتلى لأجل الاعتبار والاستبصار تارة في الصلاة وتارة في غير الصلاة، وإنما ترجى الهداية والعبرة بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يوجه النفوس إليها أو يعدها ويهيؤها لقبولها، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة في النفوس إلا بالتكرار، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم، بل قال بعض علماء الاجتماع: إن نشر التجار للإعلانات التي يمدحون بها سلعهم وبضائعهم ويدلون الناس على الأماكن التي تباع فيها هو عمل بهذه القاعدة فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء ولو من المتهم في مدحه لا بد أن يؤثر فيه.
تقدم صدر هذه الآية في هذه السورة وتتمتها هناك {ومن يشرك بالله فقد افترى إثما مبينا} وقد تقدمها هنالك إثبات ضلال أهل الكتاب وتحريفهم ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزله الله على نبيه مصدقا لما معهم، فقد بين لهم أن اتباع الرسول فيما جاء به والتسليم له درجات فمنها ما تغلب النفوس على مخالفته نزوات الشهوة وثورات الغضب ثم يعود صاحبه ويتوب، فهذا مما قد تناله المغفرة، وأما التوحيد الذي هو أساس الدين فلا يغفر الميل عنه إلى ضرب من ضروب الشرك. والآيات التي قبل هذه الآية تفيد أن السياق هنا كالسياق هناك فأعادها لذلك المقصد وهو بيان أن مشاقة الرسول ومخالفته إنما تكون بالخروج عن التوحيد والوقوع في الشرك لأن التوحيد روح الدين وقوامه، فالمناسبة هنا تقتضي أن يعاد هذا المعنى، وهي إعادة تنادي البلاغة بطلبها ولا تعد من التكرار الذي قالوا إنه ينافي البلاغة، فإن هذا إنما يتحقق إذا كان المخاطبون وقد فهموا منك معنى تمام الفهم كما تريد ثم ذكرته لهم بعبارة لا تزيدهم فائدة ولا تأثيرا جديدا ولا تمكينا للمعنى. وأما ما يفيد شيئا من هذا الذي ذكرناه فهو الذي تقتضيه البلاغة. اه...
وأما معنى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهو ظاهر وتقدم في تفسير الآية السابقة ولا يصدنا ذلك أن نقول فيه شيئا هنا نرجو أن يكون مفيدا: أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه به البتة أنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه، وقد بينا في التفسير وفي بعض مباحث المنار أن عقاب الله تعالى للمذنبين هو أثر طبيعي لذنوبهم، وما تحدثه من الصفات القبيحة من أنفسهم، فكما أن السكر يحدث في البدن أمراضا يتعذب صاحبها بها في الدنيا يحدث هو وغيره من الشرور والخطايا أمراضا في القلوب والأرواح يتعذب بها صاحبها في الآخرة. وكما أن قوة البدن وصحة المزاج تغلب بعض جراثيم الأمراض فلا يظهر لها تأثير مؤلم يعذب صاحبه كذلك قوة الروح بالتوحيد وصحة مزاجها بالإيمان والفضائل تغلب بعض المعاصي التي قد يلم بها المؤمن بجهالة أو نسيان ثم يتوب منها من قريب. ولكن قوة البدن لا تدفع ما يعرض للقلب فيقطع نياطه أو للدماغ فيتلفه، وكذلك الشرك يشبه في إفساده للأرواح ما يصيب القلب أو الدماغ من سهم نافذ أو رصاصة قاتلة، فلا مطمع في النجاة من العقاب عليه.
