قوله تعالى : { ليحملوا } أي : ليجعلوا { أوزارهم } ، ذنوب أنفسهم ، { كاملة } ، وإنما ذكر الكمال لأن البلايا التي تلحقهم في الدنيا وما يفعلون من الحسنات لا تكفر عنهم شيئا { يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } ، بغير حجة فيصدونهم عن الإيمان ، { ألا ساء ما يزرون } ، يحملون .
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنبأنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ابن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .
( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )
وهكذا يؤدي بهم ذلك الإنكار والاستهتار إلى حمل ذنوبهم وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول ، ويصدونهم عن القرآن والإيمان ، وهم جاهلون به لا يعلمون حقيقته . . ويصور التعبير هذه الذنوب أحمالا ذات ثقل - وساءت أحمالا وأثقالا ! - فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور ، وهي تثقل القلوب ، كما تثقل الأحمال العواتق ، وهي تتعب وتشقي كما تتعب الأثقال حامليها بل هي أدهى وأنكى !
روى ابن أبي حاتم عن السدي قال : " اجتمعت قريش ، فقالوا : إن محمدا رجل حلو اللسان ، إذا كلمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين ، فمن جاء يريده فردوه عنه . فخرج ناس في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ، ووصل إليهم ، قال أحدهم : أنا فلان ابن فلان . فيعرفه نسبه ، ويقول له : أنا أخبرك عن محمد . إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم ، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له . فيرجع الوافد . فذلك قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : أساطير الأولين ) . فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد ، فقالوا له مثل ذلك قال : بئس الوافد لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل ، وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره . فيدخل مكة ، فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد ؟ فيقولون : خيرا . . " .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المشركون لمن سألهم ماذا أنزل ربكم : الذي أنزل ربنا فيما يزعم محمد عليه أساطير الأوّلين ، لتكون لهم ذنوبهم التي هم عليها مقيمون من تكذيبهم الله ، وكفرهم بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذنوب الذين يصدّونهم عن الإيمان بالله يضلون يفتنون منهم بغير علم . وقوله : ألا ساءَ ما يَزِرُونَ يقول : ألا ساء الإثم الذي يأثمون والثقل الذي يتحملون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومن أوزار من أضلوا احتمالهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : ومن أوزار الذين يضلونهم حملهم ذنوب أنفسهم ، وسائر الحديث مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ قال : حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ أي ذنوبهم وذنوب الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساءَ ما يَزِرُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بغيرِ عِلْمٍ يقول : يحملون ذنوبهم ، وذلك مثل قوله : وأثْقالاً مَعَ أثْقالِهِمْ يقول : يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يُضِلُونهم بغير علم .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بغيرِ عِلْمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّمَا دَاعِ دَعا إلى ضَلالَةٍ فاتّبِعَ ، فإنّ عَلَيْهِ مِثْلَ أوْزَارِ مَنِ اتّبَعَهُ مِنْ غيرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْءٌ . وأيّمَا دَاعِ دَعا إلى هُدًى فاتّبِعَ ، فَلَهُ مِثْلُ أجُورِهِمْ مِنْ غيرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أجوْرِهِمْ شَيْءٌ » .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن رجل ، قال : قال زيد بن أسلم : إنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها وأنتنه ريحا ، فيجلس إلى جنبه ، كلما أفزعه شيء زاده فزعا وكلما تخوّف شيئا زاده خوفا ، فيقول : بئس الصاحب أنت ومن أنت ؟ فيقول : وما تعرفني ؟ فيقول : لا ، فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا ، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا ، طأطىء إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه ، وهو قوله : لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ .
{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة } أي قالوا ذلك إضلالا للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال . { ومن أوزار الذين يضلّونهم } وبعض أوزار ضلال من يضلونهم وهو حصة التسبب . { بغير علم } حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال ، وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ، إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق والمبطل . { ألا ساء ما يزرُون } بئس شيئا يزرونه فعلهم .
اللاّم في { ليحملوا أوزارهم } تعليل لفعل { قالوا } ، وهي غاية وليست بعلّة لأنّهم لما قالوا { أساطير الأولين } لم يريدوا أن يكون قولهم سبباً لأن يحملوا أوزار الّذين يضلّونهم ، فاللام مستعملة مجازاً في العاقبة مثل { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ سورة القصص : 8 ] .
والتقدير : قالوا ذلك القول كحال من يُغرى على ما يجر إليه زيادة الضرّ إذ حملوا بذلك أوزار الذين يُضلونهم زيادة على أوزارهم .
والأوزار : حقيقتها الأثقال ، جمع وزر بكسر الواو وسكون الزاي وهو الثّقل . واستعمل في الجُرم والذنب ، لأنّه يُثقل فاعله عن الخلاص من الألم والعناء ، فأصل ذلك استعارة بتشبيه الجرم والذّنب بالوزر . وشاعت هذه الاستعارة ، قال تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } في سورة الأنعام ( 31 ) . كما يعبّر عن الذنوب بالأثقال ، قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ سورة العنكبوت : 13 ] .
وحَمْل الأوزار تمثيل لحالة وقوعهم في تبعات جرائمهم بحالة حامل الثقل لا يستطيع تفصّياً منه ، فلما شُبّه الإثم بالثقل فأطلق عليه الوِزر شبه التّورط في تبعاته بحمل الثّقل على طريقة التخييلية ، وحصل من الاستعارتين المفرقتين استعارة تمثيلية للهيئة كلها . وهذا من أبدع التمثيل أن تكون الاستعارة التمثيلية صالحة للتفريق إلى عدّة تشابيه أو استعارات .
وإضافة الأوزار إلى ضمير هم لأنّهم مصدرها .
ووصفت الأوزار ب { كاملة } تحقيقاً لوفائها وشدّة ثقلها ليسري ذلك إلى شدّة ارتباكهم في تبعاتها إذ هو المقصود من إضافة الحمل إلى الأوزار .
و { مِنْ } في قوله تعالى : { ومن أوزار الذين يضلونهم } للسببية متعلقة بفعل محذوف دلّ عليْه حرف العطف وحرْف الجَر بعدَه إذ لا بدّ لحرف الجر من متعلّق .
وتقديره : ويحملوا . ومفعول الفعل محذوف دلّ عليْه مفعول نظيره . والتّقدير : ويحملوا أوزاراً ناشئة عن أوزار الّذين يُضلونهم ، أي ناشئة لهم عن تسبّبهم في ضلال المضلّلين بفتح اللاّم ، فإنّ تسببهم في الضلال يقتضي مساواة المضلّل للضّال في جريمة الضّلال ، إذ لولا إضلاله إياه لاهتدى بنظره أو بسؤال الناصحين . وفي الحديث الصّحيح « ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » . و { بغير علم } في موضع الحال من ضمير النصب في { يضلونهم } ، أي يضلّون ناساً غير عالمين يحسبون إضلالهم نصحاً . والمقصود من هذا الحال تفظيع التضليل لا تقييده فإن التضليل لا يكون إلا عن عدم علم كُلاً أو بعضاً .
وجملة { ألا ساء ما يزرون } تذييل . افتتح بحرف التّنبيه اهتماماً بما تتضمّنه للتحذير من الوقوع فيه أو للإقلاع عنه .