قوله تعالى : { وقدمنا } وعمدنا ، { إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } أي : باطلاً لا ثواب له ، لأنهم لم يعلموه لله عز وجل . واختلفوا في الهباء ، قال علي : هو ما يرى في الكوة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار ، ولا يمس بالأيدي ، ولا يرى في الظل ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد ، والمنثور : المتفرق . وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر . وقال مقاتل : هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير . وقيل : الهباء المنثور : ما يرى في الكوة ، والهباء المنبث : هو ما تطيره الرياح من سنابك الخيل .
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } أي : أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها ، { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أي باطلا مضمحلا قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده الإيمان وصدوره عن مكذب لله ورسله ، فالعمل الذي يقبله الله ، ما صدر عن المؤمن المخلص المصدق للرسل المتبع لهم فيه .
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقري الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره ، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثرا ، وال { هباء } غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ، و { منثورا } صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها ، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى : { كونوا قردة خاسئين } .
كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها : « لقد خشِيتُ على نفسي » ، فقالت : « والله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق » . فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم : لئن كان البعث حقّاً لنجدنّ أعمالاً عملناها من البرّ تكون سبباً لنجاتنا ، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ .
والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة ، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل : قَام يفعل ، وذَهب يقول ، وأقبل ، ونحوها . وأصل ذلك ناشىء عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه ، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول : وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا .
و { مِن } في قوله : { من عمل } بيانية لإبهام { ما } وتنكير { عمل } للنوعية ، والمراد به عمل الخير ، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير .
والهباء : كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها ، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار ، أي فجعلناه كهباء منثور ، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجوداً ، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق . ونظيره قوله تعالى : { وبُسّت الجبالُ بسّاً فكانت هباءً منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] .
والمنثور : غير المنتظم ، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً ، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.