ذلك بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة النفس وضلال العقول فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده. والعروج إلى جوار الله تعالى بروح صاحبه، فإن روحه تكون في الآخرة على ما كانت في الدنيا متعلقة بشركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له، والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصا لله عبدا له وحده فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان ولا الإباق يخرجانه عن كونه عبدا لسيد واحد، ولسيده أن يعاقبه وأن يعفو عنه، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبدا لغيره لا قنا ولا مبعضا {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا مسلما لرجل هل يستويان مثلا؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} بل هم يجهلون أن شركاءهم الذين استكبروا امتيازهم عليهم بعلم أو عمل غير معتاد كبعض الأنبياء والأولياء والملوك، كل هؤلاء عبيد أمثالهم لا ينبغي أن يكون لهم شركة ما في مقام العبادة لا بدعاء ولا نداء، وكذلك ما استكبروا خلقه أو نفعه أو ضره كالكواكب والنار وبعض الأنهار والحيوانات. {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} "أولئك الذين يدعون "أي يدعونهم ويتوسلون بهم هم "يبتغون إلى ربهم الوسيلة" التي تقربهم إليه زلفى وهي التوحيد والإخلاص والعمل الصالح "أيهم أقرب" أي أقربهم وأعلاهم منزلة كالملائكة والمسيح يبتغي هذه الوسيلة إليه عز وجل "ويرجون رحمته ويخافون عذابه" وإن أعرفهم به أشدهم خوفا منه ورجاء في فضله ورحمته. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك كما قال عز وجل فتجد الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى، وتجد ملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء، ويصمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكارا لهم، وإنني أكتب هذا في ضواحي مدينة (دلهي من أعظم مدن الهند) وأنا أرى أصنافا من هؤلاء المشركين يجولون أمامي في مصالحهم {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} [الزخرف:9] وإنما هؤلاء المعبودات أو الأولياء، وسائط بيننا وبينه وشفعاء {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس:18] ولكن الله تعالى لا يقبل العبادة إلا خالصة لوجهه من كل شائبة {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون* إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [الزمر:3].
ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلا وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء، ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله ونداؤه لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكفى ذلك عبادة له هو وشركا بالله عز وجل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الدعاء هو العبادة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح وفي رواية ضعيفة (الدعاء مخ العبادة) و الأولى تفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء، وهو حصر على سبيل المبالغة كأن ما عدا الدعاء لا يعد عبادة بالنسبة إليه. وقد قالوا إن هذا الحديث من قبيل حديث (الحج عرفة) أي هو الركن الأهم الذي لا يعتد بغيره عند تركه، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جدا يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولا سيما عند الشدة، وأن ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان فكله أو جله تعليمي تكليفي يفعل بالتكلف وبالقدوة وقد يكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو العمل عبادة وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية. حتى أن الأدعية التعليمية في جميع الأديان قد تكون خالية من معنى العبادة وروحها الذي ذكرناه سواء دعي بها الله وحده أو دعي بها غيره معه أو وحده، ولا سيما الأدعية الراتبة في الصلوات الموقوتة أو في غير الصلوات، فإن الحافظ لها يحرك بها لسانه في الوقت المعين وقلبه مشغول بشيء آخر، إنما العبادة جد العبادة في الدعاء الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب وقرارة النفس، عند وقوع الخطب، وشدة الكرب، والشعور بشدة الحاجة إلى الشيء، واستعصاء الوسائل إليه، وتقطع الأسباب دونه، ذلك الدعاء الذي تسمعه من أصحاب الحاجات، وذوي الكربات، وعند حدوث الملمات، وفي هياكل العبادات، ولدى قبور الأموات، ذلك الدعاء الخالص الذي يغشاه جلال الإخلاص، ويمثل كل حرف من حروفه معنى الخشوع التام، وناهيك بما يفجره هذا الخشوع، من ينابيع الدموع، ذلك الدعاء الذي يستغله سدنة الهياكل، ويستثمره خدمة المقابر، ويضن به ويدافع عنه رؤساء الأديان، لأنه أشد أركان رياستهم على العوام، ومنهم من يضن به، لأنه لا يرى للجمهور الجاهلين غنى عنه، ولا يرى في حيز الإمكان استبدال التوحيد به، على أن الموحدين أعلى إخلاصا، وأشد حبا لله وخشوعا، {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة:165].
{ومن يشرك بالله} أي ومن يشرك بالله أحدا أو شيئا فيدعوه معه، ويذكر اسمه مع اسمه، أو يدعوه من دونه، ملاحظا في دعائه أنه يقربه إليه زلفى، أو غير ملاحظ ذلك ولا متذكر له، وإن كان بحيث لو ذكر به لذكره، وهذا النوع من الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقواها لأن الاعتقاد فيه يكون وجدانيا حاكما على النفس مستعبدا لها، ودونه الشرك المبني على الفكر والنظر الذي يحاجك صاحبه بالشبهات المشهورة المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوقين، وقياسه على الملوك الظالمين، كقولهم: إن الإنسان المذنب الخاطئ والضعيف المقصر، لا يليق به أن يخاطب الإله العظيم كفاحا، ولا أن يدعوه مباشرة، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم، وقد يكون صاحب هذه العقيدة النظرية مقلدا فيها بالرأي والقول الذي يسميه حجة ودليلا سليم الوجدان من تأثيرها لعدم التقليد فيها بتكرار العمل فهو لا يلابسه إلا قليلا، وكذلك من يشرك في ربوبية الله تعالى باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلون له ما يرون تحليله، ويحرمون عليه ما يرون تحريمه، فيتبعهم في ذلك من يشرك بالله أي نوع من أنواع الشرك.
