المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

150- ولما رجع موسى من مناجاة ربه إلى قومه ، غضبان عليهم لعبادتهم العجل ، حزينا لأن اللَّه فتنهم - وكان اللَّه قد اخبره بذلك قبل رجوعه - فقال لهم : ما أقبح ما فعلتم بعد غيبتي ، أسَبَقْتم بعبادة العجل ما أمركم به ربكم من انتظاري وحفظ عهدي حتى آتيكم بالتوراة ؟ ! ووضع الألواح ، واتجه إلى أخيه لشدة حزنه حين رأي ما رأي من قومه ، وأخذ يشد أخاه من رأسه ويجره نحوه من شدة الغضب ، ظنا منه أنه قصر في كفَّهم عما فعلوا ، فقال هارون لموسى . يا ابن أمي إن القوم حين فعلوا ما فعلوا قد استضعفوني وقهروني ، وقاربوا قتلى لما نهيتهم عن عبادة العجل ، فلا تَسُر الأعداء بإيذائك لي ، ولا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

قوله تعالى : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً } قال أبو الدرداء الأسف : الشديد الغضب . وقال ابن عباس والسدي : أسفا أي حزيناً ، والأسف أشد من الحزن . قوله تعالى : { قال بئسما خلفتموني من بعدي } أي : بئس ما عملتم بعد ذهابي ، يقال : خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيراً أو شراً . ذ

قوله تعالى : { أعجلتم } أسبقتم .

قوله تعالى : { أمر ربكم } ، قال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليلة . وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم .

قوله تعالى : { وألقى الألواح } ، التي فيها التوراة وكان حاملاً لها ، وألقاها على الأرض من شدة الغضب . قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع ، فرفع ما كان من أخبار الغيب ، وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام .

قوله تعالى : { وأخذ برأس أخيه } ، بذوائبه ولحيته .

قوله تعالى : { يجره إليه } ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ، لأنه كان لين الغضب .

قوله تعالى : { قال } هارون عند ذلك .

قوله تعالى : { ابن أم } قرأ أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم ، يريد يا ابن أمي ، فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله : ( يا عباد ) وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص : بفتح الميم على معنى يا ابن أماه ، وقيل : جعله اسماً واحداً وبناه على الفتح ، كقولهم : حضرموت ، وخمسة عشر ، ونحوهما . وإنما قال ( ابن أم ) وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه ، وقيل : كان أخاه لأمه دون أبيه .

قوله تعالى : { إن القوم استضعفوني } يعني عبدة العجل .

قوله تعالى : { وكادوا يقتلونني } ، هموا وقاربوا أن يقتلوني .

قوله تعالى : { فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني } في مؤاخذتك علي ،

قوله تعالى : { مع القوم الظالمين } ، يعني عبدة العجل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

138

كل ذلك وموسى - عليه السلام - بين يدي ربه ، في مناجاة وكلام ، لا يدري ما أحدث القوم بعده . . إلا أن ينبئه ربه . . وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر :

( ولما رجع موسى الى قومه غضبان أسفاً . قال : بئسما خلفتموني من بعدي ! أعجلتم أمر ربكم ؟ وألقى الألواح ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه . قال : ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني . فلا تشمت بي الأعداء ، ولا تجعلني مع القوم الظالمين . قال : رب اغفر لي ولأخي ، وأدخلنا في رحمتك ، وأنت أرحم الراحمين ) . .

لقد عاد موسى الى قومه غضبان أشد الغضب . يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله . . يبدو في قوله لقومه :

( بئسما خلفتموني من بعدي ! أعجلتم أمر ربكم ؟ ) . .

ويبدو في فعله إذ يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه .

( وأخذ برأس أخيه يجره إليه ! ) . .

وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية . والنقلة بعيدة :

( بئسما خلفتموني من بعدي ) . .

تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال ، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار !

( أعجلتم أمر ربكم ؟ ) . .

أي استعجلتم قضاءه وعقابه ! أو ربما كان يعني : استعجلتم موعده وميقاته !

( وألقى الألواح ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) . .

وهي حركة تدل على شدة الانفعال . . فهذه الألواح هي التي كانت تحمل كلمات ربه . وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه . وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه . وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب !

فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة ، ليسكن من غضبه ، ويكشف له عن طبيعة موقفه ، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم :

( قال : ابن أم ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ! ) . .

وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم الى العجل الذهب ؛ حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس :

ابن أم . . بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة .

( إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) . . بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه .

( فلا تشمت بي الأعداء ) . . وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة ، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون !

( ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) . .

القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق ، فأنا لم أضل ولم أكفر معهم ، وأنا بريء منهم !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل ، رجع غضبان أسفا ، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومُه ، وأن السامريّ قد أضلهم ، فكان رجوعه غضبان أسفا لذلك . والأسف : شدّة الغضب والتغيظ به على من أغضبه . كما :

حدثني عمران بن بكار الكُلاعي ، قال : حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي ، قال : ثني شريح بن يزيد ، قال : سمعت نصر بن علقمة ، يقول : قال أبو الدرداء : قول الله : غَضْبانَ أسِفا ، قال : الأسف : منزلة وراء الغضب أشدّ من ذلك ، وتفسير ذلك في كتاب الله : ذهب إلى قومه غضبان ، وذهب أسفا .

وقال آخرون في ذلك ما :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أَسِفا قال : حزينا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا يقول : أسفا حزينا . وقال في الزخرف فلمّا آسفُونَا يقول : أغضبونا . والأسف على وجهين : الغضب والحزن .

حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا سليمان بن سليمان ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا قال : غضبان حزينا .

وقوله قال : بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي يقول : بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت من ورائي من قومي فيكم وديني الذي أمركم به ربكم . يقال منه : خلفه بخير وخلفه بشرّ إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم خيرا أو شرّا . وقوله : أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبّكُمْ يقول : أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم ، وذهبتم عنه ؟ يقال منه : عجل فلان هذا الأمر : إذا سبقه ، وعجل فلانٌ فلانا إذا سبقه ، ولا تعجَلني يا فلان : لا تذهب عني وتدعني ، وأعجلته : استحثثته .

القول في تأويل قوله تعالى : وألْقَى الألْوَاحَ وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمّ إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي .

يقول تعالى ذكره : وألقى موسى الألواح . ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياه ، فقال بعضهم : ألقاها غضبا على قومه الذي عبدوا العجل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب قال : ثني سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وألقى الألواح من الغضب .

وحدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا ابن عيينة ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما رجع موسى إلى قومه ، وكان قريبا منهم ، سمع أصواتهم فقال : إني لأسمع أصوات قوم لاهين . فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها ، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخذ موسى الألواح ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ، فقال : يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْدا حَسَنا . إلى قوله : فكذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ ف ألْقَى مُوسَى الألْوَاحَ وأخَذَ برأَسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ قال يا ابْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، ألقى الألواح من يده ، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته يقول : ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِ أفَعَصَيْتَ أمْرِي ؟ .

وقال آخرون : إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه ، فاشتدّ ذلك عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيدُ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أخَذَ الألْوَاحَ قال : رَبّ إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة هم الاَخرون السابقون : أي آخرون في الخلق ، سابقون في دخول الجنة ، ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها ، وكان مَن قبلَهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه قال قتادة : وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم قال : ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأوّل وبالكتاب الاَخِر ، ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ثم يؤجرون عليها ، وكان مَن قبلهم من الأمم إذا تصدّق بصدقة فقبلت منه ، بعث الله عليهم نارا فأكلتها ، وإن ردّت عليه تركت تأكلها الطير والسباع ، قال : وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم ، قال : ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ، ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة هم المشفّعون والمشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال : اللهمّ اجعلني من أمة أحمد قال : فأُعطي نبيّ الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبيّ ، قال الله : يا مُوسَى إنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ برِسالاتي وبِكَلامي قال : فرضي نبي الله . ثم أُعطي الثانية : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يَهْدُونَ بالحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال : فرضي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا .

حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : لما أخذ موسى الألواح ، قال : يا ربّ إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : يا ربّ إني أجد في الألواح أمة هم الاَخرون السابقون يوم القيامة ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد ، ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ ، إلا أنه قال في حديثه : فألقى موسى عليه السلام الألواح وقال : اللهمّ اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجلَ لأن الله جلّ ثناؤه بذلك أخبر في كتابه ، فقال : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبّكُمْ وألْقَى الألْوَاحَ وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ وذلك أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة ، أدناه منه حتى سمع صريف القلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي عمارة ، عن عليّ عليه السلام قال : كتب الله الألواح لموسى عليه السلام وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح .

