اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ} (101)

قوله تعالى : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } الآية .

لمَّا بيَّن في الآيات السَّالفة أنَّ الإيمان لا يحصلُ إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، أمر بالنَّظَرِ والاستدلال في الدَّلائل فقال : " قُلِ انظروا " .

قرأ عاصم{[18628]} وحمزةُ " قُلِ انظُرُوا " بكسر اللام لالتقاء الساكنين ، والأصل فيه الكسر ، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللاَّمِ .

قوله : " مَاذَا " يجوز أن يكون " مَاذَا " كله استفهاماً مبتدأ ، و " فِي السماوات " خبرهُ أي : أيُّ شيءٍ في السَّماواتِ ؟ ويجوزُ أن تكون " ما " مبتدأ ، و " ذَا " بمعنى الذي ، و " فِي السماوات " صلته وهو خبرُ المبتدأ ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافض لأنَّ الفعل قبله معلقٌ بالاستفهام ، ويجوز على ضعفٍ أن يكون " ماذا " كله موصُولاً بمعنى " الَّذي " وهو في محل نصبٍ ب " انُظُروا " . ووجهُ ضعفه أنَّهُ لا يخلو : إمَّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدَّى ب " إلى " ، وإمَّا أن يكون قلبيّاً فيُعَدَّى ب " في " ، وقد تقدَّم الكلامُ في " ماذا " .

فصل

المعنى : قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمانِ : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } واعلم أنَّه لا سبيل إلى معرفةِ الله تعالى إلاَّ بالنَّظر في الدَّلائل . قال عليه الصلاة والسلام : " تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تتفَكَّرُوا في الخالِق " {[18629]} والدَّلائل إمَّا أن تكون من عالمِ السماوات ، أو من عالم الأرض ، أمَّا الدلائل السماوية ، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها ، وما يختص به كل واحد منها ، وأمَّا الدلائل الأرضية ، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية ، وفي أحوال المعادن والنبات ، وأحوال الإنسان ، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها . ولو أنَّ الإنسان أخذ يتفكرُ في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقلهُ قبل أن يصل إلى أوَّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد .

ثم لمَّا أمر بهذا التفكُّر بيَّن بعده أنَّ هذا التَّفكر والتَّدبر في هذه الآيات لا ينفعُ في حقِّ من حكم الله عليه في الأزلِ بأنَّه لا يؤمن فقال : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } .

قوله : " وَمَا تُغْنِي " يجوز في " ما " أن تكون استفهامية ، وهي واقعةٌ موقع المصدر أي : أيَّ غناءٍ تُغني الآيات ؟ ويجوزُ أن تكون نافيةً ، وهو الظَّاهرُ .

وقال ابن عطية{[18630]} : ويحتملُ أن تكون " ما " في قوله : " وما تُغْنِي " مفعولة بقوله : " انظُرُوا " معطوفة على قوله : " مَاذَا " أي : تأمَّلُوا قدر غناء الآيات والنُّذُر عن الكُفَّار .

قال أبو حيان : وفيه ضعفٌ ، وفي قوله : معطوفةٌ على " ماذا " تجوُّزٌ ، يعنى أنَّ الجملة الاستفهامية التي هي " مَاذَا فِي السماوات " في موضع المفعول ؛ لأنَّ " ماذا " وحدهُ منصوبٌ ب " انظُرُوا " فتكون " مَاذَا " موصلة ، و " انظُرُوا " بصرية لما تقدَّم من أنَّه لو كانت بصرية لتعدَّت ب " إِلَى " . و " النُّذُرُ " يجوزُ أن يكون جمع " نَذِير " ، المرادُ به المصدر فيكون التقدير : وما تُغْنِي الآياتُ والإنذارات ، وأن يكون جمع " نذير " مراداً به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمُنْذِرُونَ وهم الرُّسُلُ . وقرئ{[18631]} " وما يُغْنِي " بالياء .


[18628]:ينظر: المحرر الوجيز 3/145، البحر المحيط 5/194.
[18629]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/110) عن عبد الله بن سلام وعزاه إلى أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والأصبهاني في "الترغيب" وعن عمرو بن مرة، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "التفكر" والأصبهاني في "الترغيب".
[18630]:ينظر: المحرر الوجيز 3/71.
[18631]:ينظر: الكشاف 2/373، البحر المحيط 5/194.