الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُواْ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِۦ مِنۡ ءَايَةٖ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ} (132)

قوله تعالى : { مَهْمَا } : " مهما " اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ، ك " إنْ " . هذا قولُ جمهور النحاة ، وقد يأتي للاستفهام ، وهو قليلٌ جداً كقوله :

مهما لي الليلةَ مهما لِيَهْ *** أَوْدَى بنعلَيَّ وسِرْباليَهْ

يريد : ما لي الليلة ما لي ؟ والهاء للسكت .

وزعم بعض النحويين أنَّ الجازمة تأتي ظرف زمان ، وأنشد :

وإنك مهما تُعْطِ بطنك سُؤْلَه *** وفَرْجَكَ نالا منتهى الذمِّ أجمعا

وقول الآخر :

*** عوَّدْتَ قومَك أن كلَّ مُبَرَّرٍ

مهما يُعَوَّدْ شيمةً يَتَعوَّدِ ***

وقول الآخر :

نُبِّئْتُ أن أبا شُتَيْمٍ يَدَّعي *** مهما يَعِشْ يُسْمِعْ بما لم يُسْمَعِ

قال : " ف مهما هنا ظرف زمان " والجمهور على خلافه . وما ذكره متأول ، بل بعضُه لا يَظْهر فيه للظرفية معنى .

وقد شنع الزمخشري على القائل بذلك فقال : " وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحَرِّفها مَنْ لا يدَ له في علم العربية فيضعها غيرَ موضعها ، ويحسب " مهما " بمعنى " متى " ويقول : مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامه وليس من واضع العربية ، ثم يذهب فيفسر { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } بمعنى الوقت فيُلْحد في آيات الله وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مِمَّا يوجب الجثوَّ بين يدي الناظر في كتاب سيبويه " . قلت : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قولٌ ضعيف لم يَقُلْ به إلا الطائفةُ الشاذَّةُ ، وقد قال جمال الدين ابن مالك : " جميع النحويين يقولون إن " مهما " و " ما " مثل " مَنْ " في لزوم التجرُّد عن الظرف ، مع أن استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار الفصحاء من العرب " ، وأنشد بعض الأبيات المتقدمة . قلت : وكفى بقوله " جميع النحويين " دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما .

وهي اسمٌ لا حرفٌ بدليل عَوْد الضمير عليها ، ولا يعود الضمير على حرف كقوله { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } فالهاء في " به " تعود على " مهما " ، وشَذَّ السهيليُّ فزعم أنها قد تأتي حرفاً .

واختلف النحويون في " مهما " : هل هي بسيطة أو مركبة ؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبةِنْ ماما ، كُرِّرت " ما " الشرطية توكيداً فاستثقل توالي لفظين فأُبْدلت ألف " ما " الأولى هاء . وقيل : زيدت " ما " على " ما " الشرطية كما تُزاد على " إنْ " في قوله :

{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } [ البقرة : 38 ] فعُمِل العمل المذكور للثقل الحاصل . وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة . وقال قوم : " هي مركبة مِنْ مَهْ التي هي اسمُ فعلٍ بمعنى الزجر وما الشرطية ، ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شيئاً واحداً " . وقال بعضهم : " لا تركيبَ فيها هنا بل كأنهم قالوا له : مه ، ثم قالوا : ما تَأْتِنا به " ويُعْزى هذان الاحتمالان للكسائي وهذا ليس بشيء ؛ لأن ذلك قد يأتي في موضعٍ لا زَجْرَ فيه ، ولأن كتابتها متصلة ينفي كونَ كلٍ منهما كلمةً مستقلة .

وقال قوم : إنها مركبة من مَهْ بمعنى اكفف ومَنْ الشرطية ، بدليل قول الشاعر :

أماوِيَّ مَهْ مَنْ يَسْتمعْ في صديقه *** أقاويلَ هذا الناسِ ماوِيَّ يندمِ

فأُبْدِلَتْ نونُ " مَنْ " ألفاً ، كما تبدل النونُ الخفيفة بعد فتحة ، والتنوين ألفاً . وهذا ليس بشيء ، بل " مَهْ " على بابها من كونها من انكفف ثم قال : من يستمع . وقال قوم : " بل هي مركبةٌ مِنْ مَنْ وما ، فأُبْدلت نونُ مَنْ هاءً ، كما أبدلوا من ألف " ما " الأولى هاء ، وذلك لمؤاخاة " مَنْ " " ما " في أشياء وإن افترقا في شيء واحد " . ذكره مكي .

ومحلُّها نصبٌ أو رفع ، فالرفعُ على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلافُ المشهورُ : هل الخبر فعلُ الشرط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً . والنصب من وجهين : أظهرهُهما على الاشتغال ، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن اسم الشرط والتقدير : مهما تُحْضِر تأتِنا به ، ف " تَأْتِنا " مفسِّر ل " تُحضر " لأنه من معناه . والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يرى ذلك ، وقد تقدم الردُّ على هذا القول . والضميران من قوله " به " و " بها " عائدان على " مهما " عاد الأول على اللفظ والثاني على المعنى ، فإن معناها الآية المذكورة . ومثله قول زهير :

ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ *** وإن خالها تَخْفَى على الناسِ تُعْلَمِ ومثلُه في ذلك قولُه : { ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نَنْسَأْها نأْتِ بخيرٍ منها أو مثلها } [ البقرة : 106 ] فأعاد الضمير على " ما " مؤنثاً لأنها بمعنى الآية .

وقوله : { فَمَا نَحْنُ } يجوز أَنْ تكونَ " ما " حجازيةً أو تميمية ، والراءُ زائدةٌ على كلا القولين ، والجملةُ جوابُ الشرط فمحلها جزم .