قال : ثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : أدناه حتى سمع صريف الأقلام .

وقيل : إن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة أسباعها ، وكان فيما رفع تفصيل كلّ شيء الذي قال الله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي ، وهو الذي قال الله : أخذَ الألْواحَ وفي نُسخِتها هُدًى وَرَحْمَةٌ للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبونَ . وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وِقر بعير يقرأ منها الجزء في سنة كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن خالد المكفوف ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ منها الجزء في سنة ، لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى بن عمران ، وعيسى ، وعُزير ، ويوشع بن نون صلوات الله عليهم .

واختلفوا في الألواح ، فقال بعضهم : كانت من زمرّد أخضر . وقال بعضهم : كانت من ياقوت . وقال بعضهم : كانت من برَد . ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك :

حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ألقى موسى الألواح فتكسرت ، فرفعت إلا سدسها . قال : ابن جريج : وأخبرني أن الألواح من زبرجد وزمرّد من الجنة .

وحدثني موسى بن سهل الرملي وعليّ بن داود وعبد الله بن أحمد بن شبويه وأحمد بن الحسن الترمذي ، قالوا : أخبرنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كانت ألواح موسى عليه السلام من بَرَد .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي الجنيد ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الألواح من أيّ شيء كانت ؟ قال : كانت من ياقوتة كتابة الذهب كتبها الرحمن بيده ، فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن محمد بن أبي الوضاح ، عن خصِيف ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال : كانت الألواح زمرّدا ، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة ، وذهب التفصيل .

قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن محمد بن مسلم ، عن خَصيف ، عن مجاهد ، قال : كانت الألواح من زمرّد أخضر .

وزعم بعضهم أن الألواح كانت لوحين ، فإن كان الذي قال كما قال ، فإنه قيل : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ وهما لوحان ، كما قيل : فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ وهما أخوان .

وأما قوله : وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ فإن ذلك من فعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان لموجدته على أخيه هارون في تركه اتباعه وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم فيه ، كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل موسى عليه السلام له : ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِي أفَعَصَيْتَ أمْرِي ؟ حين أخبره هارون بعذره ، فقبل عذره ، وذلك قيله لموسى : لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي إنّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرّقْتَ بينَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلمْ تَرْقُبْ قَوْلي وقال : يا ابْنَ أُمّ إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونِني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء . . . الاَية .

واختلفت القرّاء في قراء ة قوله «يا ابْنَ أُمّ » فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة وبعض أهل البصرة : «يا ابْنَ أُمّ » بفتح الميم من الأمّ . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة : «يا ابْنَ أُمّ » بكسر الميم من الأم .

واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره ، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب . فقال بعض نحويي البصرة : قيل ذلك بالفتح على أنهما اسمان جعلا اسما واحدا ، كما قيل : يا ابن عمّ ، وقال : هذا شاذّ لا يقاس عليه ، وقال : من قرأ ذلك : «يا ابن أمّ » ، فهو على لغة الذين يقولون : هذا غلام قد جاء ، جعله اسما واحدا آخره مكسور ، مثل قوله خازِ بازِ . وقال بعض نحويي الكوفة : قيل : يا ابن أمّ ويا ابن عمّ ، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات ، فيقال : يا حسرتا ، يا ويلتا ، قال : فكأنهم قالوا : يا أماه ويا عماه ولم يقولوا ذلك في أخ ، ولو قيل ذلك لكان صوابا . قال : والذين خفضوا ذلك فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء . قال : ولا تكاد العرب تحذف الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادِي إلى نفسه ، إلا قولهم : يا ابن أمّ ، ويا ابن عمّ وذلك أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم ، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء ، فقالوا : يا ابن أبي ، ويا ابن أختي وأخي ، ويا ابن خالتي ، ويا ابن خالي .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إذا فُتحت الميم من «ابن أمّ » ، فمراد به الندبة : يا ابن أماه ، وكذلك من ابن عمّ فإذا كُسرت ، فمراد به الإضافة ، ثم حذفت الياء التي هي كناية اسم المخِبر عن نفسه . وكأن بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا كسر ، ككسر الزاي من خازِ بازِ ، لأن خازِ بازِ لا يعرف الثاني إلا بالأوّل ولا الأوّل إلا بالثاني ، فصار كالأصوات . وحُكي عن يونس النحوي تأنيث أمّ وتأنيث عمّ ، وقال : لا يجعل اسما واحدا إلا مع ابن المذكر . قالوا : وأما اللغة الجيدة والقياس الصحيح فلغة من قال : «يا ابن أمي » بإثبات الياء ، كما قال أبو زَبيد :

