قوله تعالى : { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل } ، ومجادلتهم قولهم : { أبعث الله بشراً رسولاً } [ الإسراء – 94 ] . { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم { ( الزخرف - 31 ) ، وما أشبهه ، { ليدحضوا } ، ليبطلوا ، { به الحق } ، وأصل الدحض الزلق يريد ليزيلوا به الحق ، { واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً } ، فيه إضمار يعني وما أنذروا به وهو القرآن ، هزواً أي استهزاء .
وليس هذا أو ذاك من شأن الرسل . فأخذ المكذبين بالهلاك - كما جرت سنة الله في الأولين بعد مجيء الخوارق وتكذيبهم بها - أو إرسال العذاب . . كله من أمر الله . أما الرسل فهم مبشرون ومنذرون :
( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين . ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق . واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) .
والحق واضح . ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه . وهم حين يطلبون الخوارق ، ويستعجلون بالعذاب لا يبغون اقتناعا ، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر ويسخرون
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقّ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } .
يقول عزّ ذكره : وما نرسل إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله بجزيل ثوابه في الاَخرة ، ولينذروا أهل الكفر به والتكذيب ، عظيم عقابه ، وأليم عذابه ، فينتهوا عن الشرك بالله ، وينزجروا عن الكفر به ومعاصيه ويُجادِلُ الّذينَ كَفَرُوا بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقّ يقول : ويخاصم الذين كذّبوا بالله ورسوله بالباطل ، ذلك كقولهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن حديث فتية ذهبوا في أوّل الدهر لم يدر ما شأنهم ، وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وعن الروح ، وما أشبه ذلك مما كانوا يخاصمونه به ، يبتغون إسقاطه ، تعنيتا له صلى الله عليه وسلم ، فقال الله لهم : إنا لسنا نبعث إليكم رسلنا للجدال والخصومات ، وإنما نبعثهم مبشرين أهل الإيمان بالجنة ، ومنذرين أهل الكفر بالنار ، وأنتم تجادلونهم بالباطل طلبا منكم بذلك أن تبطلوا الحقّ الذي جاءكم به رسولي . وعنى بقوله : ليُدْحِضُوا بِهِ الحَقّ ليبطلوا به الحقّ ويزيلوه ويذهبوا به . يقال منه : دحض الشيء : إذا زال وذهب ، ويقال : هذا مكان دَحْض : أي مُزِل مُزْلِق لا يثبت فيه خفّ ولا حافر ولا قدم ومنه قوله الشاعر :
رَدِيتُ ونَجّى اليَشْكُرِيّ حِذَارُهُ *** وحادَ كما حادَ البَعيرُ عَن الدّحْضِ
ويروى : ونحّى ، وأدحضته أنا : إذا أذهبته وأبطلته .
وقوله : واتّخَذُوا آياتي وَما أُنْذِرُوا هُزُوا يقول : واتخذوا الكافرون بالله حججه التي احتجّ بها عليهم ، وكتابه الذي أنزله إليهم ، والنذر التي أنذرهم بها سخريا يسخرون بها ، يقولون : إنْ هَذَا إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُمْلىَ عَليْهِ بُكْرَةً وَأصِيلاً ولَوْ شِئْنا لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا .
{ وما نُرسل المرسلين إلا مبشّرين ومنذرين } للمؤمنين والكافرين . { ويجادل الذين كفروا بالباطل } باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ، والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا . { ليُدحضوا به } ليزيلوا بالجدال . { الحق } عن مقره ويبطلوه ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وذلك قوهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } ونحو ذلك . { واتخذوا آياتي } يعني القرآن . { وما أُنذروا } وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب . { هزُواً } استهزاء . وقرئ " هزأ " بالسكون وهو ما يستهزأ به على التقديرين .
وقوله { وما نرسل المرسلين } الآية ، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار ، قال : وليس الأمر كما يظنوا ، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا ، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات ، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار ، و { يدحضوا } معناه يزهقوا ، و «الدحض » الطين الذي يزهق فيه ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه . . . وحاد كما حاد البعير عن الدحض{[7835]}
وقوله { واتخذوا } إلى آخر الآية توعيد ، و «الآيات » تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { وما أنذروا هزواً } يريد من عذاب الآخرة ، والتقدير ما أنذروه فحذف الضمير و «الهزاء » : السخر والاستخفاف ، كقولهم أساطير الأولين ، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا .
بعْد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] . وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد ، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به ، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للجادلة ، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق .
والاستثناء من أحوال عامة محذوفة ، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين . والمراد بالمرسلين جميع الرسل .
وجملة { ويجادل الذين كفروا بالباطل } عطف على جملة { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } . وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] . وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشىء معناها على معنى التي قبلها ، فكانت جملة { ويجادل الذين كفروا بالباطل } مفيدة معنى الاستدراك ، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى ، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر . واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة ، أو لاستحضار صورة المجادلة .
والمجادلة تقدمت في قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } في سورة هود ( 74 ) .
والإدحاض : الإزلاق ، يقال : دَحَضَتْ القدم ، إذا زَلّت ، وهو مجاز في الإزالة ، لأن الرجل إذا زلقت زَالت عن موضع تخطيها ، قال تعالى : { فساهم فكان من المدحضين } [ الصافات : 141 ] .
وجملة { واتخذوا آياتي } عطف على جملة { ويجادل } فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء ، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا .
والهُزُو : مصدر هَزَا ، أي اتخذوا ذلك مستهزأً به . والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها ، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب .
وعطفُ { وما أنذروا } على « الآيات » عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم .
{ وما أنذروا } مصدرية ، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة .
وقرأ الجمهور { هزءاً } بضم الزاي . وقرأه حمزة { هُزْءاً } بسكون الزاي .