ويمضي آل فرعون في عتوهم ، تأخذهم العزة بالإثم ؛ ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداُ :
( وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ) . .
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ؛ ولا يرده برهان ؛ ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر ، لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان - قطعاً للطريق على البرهان ! - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق ؛ وتجبههم البينة ، ويطاردهم الدليل . . بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم . . كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقال آل فرعون لموسى : يا موسى مهما تأتنا به من علامة ودلالة لتسحرنا ، يقول : لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون ، فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يقول : فما نحن لك في ذلك بمصدّقين على أنك محقّ فيما تدعونا إليه . وقد دللنا فيما مضى على معنى السحر بما أغنى عن إعادته .
وكان ابن زيد يقول في معنى : مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ ما :
حدثني يونس ، قال : قال ابن زيد في قوله : مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ قال : إن ما تأتنا به من آية ، وهذه فيها زيادة «ما » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها}، يعني الآيات التسع، {فما نحن لك بمؤمنين}، يعني بمصدقين، يعني بأنك رسول رب العالمين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال آل فرعون لموسى: يا موسى مهما تأتنا به من علامة ودلالة "لتسحرنا"، يقول: لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون، "فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ "يقول: فما نحن لك في ذلك بمصدّقين على أنك محقّ فيما تدعونا إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذلك منهم إياس عن الإيمان به وقبول الآيات، لأنهم أخبروا أنهم لا يقبلون الآيات، ولا يصدّقونه في ذلك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والآية هي المعجزة الدالة على نبوته، وهو كل ما يعجز الخلق عن معارضته ومقاومته، كما لا يمكن مقاومة الشبهة للحجة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جعلوا الإصرارَ على الاستكبار شعارَهم، وهتكوا بألسنتهم -في العتوِّ- أستارهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: كيف سموها آية، ثم قالوا لتسحرنا بها؟ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية، وإنما سموها اعتباراً لتسمية موسى وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي.
اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره، فحكى عنهم في هذه الآية نوعا آخر من أنواع الجهالة والضلالة، وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر، وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم. وقالوا لموسى: إنا لا نقبل شيئا منها البتة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقولون: أيُّ آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها، رددناها فلا نقبلها منك، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
قوله تعالى: {لتَسْحَرَنَا بِهَا} إظهارٌ لكمال الطغيانِ والغلوّ فيه وتسميةِ الإرشادِ إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... إن القوم لم يتربوا بالحسنات ولا السيئات. ولم يذعنوا لما أيد الله به تعالى موسى من الآيات، بل أصروا بعد إيمان كبار السحرة على عد آيتي موسى من السحر {وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} "مهما "اسم شرط يدل على العموم، والمعنى إنك إن تجئنا بكل نوع من أنواع الآيات التي تستدل بها على حقية دعوتك لأجل أن تسحرنا بها أي تصرفنا بها بدقة ولطف في التأثير عما نحن عليه من ديننا ومن تسخيرنا لقومك في خدمتنا وضرب اللبن لمبانينا- فما نحن لك بمصدقين، ولا لرسالتك بمتبعين...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: قد تقرر عندنا أنك ساحر، فمهما جئت بآية، جزمنا أنها سحر، فلا نؤمن لك ولا نصدق، وهذا غاية ما يكون من العناد، أن يبلغ بالكافرين إلى أن تستوي عندهم الحالات، سواء نزلت عليهم الآيات أم لم تنزل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي آل فرعون في عتوهم، تأخذهم العزة بالإثم؛ ويزيدهم الابتلاء شماساً وعنادا: (وقالوا: مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين).. فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة؛ ولا يرده برهان؛ ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر، لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان -قطعاً للطريق على البرهان!- وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق؛ وتجبههم البينة، ويطاردهم الدليل.. بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم.. كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والآية: العلامة الدالة، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتا أولئك أصحاب النار} في سورة البقرة (39)، وفي قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} في سورة الأنعام (37).
وسموا ما جاء به موسى آية باعتبار الغرض الذي تحداهم به موسى حين الإتيان بها، لأن موسى يأتيهم بها استدلالاً على صدق رسالته، وهم لا يعدونها آية ولكنهم جارَوْا موسى في التسمية بقرينة قولهم {لتسحرنا بها}، وفي ذلك استهزاء كما حكى الله عن مشركي أهل مكة وقالوا: {يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] بقرينة قولهم: إنك لمجنون.
وجملة {فما نحن لك بمؤمنين} مفيدة المبالغة في القطع بانتفاء إيمانهم بموسى لأنهم جاءوا في كلامهم بما حوته الجملة الاسمية التي حَكَتْهُ من الدلالة على ثبوت هذا الانتفاء ودوامه. وبما تفيده الباء من توكيد النفي، وما يفيده تقديم متعلق مؤمنين من اهتمامهم بموسى في تعليق الإيمان به المنفي باسمه.
أي وقال قوم فرعون لموسى عليه السلام: أي شيء تأتينا به من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك، وسموا ما جاء به موسى "آية "استهزاء منهم وسخرية. وكل هذه مقدمات تبرر الإهلاك الذي قال الله فيه: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم} (من الآية 129 سورة الأعراف): وأعلنوا أن ما جاء به موسى هو سحر على الرغم من أنهم رأوا السحرة الذين برعوا في السحر وعرفوا طرائقه وبذّوا فيه سواهم قد خروا ساجدين وآمنوا، كيف يحدث هذا والسحرة كلهم جُمِعوا إلى وقت معلوم؟ وشهد كل الناس التجربة الواقعية التي ابتلعت فيها عصا موسى كل سحر السحرة فآمنوا وسجدوا، فكيف يتأتى لمن لا يعرفون السحر أن يتهموا موسى بالسحر؟ وكيف يظنون أن ما يأتي به من آيات الله هو لون من السحر؟. إنهم يقولون كلمة "مهما" وهي تدل على استمرارية العناد في نفوسهم... ويقدمون حيثيات هذا الجحود فيقولون: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} (سورة الأعراف): وإذا كانوا يظنون أن آيات الله التي مع موسى من السحر، فهل للمسحور إرادة مع الساحر؟. ولو كانت المسألة سحرا لسحركم وانتهى الأمر. وقلنا قديما في الرد على الذين قالوا: إن محمدًا يسحر الناس ليؤمنوا به، قلنا إذا كان هو قد سحر الناس ليؤمنوا به، فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا وتنفض المسألة؟ إن بقاءكم على العناد دليل على أنه لا يملك شيئا من أمر السحر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ووقفوا أمامه وقفة المتحدّي الذي يرفض كل آية للإيمان، مهما بلغت من القوة في الحجة والبرهان لأنهم كانوا يبحثون عن مبرر للكفر وللتمرّد، تماماً كما هو شأن القوى المستكبرة في كل زمانٍ ومكان، عندما تحاول ضرب كل داعية للحق وللعدل، أو تشويه صورته أمام الناس؛ فتلصق به أو بدعوته بعض الصفات السلبية التي توحي بالمعاني المتخلفة البعيدة عن كل خيرٍ وصلاحٍ، ليكون ذلك مبرّراً لهم للوقوف ضده بكل ما يملكون من قوة البغي والعدوان.