قوله تعالى : " ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " لم ينصرف " غضبان " لأن مؤنثه غضبى ، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء . وهو نصب على الحال . و " أسفا " شديد الغضب . قال أبو الدرداء : الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك . وهو أسف وأسف وأسفان وأسوف . والأسيف أيضا الحزين . ابن عباس والسدي : رجع حزينا من صنيع قومه . وقال الطبري : أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل ؛ فلذلك رجع وهو غضبان . ابن العربي : وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضبا ، لكنه كان سريع الفيئة{[7375]} ، فتلك بتلك . قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ، ورفع شعر بدنه جبته . وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب . ولأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يضطجع . فإن لم يذهب غضبه اغتسل ، فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله . وسرعة غضبه كان سببا لصكه ملك الموت ففقأ عينه . وقد تقدم في المائدة{[7376]} وقال الترمذي الحكيم : وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله ، كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مد إليه يدا بأذى فقد عظم الخطب فيه . ألا ترى أنه احتج عليه فقال : من أين تنزع روحي ؟ أمن فمي وقد ناجيت به ربي ! أم من سمعي وقد سمعت به كلام ربي ! أم من يدي وقد قبضت منه{[7377]} الألواح ! أم من قدمي وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور ! أم من عيني وقد أشرق وجهي لنوره . فرجع إلى ربه مفحما . وفي مصنف أبي داود عن أبي ذر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) . وروي أيضا عن أبي وائل القاص قال : دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه ، فقام ثم رجع وقد توضأ ، فقال : حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) .
قوله تعالى : " قال بئسما خلفتموني من بعدي " ذم منه لهم ، أي بئس العمل عملتم{[7378]} بعدي . يقال : خلفه بما يكره . ويقال في الخير أيضا . يقال منه : خلفه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه . " أعجلتم أمر ربكم " أي سبقتموه . والعجلة : التقدم بالشيء قبل وقته ، وهي مذمومة . والسرعة : عمل الشيء في أول أوقاته ، وهي محمودة . قال يعقوب : يقال عجلت الشيء سبقته . وأعجلت الرجل استعجلته ، أي حملته على العجلة . ومعنى " أمر ربكم " أي ميعاد ربكم ، أي وعد أربعين ليلة . وقيل : أي تعجلتم سخط ربكم . وقيل : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم .
قوله تعالى : { وألقى الألواح } فيه مسألتان :
الأولى - قوله تعالى : " وألقى الألواح " أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل ، وعلى أخيه في إهمال أمرهم ، قاله سعيد بن جبير . ولهذا قيل : ليس الخبر كالمعاينة . ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح عنه ، ولا يصح أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأمته . وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسرت ، وأنه رفع منها التفصيل وبقي فيها{[7379]} الهدى والرحمة .
الثانية - وقد استدل بعض جهال المتصوفة بهذا على جواز رمي الثياب إذا اشتد طربهم على المغنَى . ثم منهم من يرمي بها صحاحا ، ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها . قال : هؤلاء في غيبة فلا يلامون ، فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل ، رمى الألواح فكسرها ، ولم يدر ما صنع . قال أبو الفرج الجوزي : من يصحح عن موسى عليه السلام أنه رماها رمي كاسر ؟ والذي ذكر في القرآن ألقاها ، فمن أين لنا أنها تكسرت ؟ ثم لو قيل : تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها ؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة ، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه . ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره ، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم . ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء . وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال : خطأ وحرام ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . فقال له قائل : فإنهم لا يعقلون ما يفعلون . فقال : إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا ، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع ؛ لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذا الموضع الذي يفضي إلى ذلك . كما هم منهيون عن شرب المسكر ، كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا أن فيه سكر طبع ، وإن كذبوا أفسدوا مع الصحو ، فلا سلامة فيه مع الحالين ، وتجنب مواضع الريب واجب .
قوله تعالى : " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " أي بلحيته وذؤابته . وكان هارون أكبر من موسى - صلوات الله وسلامه عليهما - بثلاث سنين ، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ؛ لأنه كان لين الغضب . وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربع تأويلات : الأول : أن ذلك كان متعارفا عندهم ، كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما ، فلم يكن ذلك على طريق الإذلال . الثاني : أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه ؛ لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة . فقال له هارون : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ؛ لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله . الثالث : إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل . ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء . الرابع : ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه ، فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه ، فبين له أخوه أنهم استضعفوه ، يعني عبدة العجل ، وكادوا يقتلونه أي قاربوا .
