ثم قالت :{ وإني مرسلة إليهم بهدية } والهدية هي : العطية على طريق الملاطفة . وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست ، فقالت للملأ من قومها : إني مرسلة إليهم ، أي : إلى سليمان وقومه ، بهدية أصانعه بها عن ملكي وأختبره بها أملك هو أم نبي ؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف ، وإن كان نبياً لم يقبل الهدية ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه ، فذلك قوله تعالى : { فناظرة بم يرجع المرسلون } فأهدت إليه وصفاء ووصائف ، قال ابن عباس : ألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف ذكر من أنثى . وقال مجاهد : ألبسن الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان . واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقال مجاهد : ومقاتل : مائتا غلام ومائتا جارية . وقال قتادة ، وسعيد بن جبير : أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج . وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج . وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب . وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، فألبست الغلمان لباس الجواري ، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر ، وألبست الجواري لباس الغلمان ، الأقبعة والمناطق ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة ، والغلمان على خمسمائة برذون ، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون ، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة ، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع ، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود اليلنجوج ، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب ، ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمت إليه ، رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل ، وكتبت معه كتاباً بنسخة الهدية ، وقالت فيه : إن كنت نبياً فميز بين الوصائف والوصفاء ، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها ، واثقب الدر ثقباً مستوياً ، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن . وأمرت بلقيس الغلمان ، فقالت : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال . ثم قالت للرسول : انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره ، فإنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ، ورد الجواب . فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله ، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة ، وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً ، شرفها من الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله إنا رأينا دواب في البحر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص ، فقال : علي بها الساعة ، فأتوا بها ، فقال : شدوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة ، وألقوا لها علوفتها فيها ، ثم قال للجن : علي بأولادكم ، فاجتمع خلق كثير ، فأقامهم على يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير ، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره . فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة ، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم ، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكانت الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ، ففزعوا ، فقالت لهم الشياطين : جوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والهوام والسباع والوحوش ، حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق ، وقال : ما وراءكم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له ، وأعطاء كتاب الملكة ، فنظر فيه ، ثم قال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة ، فقال : إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة ، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب ، فقال الرسول : صدقت ، فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ، فقال سليمان : من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن ، فلم يكن عندهم علم ذلك ، ثم سأل الشياطين ، فقالوا : نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تصير رزقي في الشجرة ، فقال لك ذلك . وروي أنه جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت : أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف ، فجعل لها ذلك ، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر . ثم قال : من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تجعل رزقي في الفواكه ، قال : لك ذلك ، ثم ميز بين الجواري والغلمان ، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ، والغلام كما يأخذه من الآنية يضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، وكانت الجارية تصب الماء صباً وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدراً ، فميز بينهم بذلك .
وهنا تظهر شخصية " المرأة " من وراء شخصية الملكة . المرأة التي تكره الحروب والتدمير ، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة :
قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون . وإني مرسله إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون !
فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية [ والقرية تطلق على المدينة الكبيرة ] أشاعوا فيها الفساد ، وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطموا القوة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ؛ وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة . وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه .
والهدية تلين القلب ، وتعلن الود ، وقد تفلح في دفع القتال . وهي تجربة . فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا ، ووسائل الدنيا إذن تجدي . وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة ، الذي لا يصرفه عنه مال ، ولا عرض من أعراض هذه الأرض .
أي : سأبعث إليه بهدية تليق به وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا ، أو يضرب{[22038]} علينا خَرَاجا نحمله إليه في كل عام ، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا . قال قتادة : رحمها الله ورضي عنها ، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها ! ! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس .
وقال ابن عباس وغير واحد : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللّهُ خَيْرٌ مّمّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَآ أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
ذكر أنها قالت : إني مرسلة إلي سليمان ، لتختبره بذلك وتعرفه به ، أملك هو ، أم نبيّ ؟ وقالت : إن يكن نبيا لم يقبل الهدية ، ولم يرضه منا ، إلا أن نتبعه على دينه ، وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف . ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قالت : وإنّي مُرْسلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ قال : وبعثت إليه بوصائف ووصفَاء ، وألبستْهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت : إن زيّل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم ردّ الهدية فإنه نبيّ ، وبنبغي لنا أن نترك ملكنا ، ونتّبع دينه ، ونلحق به .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال : بجوارٍ لباسهم لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم لباس الجواري .
حدثنا القامس ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قولها : وَإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال : مئتي غلام ومئتي جارية . قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : قوله بِهَدِيّةٍ قال : جوار ألبستهنّ لباس الغلمان ، وغلمان ألبستهم لباس الجواري .
قال ابن جُرَيج : قال ( مجاهد ) : قالت : فإن خلّص الجواري من الغلمان ، وردّ الهدية فإنه نبيّ ، وينبغي لنا أن نتّبعه .
قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : فخلّص سليمان بعضهم من بعض ، ولم يقبل هديتها .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا سفيان ، عن معمر ، عن ثابت اليُثانيّ ، قال : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الاَجرّ بالذهب ، ثم أمر به فألقي في الطرق فلما جاءوا فرأوه ملقى ما يُلتفت إليه ، صغر في أعينهم ما جاءوا به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها . . . الاَية ، وقالت : إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه ، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبلَ غيره وإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة في بيت ملك ، لم تملك إلا لبقايا من مضى من أهلها ، إنه قد سيست وساست حتى أحكمها ذلك ، وكان دينها ودين قومها فيما ذُكر الزنديقية فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كتب الملوك التي كانت قبلها ، فبعثت إلى المَقَاولة من أهل اليمن ، فقالت لهم : يا أيّها المَلاُ إنّي أُلْقِيَ إليّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، إنّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ، ألاّ تَعْلُوا عَليّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ إلى قوله بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ثم قالت : إنه قد جاءني كتاب لم يأتني مثله من ملك من الملوك قبله ، فإن يكن الرجل نبيا مرسلاً فلا طاقة لنا به ولا قوّة ، وإن يكن الرجل ملكا يكاثر ، فليس بأعزّ منا ، ولا أعدّ . فهيّأت هدايا مما يُهدَى للملوك ، مما يُفتنون به ، فقالت : إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب في المال ، وإن يكن نبيا فليس له في الدنيا حاجة ، وليس إياها يريد ، إنما يريد أن ندخل معه في دينه ونتبعه على أمره ، أو كما قالت .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ بعثت بوصائف ووصفاء ، لباسهم لباس واحد ، فقالت : إن زيّل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم ردّ الهدية فهو نبيّ ، وينبغي لنا أن نتّبعه ، وندخل في دينه فزيّل سليمان بين الغلمان والجواري ، وردّ الهدية ، فقال : أتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في الهدايا التي بعثت بها وصائف ووصفاء يختلفون في ثيابهم ، لتمييز الغلمان من الجواري ، قال : فدعا بماء ، فجعل الجواري يتوضأن من المرفق إلى أسفل ، وجعل الغلمان يتوضئون من المرفق إلى فوق . قال : وكان أبي يحدثنا هذا الحديث .
حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح وَإنّي مُرْسِلةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال : أرسلت بلبنة من ذهب ، وقالت : إن كان يريد الدنيا علمته ، وإن كان يريد الاَخرة علمته .
وقوله : فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ تقول : فأنظر بأيّ شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي ، أبقبول وانصراف عنا ، أم بردّ الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه ؟ وأسقطت الألف من «ما » في قوله بِمَ وأصله : بما ، لأن العرب إذا كانت «ما » بمعنى : أي ، ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام وغيره ، كما قال جلّ ثناؤه عَمّ يَتَساءَلونَ و قَالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ ، وربما أثبتوا فيها الألف ، كما قال الشاعر :
عَلامَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ *** كَخِنْزِيرٍ تَمَرّغَ فِي تُرَابِ
وقالت وإنّى مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ وإنما أرسلت إلى سليمان وحده على النحو الذي بيّنا في قوله : عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ .
روي أن بلقيس قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل { بهدية } أعطيه فيها نفائس الأموال وأغرب عليه بأمور المملكة ، فإن كان ملكاً دنياوياً أرضاه المال فعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبياً لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين فينبغي أن نؤمن به ونتبعه على دينه ، فبعثت إليه { بهدية } عظيمة أكثر بعض الناس في تفصيلها فرأيت اختصار ذلك لعدم صحته ، واختبرت علمه فيما روي بأن بعثت إليه قدحاً فقالت : املأه لي ماء ليس من الأرض ولا من السماء ، وبعثت إليه درة فيها ثقب محلزق وقالت يدخل سلكها دون أن يقربها إنس ولا جان ، وبعثت أخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه غير الإنس والجن ، فملأ سليمان القدح من عرق الخيل ، وأدخلت السلك دودة . وثقبت الدرة أرضة ماء ، وراجع سليمان مع رد الهدية بما في الآية وعبر عن «المرسلين »ب { جاء } وبقوله { ارجع } لما أراد به الرسول الذي يقع على الجمع والإفراد والتأنيث والتذكير ، وقرأ ابن مسعود » فلما جاؤوا سليمان وقرأ «ارجعوا » ، ووعيد سليمان لهم مقترن بدوامهم على كفرهم ، وذكر مجاهد أنها بعثت في هديتها بعدد كثير من العبيد بين غلام وجارية وجعلت زيهم واحداً وجربته في التفريق بينهم .
قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بتجربة في مثل هذا الأمر الخطير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قالت المرأة لأهل مشورتها: {وإني مرسلة إليهم بهدية} أصانعهم على ملكي إن كانوا أهل دنيا، {فناظرة بم يرجع المرسلون}، من عنده بالجواب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أنها قالت: إني مرسلة إلى سليمان، لتختبره بذلك وتعرفه به، أملك هو، أم نبيّ؟ وقالت: إن يكن نبيا لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا، إلا أن نتبعه على دينه، وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف...
وقوله:"فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ" تقول: فأنظر بأيّ شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي، أبقبول وانصراف عنا، أم بردّ الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه؟...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر أنها قالت: إن لي في هذا رأيا: فإن يك صاحب دنيا فعسى أن نرضيه بالمال، فيسكت عنا، ويكف شره، وإن يكن نبيا فلا يقبل ذلك منا، وسنعرف. فعملت ذلك، وأرسلت إليه بهدايا، فلم يقبلها سليمان، فعرفت أنه نبي. وهذا كان منها تدبيرا وحسن رأي في الأمر واحتيالا، وقفت في ذلك، لم تشتغل بالحرب والقتال على ما أشار لها قومها.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والهدية هي: العطية على طريق الملاطفة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} أي مرسلة رسلاً بهدية أصانعه بها عن ملكي {فَنَاظِرَةٌ} ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك.
{فناظرة بم يرجع المرسلون} فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: سأبعث إليه بهدية تليق به وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا، أو يضرب علينا خَرَاجا نحمله إليه في كل عام، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة: رحمها الله ورضي عنها، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة، فقالت: {وإني مرسلة} وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل به بالجمع في قولها: {إليهم} أي إليه وإلى جنوده {بهدية} أي تقع منهم موقعاً. قال البغوي: وهي العطية على طريق الملاطفة. {فناظرة} عقب ذلك وبسببه {بم} أي بأي شيء {يرجع المرسلون} بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 34]
وهنا تظهر شخصية "المرأة "من وراء شخصية الملكة. المرأة التي تكره الحروب والتدمير، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة: وإني مرسله إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون!..والهدية تلين القلب، وتعلن الود، وقد تفلح في دفع القتال. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حتى أحدد موقفي تبعاً لذلك بالسلم أو بالحرب، لأعرف من خلال ذلك طبيعته، فهل هو من الأشخاص الذين يمكن استمالتهم بالمصانعة وبتقديم الهدايا الغالية الثمينة، أو هو من الأشخاص الذين يرفضون ذلك، لأنهم أصحاب رسالة لا يخضعون للإغراء، ولا يسقطون أمام المال؟