اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

قوله : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } الآية .

لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، على إنكار البعث ، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل ، ومن هذا حاله ، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين ؛ بالضَّرب ، وغيره من العقوبات ؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم ، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة ، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة ؛ من حيث هاجر ، وصبر ، وتوكَّل على الله - عز وجل - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عز وجل - .

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : نزلت هذه الآية في صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخبَّاب ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ؛ ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم ؛ فافتدى منهم بماله ، فلما رآه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : رَبِحَ البيعُ يا صهيب ، وقال عمر رضي الله عنه : " نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه " ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه{[19820]} .

وقال قتادة - رضي الله عنه- : هم أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم ؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك ؛ فجعلها لهم دار هجرة ، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين ، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم{[19821]} ، ودل عليه قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله } على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله ، لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد .

وقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار .

قوله : " حَسنَةً " فيها أوجه :

أحدها : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : تبوئة حسنة .

الثاني : أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى ؛ لأنَّ معنى { لَنُبَوِّئَنهُمْ " لنحسنن إليهم .

الثالث : أنها مفعول ثانٍ ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم ، و " حَسَنةً " صفة لموصوف محذوفٍ ، أي : داراً حسنة ؛ وفي تفسير الحسن : دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام- .

وقيل : تقديره : منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل المشرق .

وقيل : حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف .

وقرأ أمير المؤمنين{[19822]} ، وابن مسعود ، ونعيم بن ميسرة : " لنُثوينَّهُمْ " بالثاء المثلثة والياء ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من " ثَوَى بالمكان " أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت ، و " حَسنَةً " على ما تقدم .

ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي " في حَسَنة " والموصول مبتدأ ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره ، وفيه ردٌّ على ثعلب ؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً .

وجوَّز أبو البقاء في : " الَّذينَ " النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر ، أي : لنبوأنَّ الذين .

ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً ، إلا ما جاز أن يعمل ، وإن قلت " زَيْداً لأضْربنَّ " لم يجز ، فكذا لا يجوز " زَيْداً لأضْربنَّه " .

قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين .

أو على المؤمنين ، أي : لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم .

فصل : الإحسان عند الإعطاء

روي أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ ، ثم تلا هذه الآية{[19823]} .

وقيل : المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا . وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية .


[19820]:ذكره الرازي في "تفسيره" (10/28).
[19821]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/585) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 4/221) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[19822]:ينظر: المحتسب 2/901 والبحر 5/477، والمحرر 8/421 والدر المصون 4/327.
[19823]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/586) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/221) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وذكره البغوي أيضا في "تفسيره" (3/69).