يا بْنَ أُمّي ويا شُقَيّقَ نَفْسِي ***أنْتَ خَلّفْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ

وكما قال الاَخر :

يا بْنَ أُمّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْ ***عُو تَمِيما وأنْتَ غيرُ مُجَابِ

وإنما أثبت هؤلاء الياء في الأم لأنها غير مناداة ، وإنما المنادي هو الابن دونها ، وإنما تسقط العرب الياء من المنادى إذا أضافته إلى نفسها ، لا إذا أضافته إلى غير نفسها ، كما قد بينا . وقيل : إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام : «يا ابن أمّ » ، ولم يقل : «يا ابن أبي » ، وهما لأب واحد وأم واحدة ، استعطافا له على نفسه برحِم الأم . وقوله : إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي يعني بالقوم الذين عكفوا على عبادة العجل ، وقالوا هذا إلهنا وإله موسى ، وخالفوا هارون . وكان استضعافهم إياه ، تركهم طاعته واتباع أمره . وكَادُوا يَقْتُلُونَني يقول : قاربوا ولم يفعلوا .

واختلفت القراء في قراءة قوله : فَلا تُشْمِتْ فقرأ قرّاء الأمصار ذلك : فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ بضمّ التاء من تُشمت وكسر الميم منها ، من قولهم : أشمت فلان فلانا بفلان ، إذا سرّه فيه بما يكرهه المُشمَت به . ورُوي عن مجاهد أنه قرأ ذلك : «فلا تَشْمُتْ بِيَ الأعْدَاءُ » .

حدثني بذلك عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال حميد بن قيس قرأ مجاهد : «فَلا تَشْمُتْ بِيَ الأعْدَاءَ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن حميد ، قال : قرأ مجاهد : «فَلا تَشْمُتْ بِيَ الأعْدَاءُ » .

حُدثت عن يحيى بن زياد الفرّاء ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن رجل ، عن مجاهد أنه قال : لا تَشْمُتْ .

وقال الفرّاء : قال الكسائي : ما أدري ، فلعلهم أرادوا : فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ فإن تكن صحيحة فلها نظائر . العرب تقول : فَرِغْتُ وَفَرَغْتُ ، فمن قال : فَرِغْتُ قال : أنا أفْرَغُ ، ومن قال : فَرَغْتَ قال : أنا أفْرُغُ ، وكذلك رَكِبْت وَرَكَنْتُ وشَمِلَهم أمر وشَمَلَهم ، في كثير من الكلام . قال : «والأعداء » رَفْع لأن الفعل لهم لمن قال تَشْمَتُ أو تَشْمُت .

والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها قراءة من قرأ : فَلا تُشْمِتْ بضم التاء الأولى وكسر الميم من أشمتّ به عدوّه أشْمِته به ، ونصب الأعداء لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليها وشذوذ ما خالفها من القراءة ، وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها . هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب : شمّتَ فلان فلانا بفلان ، وشمَت فلان بفلان يشمُت به ، وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوّه شَمِتَ به بكسر الميم يَشْمَتُ به بفتحها في الاستقبال .

وأما قوله : وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ فإنه قول هارون لأخيه موسى ، يقول : لا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك محلّ من عصاك فخالف أمرك وعبد العجل بعدك فظلم نفسه وعبد غير من له العبادة ، ولم أشايعهم على شيء من ذلك . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ قال : أصحاب العجل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . بمثله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } شديد الغضب وقيل حزينا . { قال بئسما خلفتموني من بعدي } فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل ، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه ! وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي ، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه . { أعجلتم أمر ربكم } أتركتموه غير تام ، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته ، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم . { وألقى الألواح } طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين . روي : أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام . { وأخذ برأس أخيه } بشعر رأسه . { يجرّه إليه } توهما بأنه قصر في كفهم ، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولا لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل . { قال ابن أمّ } ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي " طه " " يا ابن أم " بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء ، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيها بخمسة عشر . { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } إزاحة لتوهم التقصير في حقه ، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي . { فلا تُشمت بي الأعداء } فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله . { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

