البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

والذين هاجروا قال قتادة : نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال داود بن أبي هند : في أبي جندل بن سهيل بن عمرو .

وعن ابن عباس : في صهيب ، وبلال ، وخباب بن الأرت ، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة ، فبوأهم الله المدينة .

وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله : والذين هاجروا .

قال ابن عطية : لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية ، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى .

والذين هاجروا ، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا ، فيشمل أولهم وآخرهم .

وقرأ الجمهور : لنبوأنهم ، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي : تبوئة حسنة .

وقيل : انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر ، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم ، فحسنة في معنى إحساناً .

وقال أبو البقاء : حسنة مفعول ثان لنبوأنهم ، لأنّ معناه لنعطينهم ، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي : دار حسنة انتهى .

وقال الحسن ، والشعبي ، وقتادة : داراً حسنة وهي المدينة .

وقيل : التقدير منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب .

وقال مجاهد : الرزق الحسن .

وقال الضحاك : النصر على عدوهم .

وقيل : ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات .

وقيل : ما بقي لهم فيها من الثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .

وقيل : الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون .

وقرأ عليّ ، وعبد الله ، ونعيم بن ميسرة ، والربيع بن خيثم : لنثوينهم بالثاء المثلثة ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه ، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة ، أو على نزع الخافض أي : في حسنة ، أي : دار حسنة ، أو منزلة حسنة .

ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة ، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته .

وفي الله دليل على إخلاص العمل لله ، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه .

وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ ، خلافاً لثعلب .

وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم ، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل .

ولا يجوز زيداً لأضربن ، فلا يجوز زيداً لأضربنه .

وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر ، ولأجر الآخرة أي : ولأجر الدار الآخرة أكبر ، أي : أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال : وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً .

والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي : لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم .