فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِي مِنۢ بَعۡدِيٓۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِي وَكَادُواْ يَقۡتُلُونَنِي فَلَا تُشۡمِتۡ بِيَ ٱلۡأَعۡدَآءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِي مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (150)

{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه ، والأسف : شديد الغضب قاله محمد بن كعب ، وقيل هو منزلة وراء الغضب أشد منه ، قاله أبو الدرداء ، وقال ابن عباس والسدي : الأسف الحزن والأسيف الحزين ، قال الواحدي : والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب ، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنا والأخرى غضبا يقال : هو أسف وأسيف وأسفان وأسوف .

قال ابن جرير الطبري : أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا ، وأن السامري قد أضلهم فلذلك رجع وهو غضبان أسفا .

{ قال بئسما خلفتموني من بعدي } هذا ذم من موسى لقومه أي بئس العمل ما عملتموه من بعد غيبتي عنكم وفراقي إياكم ، يقال : خلفه بخير ، وخلفه بشر ، استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الإنزجار ، والإيمان بالله وحده ، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلون حالهم واضطراب أفعالهم .

ثم قال منكرا عليهم { أعجلتم أمر ربكم } العجلة التقدم بالشيء قبل وقته يقال : عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة ، ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته ، والمعنى أعجلتم عن انتظار أمر ربكم أي ميعاده الذي وعدنيه وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم ، قاله الحسن وقيل معناه تعجلتم سخط ربكم وقيل معناه أعجلتم وأسبقتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ، قاله الكلبي ، وقيل معنى أعجلتم تركتم والأول أولى .

{ وألقى الألواح } التي فيها التوراة أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف وفرط الزجر حمية للدين حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل ، قال ابن عباس : لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلى سدسها .

وعنه كما أخرج أبو الشيخ رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع ، وقال مجاهد : لما ألقاها موسى ذهب التفصيل يعني أخبار الغيب ، وبقي الهدى أي ما فيه المواعظ والأحكام ، عن ابن جريج قال : كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة وفي زاده : المراد بإلقائها أنه وضعها في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه لا رغبة عنها فلما عاد إليها أخذها بعينها .

{ وأخذ برأس أخيه } هارون أو بشعر رأسه ولحيته حال كونه { يجره } إليه من شدة غضبه لا هوانا به قال ابن الأنباري : مد يده إلى رأسه لشدة ما وجده عليه وفعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غير ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل .

{ قال } هراون معتذرا منه يا { ابن أم } إنما قال هذا مع كونه أخاه لأبيه وأمه لأنها كلمة لين ورفق وعطف ، ولأن حق الأم أعظم وأحق بالمراعاة وقد قاست فيه المخاوف والشدائد مع أنها كما قيل كانت مؤمنة ، وقال الزجاج : قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه ، قال أبو السعود : وكان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل .

{ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي ومقاربتهم لقتلي ، مع إني لم آل جهدا في كفهم بالوعظ والإنذار .

{ فلا تشمت بي الأعداء } الشماتة : أصلها الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال : شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به ، والمعنى لا تسر الأعداء بما تفعل بي من المكروه ، وفي المصباح شمت به يشمت من باب سلم إذا فرح بمصيبة نزلت به ، والاسم الشماتة وأشمت الله العدو به ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء ) ، وهو في الصحيح{[784]} .

قيل : والمعنى لا تفعل بي ما يكون سببا للشماتة منهم ، وقال مجاهد ومالك ابن دينار : لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي ، وقال ابن جني : والمعنى فلا تشمت بي أنت يا رب ، وما أبعد هذا المعنى عن الصواب ، وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب .

{ ولا تجعلني مع القوم الظالمين } أي لا تجعلني بغضبك في عداد القوم الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم مع براءتي منهم ومن ظلمهم .


[784]:- مسلم 2707- البخاري 2401.