فلما سمع عذره قال : رب اغفر لي ولأخي ، أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح ، ولأخي لأنه ظنه مقصرا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير ، أي اغفر لأخي إن قصر . قال الحسن : عبد كلهم العجل غير هارون ، إذ لو كان ثم مؤمن غير موسى وهارون لما اقتصر على قوله : رب اغفر لي ولأخي ، ولدعا لذلك المؤمن أيضا . وقيل : استغفر لنفسه من فعله بأخيه ، فعل ذلك لموجدته عليه ؛ إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم ؛ ولهذا قال : " يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن{[7380]} أفعصيت أمري " [ طه : 92 - 93 ] الآية . فبين هارون أنه إنما أقام خوفا على نفسه من القتل . فدلت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت . وقد تقدم في بيان هذا في " آل عمران{[7381]} " ابن العربي : وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس ، فإن موسى عليه السلام لم يغير غضبه شيئا من أفعاله ، بل اطردت على مجراها من إلقاء لوح وعتاب أخ وصك ملك . المهدوي : لأن غضبه كان لله عز وجل ، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا أو يتفرقوا .
قوله تعالى : " قال ابن أم " وكان ابن أمه وأبيه . ولكنها كلمة لين وعطف . قال الزجاج : قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه . وقرئ بفتح الميم وكسرها ، فمن فتح جعل " ابن أم " اسما واحدا كخمسة عشر ، فصار كقولك : يا خمسة عشر أقبلوا . ومن كسر الميم جعله مضافا إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة ؛ لأن مبنى النداء على الحذف ، وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة ، كقوله : " يا عباد{[7382]} " [ الزمر : 10 ] . يدل عليه قراءة ابن السميقع " يا ابن أمي " بإثبات الياء على الأصل . وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد : " يا ابن أم " بالفتح ، تقديره يا ابن أماه . وقال البصريون : هذا القول خطأ ؛ لأن الألف خفيفة لا تحذف ، ولكن جعل الاسمين اسما واحدا . وقال الأخفش وأبو حاتم : " يا ابن أم " بالكسر كما تقول : يا غلام غلام أقبل ، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة . وإنما هذا فيما يكون مضافا إليك ، فأما المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول : يا غلام غلامي ، ويا ابن أخي . وجوزوا يا ابن أم ، يا ابن عم ، لكثرتها في الكلام . قال الزجاج والنحاس : ولكن لها وجه حسن جيد ، يجعل الابن مع الأم ومع العم اسما واحدا ، بمنزلة قولك : يا خمسة عشر أقبلوا ، فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام " إن القوم استضعفوني " استذلوني وعدوني ضعيفا . " وكادوا " أي قاربوا . " يقتلونني " بنونين ؛ لأنه فعل مستقبل . ويجوز الإدغام في غير القرآن{[7383]} . " فلا تشمت بي الأعداء " أي لا تسرهم . والشماتة : السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا . وهي محرمة منهي عنها . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويقول : ( اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء ) . أخرجه البخاري وغيره . وقال الشاعر :
إذا ما الدهرُ جَرَّ على أُنَاسٍ *** كَلاَكِلَهُ أناخَ بآخرينَا
فقل للشَّامتِينَ بنا أفيقُوا *** سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كما لَقِينَا
وقرأ مجاهد ومالك بن دينار " تشمت " بالنصب في التاء وفتح الميم ، " الأعداء " بالرفع . والمعنى : لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء ، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي . وعن مجاهد أيضا " تشمت " بالفتح فيهما " الأعداء " بالنصب . قال ابن جني : المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب . وجاز هذا كما قال : " الله يستهزئ بهم{[7384]} " [ البقرة : 15 ] ونحوه . ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء ، كأنه قال : ولا تشمت بي ، الأعداء . قال أبو عبيد : وحكيت عن حميد : " فلا تشمت " بكسر الميم . قال النحاس : ولا وجه لهذه القراءة ؛ لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول تشمت . وإن كان من أشمت وجب أن يقول تشمت . وقوله : " ولا تجعلني مع القوم الظالمين " قال مجاهد : يعني الذين عبدوا العجل .