{ عتل } العتل : الغليظ الجافي . وقال الحسن : هو الفاحش الخلق السيئ الخلق . قال الفراء : هو الشديد الخصومة في الباطل . وقال الكلبي : هو الشديد في كفره ، وكل شديد عند العرب عتل ، وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف . قال عبيد بن عمير : العتل الأكول الشروب ، القوي الشديد في كفره ، لا يزن في الميزان شعيرة ، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً في النار دفعة واحدة ، { بعد ذلك } أي مع ذلك ، يريد ما وصفناه به ، { زنيم } وهو الدعي الملصق بالقوم ، وليس منهم . قال عطاء عن ابن عباس : يريد مع هذا هو دعي في قريش وليس منهم . قال مرة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة . وقيل : الزنيم الذي له زنمة كزنمة الشاة . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : نعت من لا يعرف حتى قيل زنيم فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها . قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة ، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان الواعظ ، حدثني أبو محمد بن زنجويه بن محمد ، حدثنا علي بن الحسين الهلالي ، حدثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان ، حدثني معبد بن خالد القيسي ، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر " .
وهو بعد هذا كله( عتل ) . . وهي لفظة تعبر بجرسها وظلها عن مجموعة من الصفات ومجموعة من السمات ، لا تبلغها مجموعة ألفاظ وصفات . فقد يقال : إن العتل هو الغليظ الجافي . وإنه الأكول الشروب . وإنه الشره المنوع . وإنه الفظ في طبعه ، اللئيم في نفسه ، السيء في معاملته . . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : " العتل كل رغيب الجوف ، وثيق الخلق ، أكول شروب ، جموع للمال ، منوع له " . . ولكن تبقى كلمة( عتل )بذاتها أدل على كل هذا ، وأبلغ تصويرا للشخصية الكريهة من جميع الوجوه .
وهو زنيم . . وهذه خاتمة الصفات الذميمة الكريهة المتجمعة في عدو من أعداء الإسلام - وما يعادي الإسلام ويصر على عداوته إلا أناس من هذا الطراز الذميم - والزنيم من معانيه اللصيق في القوم لا نسب له فيهم ، أو أن نسبه فيهم ظنين . ومن معانيه ، الذي اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره . والمعنى الثاني هو الأقرب في حالة الوليد بن المغيرة . وإن كان إطلاق اللفظ يدمغه بصفة تدعه مهينا في القوم ، وهو المختال الفخور .
وقوله : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أما العتل : فهو الفظ الغليظ الصحيح ، الجموع المَنُوعُ .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن ، عن سفيان ، عن مَعْبَد{[29173]} بن خالد ، عن حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أنبئكم بأهل النار ؟ كل عُتل جَوّاظ مستكبر " . وقال وَكِيع : " كل جَوَّاظ جعظري مستكبر " .
أخرجاه في الصحيحين بقية الجماعة ، إلا أبا داود ، من حديث سفيان الثوري وشعبة ، كلاهما عن معبد بن خالد ، به{[29174]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا موسى بن علي قال : سمعت أبي يحدِّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار : " كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع " . تفرد به أحمد{[29175]} .
قال أهل اللغة : الجعظري : الفَظُّ الغَليظ ، والجَوّاظ : الجَمُوع المَنُوع .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شَهْر بن حَوْشب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتلِّ الزنيم ، فقال : " هو الشديد الخَلْق المصحح ، الأكول الشروب ، الواجد للطعام والشراب ، الظلوم للناس ، رحيب الجوف " {[29176]} .
وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة الجَواظ الجعظري ، العتل الزنيم " {[29177]} وقد أرسله أيضًا غير واحد من التابعين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه ، وأرحب جوفه ، وأعطاه من الدنيا مِقضَمًا فكان للناس ظلومًا . قال : فذلك العُتُل{[29178]} الزنيم " {[29179]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين ، ونص عليه غير واحد من السلف ، منهم مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : أن العتل هو : المُصحَّح الخَلْق ، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح ، وغير ذلك ، وأما الزنيم فقال البخاري :
حدثنا محمود ، حدثنا عُبَيد الله ، عن{[29180]} إسرائيل ، عن أبي حَصِين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال : رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة .
ومعنى هذا : أنه كان مشهورًا بالشر{[29181]} كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها . وإنما الزنيم في لغة العرب : هو الدّعِيُّ في القوم . قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة ، قال : ومنه قول حسان بن ثابت ، يعني يذم بعض كفار قريش :
وأنتَ زَنيم نِيطَ في آل هاشم *** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ{[29182]}
زَنيمٌ لَيْسَ يُعرَفُ مَن أبوهُ *** بَغيُّ الأم ذُو حَسَب لَئيم
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمار بن خالد الواسطي ، حدثنا أسباط ، عن هشام ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس في قوله : { زَنِيمٍ } قال : الدعيُّ الفاحش اللئيم . ثم قال ابن عباس :
زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادَةً *** كَما زيدَ في عَرضِ الأديم الأكَارعُ{[29183]}
وقال العوفي عن ابن عباس : الزنيم : الدعي . ويقال : الزنيم : رجل كانت به زنمة ، يعرف بها . ويقال : هو الأخنس بن شَريق الثقفي ، حليف بني زهرة . وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسودُ بن عبد يغوث الزهري ، وليس به .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : أنه زعم أن الزنيم المُلحَق النسب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني يونس حدثنا ابن وهب ، حدثني سليمان بن بلال ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المُسيَّب ، أنه سمعه يقول في هذه الآية : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال سعيد : هو الملصق بالقوم ، ليس منهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عقبة بن خالد ، عن عامر بن قدامة قال : سئل عكرمة عن الزنيم ، قال : هو ولد الزنا .
وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله تعالى : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال : يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء . والزنماء من الشياه : التي في عنقها هَنتان معلقتان في حلقها . وقال الثوري ، عن جابر ، عن الحسن ، عن سعيد بن جبير قال : الزنيم : الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها . والزنيم : الملصق . رواه ابن جرير .
وروى أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم : قال : نُعِتَ فلم يعرف حتى قيل : زنيم . قال : وكانت له زَنَمَةٌ في عنقه يُعرَف بها . وقال آخرون : كان دَعيًا .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن أصحاب التفسير قالوا {[29184]} هو الذي تكون له زَنَمَة مثل زنمة الشاة .
وقال الضحاك : كانت له زَنَمَة في أصل أذنه ، ويقال : هو اللئيم الملصق في النسب .
وقال أبو إسحاق : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : هو المريب الذي يعرف بالشر .
وقال مجاهد : الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة . وقال أبو رَزِين : الزنيم علامة الكفر . وقال عكرمة : الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها .
والأقوال في هذا كثيرة ، وترجع إلى ما قلناه ، وهو أن الزنيم هو : المشهور بالشر ، الذي يعرف به من بين الناس ، وغالبًا يكون دعيًا ولد زنا ، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره ، كما جاء في الحديث : " لا يدخل الجنة ولد زنا " {[29185]} وفي الحديث الآخر : " ولد الزنا شَرُّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه " {[29186]} .
