101- قل - يا أيها النبي - لهؤلاء المعاندين : انظروا إلى ما في السماوات والأرض من بينات ترشد إلى ألوهيته ووحدانيته ، ففيها ما يقنعكم بالإيمان . ولكن الآيات على كثرتها ، والنذر على قوتها ، لا تغنى عن قوم جاحدين لا يتعقلون ، إذا لم يؤمن هؤلاء الجاحدون فلن ينظروا{[93]} .
قوله تعالى : { قل انظروا } ، أي : قل للمشركين الذين يسألونك الآيات انظروا ، { ماذا في السماوات والأرض } ، من الآيات والدلائل والعبر ، في السماوات الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، وفي الأرض الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها ، { وما تغني الآيات والنذر } ، الرسل ، { عن قوم لا يؤمنون } ، وهذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون .
ويزيد الأمر إيضاحاً بأن الآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون ؛ لأنهم لا يتدبرونها وهي معروضة أمامهم في السماوات والأرض :
( قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض . وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون )
وسواء كان عقب الآية استفهاماً أو تقريراً . فمؤداه واحد . فإن ما في السماوات والأرض حافل بالآيات ؛ ولكن الآيات والنذر لا تفيد الذين لا يؤمنون ، لأنهم من قبل لم يلقوا بالا إليها ، ولم يتدبروها . .
وقبل أن نمضي إلى نهاية الشوط نقف لحظة أمام قوله تعالى :
( قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض . وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) . .
إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل . ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً ، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية ! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون - حين تتفتح وتستيقظ - وتسمع منه الكثير !
والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض ، ويستلهم هذا الكون ؛ ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل . . وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه ؛ ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله ! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون ، ويسمون ذلك التجديف مذهبا " علميا " يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه : " الاشتراكية العلمية " والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء !
والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات ؛ وزاد من الاستجابات والتأثرات ؛ وزاد من سعة الشعور بالوجود ؛ وزاد من التعاطف مع هذا الوجود . . وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله ، وبجلال الله ، وبتدبير الله ، وبسلطان الله ، وبحكمة الله ، وعلم الله . . .
ويمضي الزمن ، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون ، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية ، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون ، والأنس به ، والتعرف عليه ، والتجاوب معه ، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه
باللّه . . وأما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره ، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة ، حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله ؛ والحرمان من بشاشة الإيمان ونوره ورفرفته وريّاه !
( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) !
وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب ، وتجمدت العقول ، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة ؛ واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود ، فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه ? !
" إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة . . تتجلى فيه بآثارها الفاعلة ، وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة . . إن هذا المنهج لا يجعل " وجود الله " سبحانه قضية يجادل عنها . فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري - من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء - بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله . إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله ؛ وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية .
" والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري . فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) . . والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين ، وإلى الاعتقاد بإله . بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد ، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد . ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه ، فهذا مركوز في الفطرة . ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه ، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره . تعريفه بحقيقته وصفاته ، لا تعريفه بوجوده وإثباته . ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته - وهي الربوبية والقوامة والحاكمية - والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية ، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها . وهذا التعطل لا يعالج - إذن - بالجدل . وليس هذا هو طريق العلاج !
" إن هذا الكون ، كون مؤمن مسلم ، يعرف بارئه ويخضع له ، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي - عدا بعض الأناسي ! - و " الإنسان " يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام ، وأصداء التسبيح والسجود . وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء ؛ وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها الله . فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها ؛ ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها ، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية ، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل ، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه ، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه ، لعلها تتحرك ، وتأخذ في العمل من جديد " .
ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض ، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني ؛ لعله ينبض ويتحرك ، ويتلقى ويستجيب .
يرشدُ تعالى عباده إلى التفكر في آلائه{[14438]} وما خلق في السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب ، مما في السموات{[14439]} من كواكب نيرات ، ثوابت وسيارات ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، واختلافهما ، وإيلاج أحدهما في الآخر ، حتى يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يقصر هذا ويطول هذا ، وارتفاع السماء واتساعها ، وحسنها وزينتها ، وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير ، وصنوف النبات ، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال والألوان والمنافع ، وما فيها من جبال وسهول{[14440]} وقفار وعمران وخراب . وما في البحر من العجائب والأمواج ، وهو مع هذا [ مسخر ]{[14441]} مذلل للسالكين ، يحمل سفنهم ، ويجري بها برفق بتسخير القدير له ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
وقوله : { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } أي : وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية ، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها ، عن قوم لا يؤمنون ، كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 69 ] .