{فقد ضل} عن القصد وتنكب سبيل الرشد،: {ضلالا بعيدا} عن صراط الهداية، موغلا في مهامه الغواية، لأنه ضلال يفسد العقل ويدسي النفس، فيخضع صاحبه ويستخذي لعبد مثله، ويخشع ويضرع أمام مخلوق يحاكيه أو يزيد عليه في عجزه، فيطيع من لا يطاع، ويرجو ولا موضع للرجاء، ويخاف ولا موطن للخوف، ويكون عبدا للأوهام، عرضة للخرافات، لا استقلال لعقله في إدراكه، ولا لإرادته في عمله، بل يكون عقله ورأيه وإرادته في تصرف بعض المخلوقات التي لا تملك له ولا لأنفسها نفعا ولا ضرا، ولا هداية ولا غواية {قل إني لا أملك لكم ضرا} ولا نفعا، ولا غواية {ولا رشدا، قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا، إلا بلاغا من الله ورسالاته} فهذا أعلى وأعظم ما أعطاه الله تعالى للمصطفين الأخيار من عباده، وميزهم به على سائر عباده، وهو تبليغ رسالته، والدعوة إلى دينه، من غير أن يكونوا مسيطرين ولا جبارين، ولا آلهة أو أربابا معبودين، {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف:110].
فعلم من هذا ومما بيناه من قبل في مثل هذا البحث أن سبب عدم مغفرة الله للشرك مع جواز غفران غيره يؤخذ من قاعدتين:
إحداهما: أن الجزاء في الآخرة هو بسلامة الأرواح وسعادتها أو هلاكها وشقاوتها، هو تابع لما تكون عليه في الدنيا من سلامة الفطرة وصحة العقيدة، ودرجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات، وعمل الصالحات، أو فساد الفطرة، وخطأ العقيدة، والتدنس بالرذيلة.
الثانية: أنَّ لِمَا يكون الناس عليه من الأمرين درجات ودركات، أسفلها وأخسها الشرك، وأعلاها كمال التوحيد، ولكل منهما صفات وأعمال تناسبها، فلو جاز أن يغفر الشرك فتكون روح صاحبه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، تجول مع الملائكة المقربين في عليين، لكان ذلك نقضا أو تبديلا لسنة الله تعالى في خلق الناس التي ترتب عليها أن يكون منهم شقي وسعيد، فريق في الجنة وفريق في السعير، بعضهم فوق بعض بطبعه وصفاته الروحية كما يكون الأخف من الغازات والمائعات فوق الأثقل بطبعه، سنة الله التي لا تبديل لها ولا تغيير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا غفران لذنب الشرك -متى مات صاحبه عليه- بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه.. عندما يشاء الله.. والسبب في تعظيم جريمة الشرك، وخروجها من دائرة المغفرة، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماما؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبدا: (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا).. ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه؛ ولو قبل الموت بساعة.. فأما وقد غرغر -وهو على الشرك- فقد انتهى أمره وحق عليه القول: (ونصله جهنم. وساءت مصيرا!).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فالشرك في ذاته غير قابل للغفران، لأنه إلغاء لمعنى الوحدانية التي هي سمة الإسلام وروح العبادة ومعناها. وإنه يدخل في الإشراك بالله إنكار رسالة الرسل، بعد قيام الأدلة القطعية لأن ذلك تحكيم للهوى، وإبطال للغاية من الوحدانية إذ هي طريق العبادة الصحيحة، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) (الذاريات)...
وكان تعبيره سبحانه بقوله: {إن الله لا يغفر} للإشارة إلى أنه لا يغفر ذات الشرك، ولكن يغفر للمشرك إذ خلعه وتاب عنه، ودخل فيما يدعو إليه الرسل... ولذلك أضيف نفي الغفران إلى الشرك لا إلى من تلبس به... الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها، كان الخروج منه صعبا وعسيرا ولذا قال سبحانه: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا}. والضلال هو السير في غير الطريق الموصل، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوغل في الضلال،... فمن يشرك بالله غيره، فيدعي لأن له شريكا... فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا،... فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع، وتكون له حسنات بجوار السيئات، فيكون باب المغفرة مفتوحا...