والعتل : القوي البنية الغليظ الأعضاء المصحح القاسي القلب ، البعيد الفهم ، الأكول الشروب ، الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار ، فكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص ، فعن هذه التي ذكرت بصدر ، وقد ذكر النقاش ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : فسر العتل بنحو هذا{[11240]} ، وهذه الصفات كثيرة التلازم ، والعتل : الدفع بشدة ، ومنه العتلة ، وقوله : { بعد ذلك } معناه ، بعدما وصفناه به ، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف ، لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاً ، هو قبل كونه صاحب خير يمنعه ، والزنيم : في كلام العرب ، الملصق في القوم وليس منهم ، وقد فسر به ابن عباس هذه الآية ، وقال مرة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة ، يعني الذي نزلت فيه هذه الآية ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت : [ الطويل ]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم . . . كما نيط خلف الراكب القدح الفرد{[11241]}
ومنه قول حسان بن ثابت أيضاً : [ الطويل ]
زنيم تداعاه الرجال زيادة . . . كما زيد في عرض الأديم الأكارع{[11242]}
فقال كثير من المفسرين : هذا هو المراد في الآية . وذلك أن الأخنس بن شريق كان من ثقيف ، حليفاً لقريش . وقال ابن عباس : أراد ب «الزنيم » أن له زنمة في عنقه كزنمة الشاة ، وهي الهنة التي تعلق في عنقها ، وما كنا نعرف المشار إليه ، حتى نزلت فعرفناه بزنمته . قال أبو عبيدة : يقال للتيس زنيم إذ له زنمتان ، ومنه قول الأعرابي في صفة شاته : كأن زنمتيها تتوا قليسية{[11243]} . وروي أن الأخنس بن شريق كان بهذه الصفة ، كان له زنمة . وروى ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الصفة ، لم يعرف صاحبها حتى نزلت { زنيم } فعرف بزنمته . وقال بعض المفسرين : الزنيم : المريب ، القبيح الأفعال .
والعُتُل : بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفةٍ لأنه مشتق من العَتْل بفتح فسكون ، وهو الدفع بقوة قال تعالى : { خذوه فاعْتلُوه إلى سواء الجحيم } [ الدخان : 47 ] ولم يسمع ( عاتل ) . ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالين مختلفين .
وفسر العُتل بالشديد الخِلقة الرحيب الجوف ، وبالأكول الشروب ، وبالغشوم الظلوم ، وبالكثير اللّحم المختال ، روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غَنْم ، يزيدُ بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي ، وهو على هذا التفسير إتْباع لصفة { منّاع للخير } [ القلم : 12 ] أي يمنع السائل ويدفعه ويُغلظ له على نحو قوله تعالى : { فذلك الذي يَدعُّ اليتيم } [ الماعون : 2 ] .
ومعنى { بعد ذلك } علاوة على ما عُدّد له من الأوصاف هو سيّىء الخِلقة سيِّىء المعاملة ، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور ، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 30 ] على أحد الوجهين فيه .
وعلى تفسير العُتل بالشديد الخِلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه .
وموقع { بعد ذلك } موقعَ الجملة المعترضة ، والظرفُ خبر لمحذوف تقديره : هو بعد ذلك .
ويجوز اتصال { بعد ذلك } بقوله : { زنيم } على أنه حال من { زنيم } .
والزنيم : اللصيق وهو من يكون دعياً في قومه ليس من صريح نسبهم : إِما بمغمز في نسبه ، وإِما بكونه حليفاً في قوم أو مولى ، مأخوذ من الزَنَمة بالتحريك وهي قطعة من أذن البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير . والزنمتان بضعتان في رقاب المعز .
قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده . وقيل أريد الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشاً وحلّ بينهم ، وأيَّا ما كان المراد به فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه { كل } [ القلم : 10 ] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال : ما بال أقوام يعملون كذا ، ويُراد واحد معين . قال الخطيم التميمي جاهلي ، أو حسان بن ثابت :
زنيم تداعاه الرجال زيادةً *** كما زيد في عَرض الأديم الأكارع
ويطلق الزنيم على من في نسبه غضاضة من قِبَل الأمهات ، ومن ذلك قول حَسان في هجاء أبي سفيان بن حَرب ، قبل إسلام أبي سفيان ، وكانت أمه مولاةً خلافاً لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن :
وأنتَ زنيم نيطَ في آل هاشم *** كما نِيطَ خلْفَ الراكب القَدَحُ الفَرْدُ
وإنَّ سَنام المجد من آل هاشم *** بنُو بنت مخزوم ووالدُكَ العَبْد
يريد جدّه أبا أمه وهو مَوهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سُمية بنت موهب هذا .
والقول في هذا الإِطلاق والمرادِ به مماثل للقول في الإِطلاق الذي قبله .