41- والمؤمنون الذين هاجروا من ديارهم لوجه الله تعالى ، وإخلاصاً لعقيدتهم ، من بعد ما وقع عليهم الظلم والعذاب من المشركين ، لنُعوّضهم في الدنيا على إخلاصهم واحتمالهم للعذاب ، حياة طيبة حسنة لا تأتى إلا بالجهاد ، وسيكون أجرهم يوم القيامة أكبر ، ونعيمهم في الجنة أعظم ، لو كان المخالفون لهم يعلمون ذلك لما ظلموهم وظلموا أنفسهم .
قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } ، عذبوا وأوذوا في الله . نزلت في بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم . وقال قتادة : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين . { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } ، وهو أنه أنزلهم المدينة . روي عن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم تلا هذه الآية . وقيل : معناه لنحسنن إليهم في الدنيا . وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية . { ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } . وقوله : { لو كانوا يعلمون } ، ينصرف إلى المشركين لأن المؤمنين كانوا يعلمونه .
وهنا يعرض في الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين ، لمحة عن المؤمنين المصدقين ، الذين يحملهم يقينهم في الله والآخرة على هجر الديار والأموال ، في الله ، وفي سبيل الله :
( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) . .
فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم ، وتعروا عما يملكون وعما يحبون ، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم . . هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا . وقد عانوا الظلم وفارقوه . فإذا كانوا قد خسروا الديار ف ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة )و لنسكننهم خيرا مما فقدوا ( ولأجر الآخرة أكبر )لو كان الناس يعلمون .
وقوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً يقول تعالى ذكره : والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم . مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يقول : من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله . لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً يقول : لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ قال : هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة ، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين .
حُدثت عن القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً قال : المدينة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً قال : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم ، وظَلَمَهُم المشركون .
وقال آخرون : عنى بقوله : لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لَنُبَوّئَنّهُمْ لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوامّ ، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخره لك في الاَخرة أفضل . ثم تلا هذه الاَية : لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً ولأَجْرُ الاَخرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى لَنُبَوّئَنّهُمْ : لنحلنهم ولنسكننهم ، لأن التبوأ في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به . ومنه قول الله تعالى : وَلَقَدْ بَوّأْنا بَني إسْرَائيلَ مُبَوّأَ صدْق . وقيل : إن هذه الاَية نزلت في أبي جندل بن سهيل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن داود بن أبي هند ، قال : نزلت والّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا . . . إلى قوله : وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ في أبي جندل بن سهيل .
وقوله : وَلأَجْرُ الاَخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقول : ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الاَخرة أكبر ، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله : وَلأَجْرُ الاَخرَةِ أكْبَرُ أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .
لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح في سبب الآية ، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية ، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو{[7309]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن أمر أبي جندل كان والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولاً وآخراً . وقرأ الجمهور «لنبوئنهم » وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب . «لنثوينهم »{[7310]} وهاتان اللفظتان معناهما التقرير ، فقالت فرقة : الحسنة عِدَةٌ ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة ، وإليها كانت الإشارة بقوله { حسنة } وقالت فرقة : الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر .
قال القاضي أبو محمد : وفي { لنبوئنهم } أو «لنثوينهم » على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة ، وهذا على أن { حسنة } هي المباءة والمثوى ، وأن الفعل الظاهر عامل فيها ، وقال أبو الفتح : نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحساناً ، وجعلت { حسنة } موضع إحساناً ، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل ، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له : خذ ما وعدك الله في الدنيا ، { ولأجر الآخرة أكبر } ، ثم يتلو هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد ، وكل أمل أبلغه المهاجرون ، و «أجر الآخرة » هنا إشارة إلى الجنة ، والضمير في { يعلمون } عائد إلى كفار قريش ، وجواب { لو } مقدر محذوف ، ومفعول { يعلمون } كذلك ، وفي هذا نظر .