مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } .

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي ، والجهل ، والضلال ، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وضرهم ، وإنزال العقوبات بهم ، وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن تلك الديار والمساكن ، فذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا ، والأجر في الآخرة ، من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله ، وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير ، موالي لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام ، أما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله فلما رآه أبو بكر قال : ربح البيع يا صهيب ، وقال عمر : نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه فكيف ظنك به وقد خلقها ؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام فتركوا عذابهم ، ثم هاجروا فنزلت هذه الآية ، وبين الله تعالى بهذه الآية عظم محل الهجرة ، ومحل المهاجرين فالوجه فيه ظاهر ، لأن بسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم ، ودل تعالى بقوله : { والذين هاجروا في الله } أن الهجرة إذا لم تكن لله لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى بلد ، وقوله : { من بعد ما ظلموا } معناه أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار ، لأنهم كانوا يعذبونهم .

ثم قال : { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } وفيه وجوه : الأول : أن قوله : { حسنة } صفة للمصدر من قوله : { لنبوئنهم في الدنيا } والتقدير : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، وفي قراءة علي عليه السلام : ( لنبوئنهم إبواءة حسنة ) . الثاني : لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب ، وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أكبر .

والقول الثالث : لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم ، وهذا قول الحسن والشعبي وقتادة ، والتقدير : لنبوئنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة يعني المدينة .

ثم قال تعالى : { ولأجر الآخرة أكبر } وأعظم وأشرف ؛ { لو كانوا يعلمون } والضمير إلى من يعود ؟ فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى الكفار ، أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم . والثاني : أنه راجع إلى المهاجرين ، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم .