اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُواْ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِۦ مِنۡ ءَايَةٖ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ} (132)

قوله { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } . لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره ، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة ، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر ، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة .

وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء .

" مَهْمَا " اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك " إنْ " هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً .

كقوله : [ الرجز ]

مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ ؟ *** أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ{[16733]}

يريد : ما لي اللِّيلة مالي ؟ والهاءُ للسَّكت . وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان ؛ وأنشد : [ الطويل ]

وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ *** وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا{[16734]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ *** مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ{[16735]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي *** مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ{[16736]}

قال : ف " مَهْمَا " هنا ظرف زمان ، والجمهور على خلافه ، وما ذكره متأوّل ، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى ، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك .

فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية ، فيضعها في غير موضعها ويحسب " مَهْمَا " بمعنى " متى ما " .

ويقولُ : مَهْمَا جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامِهِ ، وليس من واضع العربية ، ثم يذهبُ فيفسِّر : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] بمعنى الوقت ، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه .

قال شهابُ الدِّين : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ .

وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ : جميع النَّحويين يقول إنَّ " مَهْمَا " و " مَا " مثل " مَنْ " في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف ، مع أنَّ استعمالها ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب . وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة .

وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما . وهي اسمٌ لا حرفٌ ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها ، ولا يعودُ الضَّمير على حرف ؛ لقوله : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } فالهاءُ في " بِهِ " تعود على " مَهْمَا " ، وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّهم قد تأتي حرفاً .

واختلف النَّحويون في " مَهْمَا " هل هي بسيطة أو مركبة ؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبة مِنْ " مَا مَا " كُرِّرَتْ " ما " الشَّرطيَّة توكيداً ، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف " ما " الأولى هاء .

وقيل : زيدت " ما " على " ما " الشَّرطية ، كما يُزَادُ على " إنْ " " ما " في قوله : " فَإمَّا يَأتينَّكُم " .

فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل ، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة .

وقال قَوْمٌ : هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر ، و " مَا " الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً .

وقال بعضهم : لا تركيب فيها هنا ، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ ، ثم قالوا { مَا تَأْتِنَا بِهِ } ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ .

قال شهابُ الدِّين{[16737]} : " وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه ، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة " .

وقال قومٌ : إنَّهَا مركَّبةً من " مَهْ " بمعنى اكفف و " مَن الشَّرطيَّةِ " ؛ بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]

أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ *** أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ{[16738]}

فأبْدِلَتْ نونُ " مَنْ " ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة ، والتَّنوين ألفاً ، وهذا ليس بشيء بل " مَهْ " على بابها من كونها بمعنى : اكْفُفْ ، ثم قال : مَنْ يستمعُ .

وقال قوم : بل هي مركَّبة مِنْ " مَنْ " و " مَا " فأبدلت نونُ " مَنْ " هاءً ، كما أبدلوا من ألف " ما " الأولى هاءً ، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء ، وإن افترقَا في شيء واحد ، ذكره مكيٌّ .

ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً ؟ والنَّصْبُ من وجهين :

أظهرهما : على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ ، والتقديرُ : مَهْمَا تُخْضِر تَأتِنَا ، ف " تَأتِنَا " مُفَسِّرة ل تُحَضر ، لأنَّهُ من معناه .

والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك ، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول ، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و " بِهَا " عائدان على " مَهْمَا " ، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ ، والثاني المعنى ، فإنَّ معناها الآية المذكورة ، ومثله قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ]

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئ مِنْ خَلِيقةٍ *** وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ{[16739]}

ومثله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] فأعَادَ الضَّمير على " ما " مؤنثاً ، لأنَّهَا بمعنى الآية .

وقوله : " فَمَا نَحْنُ " يجوز أن تكون " ما " حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين ، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم .

فصل


[16733]:البيت لعمرو بن ملقط الطائي ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 7/44، الهمع 2/58، الدرر 2/74، المغني 1/108، الخزانة 9/18، الجنى الداني 611، 51، اللسان (مهه)، التهذيب (مه) النوادر 62، الدر المصون 3/328.
[16734]:البيت لحاتم الطائي ينظر: ديوانه 174، خزانة الأدب 9/27 مغني اللبيب 331، الهمع 2/57، الدرر 5/71، شرح الأشموني 3/581، شرح شواهد المغني 744، الجنى الداني 610، الحماسة 4/1713، شرح الشافية الكافية 3/1627، القرطبي 7/193، الدر المصون 3/328.
[16735]:البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر: الديوان 277، شرح الكافية الشافية 3/162، الرضي في شرح الكافية 2/253، الدر المصون 3/328.
[16736]:البيت لطفيل الغنوي ينظر: ديوانه 104، الأشموني 4/12، شرح الكافية الشافية 3/1627، الدر المصون 3/328.
[16737]:ينظر: الدر المصون 3/329.
[16738]:البيت قيل لحاتم الطائي ينظر: الخزانة 9/16، شرح المفصل لابن يعيش 4/8، شرح القصائد العشر 78، شرح الرضي 2/253، التهذيب 5/385، اللسان (مهه) الدر المصون 3/329.
[16739]:ينظر ديوانه 32، شرح القصائد العشر 240، المغني 1/323، الأشموني 4/10، الهمع 3512. الدرر 2/74، مغني اللبيب 1/323، 330، البحر المحيط 4/371، الجنى الداني 162، شرح قطر الندى ص 37، همع الهوامع 2/35، 58، الدر المصون 3/329.