يريد رجع من المناجاة ، ويروى : أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال : هذه أصوات قوم لاهين ، فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخله الغضب والأسف وألقى الألواح ، قاله ابن إسحاق ، وقال الطبري : أخبره الله تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ، و «الأسف » قد يكون بمعنى الغضب الشديد ، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن والمعنيان مترتبان هاهنا ، و «ما » المتصلة ب «بئس » مصدرية ، هذا قول الكسائي ، وفيها اختلاف قد تقدم في البقرة ، أي بئس خلافتكم لي من بعدي ، ويقال : خلفه بخير أو بشر إذا فعله بمن ترك من بعده ، ويقال عجل فلان الأمر إذا سبق فيه ، فقوله : { أعجلتم } معناه : أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدر به ؟ ، وقوله تعالى : { وألقى الألواح } الآية ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كان سبب إلقائه الألواح غضبه على قومه في عبادتهم العجل وغضبه على أخيه في إهمال أمرهم ، وقال قتادة إن صح عنه : بل كان ذلك لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرغب أن يكون ذلك لأمته فلما علم أنه لغيرها غضب .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول رديء لا ينبغي أن يوصف موسى عليه السلام به والأول هو الصحيح ، وبالجملة فكان في خلق موسى عليه السلام ضيق وذلك مستقر في غير موضع ، وروي أنها كانت لوحان وجمع إذ التثنية جمع ، وروي أنها كانت وقر سبعين بعيراً يقرأ منها الجزء في سنة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف مفرط ، وقاله الربيع بن أنس ، وقال ابن عباس : إن موسى لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة ، وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وقد تقدم القول من أي شيء كانت الألواح ، وأخذه برأس أخيه ولحيته من الخلق المذكور ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي أن ذلك إنما كان ليساره فخشي هارون أن يتوهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والأول هو الصحيح لقوله { فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } وقوله : { يا ابن أم } استلطاف برحم الأم إذ هو ألصق القرابات ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «ابن أمَّ » بفتح الميم فقال الكوفيون أصله ابن أماه فحذفت تخفيفاً ، وقال سيبويه هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوها ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «ابن أمِّ » بكسر الميم ، فكأن الأصل ابن أمي فحذفت الياء إما على حد حذفهم من : لا أبال ولا أدر تخفيفاً ، وإما كأنهم جعلوا الأول والآخر اسماً واحداً ثم أضافوا كقولك يا أحد عشر أقبلوا ، قاله سيبويه ، وهذا أقيس من الحذف تخفيفاً ، ثم أضافوا ياء المتكلم ، ثم حذفت الياء من أمي على لغة من يقول يا غلام فيحذفها من المنادى ، ولو لم يقدر جعل الأول والآخر اسماً واحداً لما صح حذفها لأن الأم ليست بمناداة ، و { استضعفوني } : معناه اعتقدوا أني ضعيف ، وقوله : { كادوا } معناه قالوا ولم يفعلوا ، وقرأ جمهور الناس «فلا تُشْمِت بي الأعداء » بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء ، وقرأ مجاهد فيما حكاه أبو حاتم «فلا تَشمَت بي » بفتح التاء من فوق والميم ورفع «الأعداءُ » أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي ، وقرأ حميد بن قيس «تَشمِت » بتاء مفتوحة وميم مكسورة ورفع «الأعداءُ » حكاها أبو حاتم ، وقرأ مجاهد أيضاً فيما حكاه أبو الفتح «فلا تَشمَت بي الأعداءَ » بفتح التاء من فوق والميم ونصب الأعداء ، هذا على أن يعَّدى شمت يشمت ، وقد روي ذلك ، قال أبو الفتح : فلا تشمت بي أنت يا رب ، وجاز هذا كما قال تعالى : { يستهزئ بهم } ونحو ذلك ، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كأنه قال : لا تشمت بي الأعداء كقراءة الجماعة .

قال القاضي أبو محمد : وفي كلام أبي الفتح هذا تكلف ، وحكى المهدوي عن ابن محيصن : «تَشِمت » بفتح التاء وكسر الميم ، «الأعداءَ » بالنصب ، والشماتة : فرحة العدو بمصاب عدوه ، وقوله : { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } يريد عبدة العجل .