الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا} (23)

قوله تعالى : " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل " هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة ؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم . يقال : قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده . وقال مجاهد : " قدمنا " أي عمدنا . وقال الراجز :

وقدم الخوارجُ الضلال *** إلى عِبَاد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلالُ

وقيل : هو قدوم الملائكة ، أخبر به نفسه تعالى فاعله{[12112]} . " فجعلناه هباء منثورا " أي لا ينتفع به ، أي أبطلناه بالكفر . وليس " هباء " من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين . والتصغير هبي في موضع الرفع ، ومن النحويين من يقول : هبي{[12113]} في موضع الرفع ، حكاه النحاس . وواحده هباة والجمع أهباء . قال الحارث بن حلزة يصف ناقة :

فترى خِلْفَها من الرَّجْع والوَقْ *** *** عِ مَنِينًا كأنه أهباءُ{[12114]}

وروى الحرث عن علي قال : الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة . وقال الأزهري : الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار . تأويله : إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور . فأما الهباء المنبث . فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار . والمنبث المتفرق . وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق . الجوهري : ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا . والهبوة الغبرة . قال رؤبة .

تبدو لنا أعلامُه بعد الغَرَقْ *** في قِطَعِ الآل وهَبْوَاتِ الدُّقَقْ{[12115]}

وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة . وقيل : إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر . قاله قتادة وابن عباس . وقال ابن عباس أيضا : إنه الماء المهراق . وقيل : إنه الرماد . قاله عبيد{[12116]} بن يعلى .


[12112]:كذا في الأصل؛ وعبارة ابن عطية: " أسنده إليه لأنه عن أمره".
[12113]:قال النحاس: والتقدير عنده هبىء.
[12114]:قوله "خلفها" أي خلف الناقة. والرجع: رجع قوائمها. والوقع: وقع خفافها. والمنين: الغبار الدقيق الذي تثيره.
[12115]:الدقق: ما دق من التراب، والواحد منه الدقي كما تقول الجلي والجلل.
[12116]:كذا في الأصل؛ وفي " روح المعاني": يعلى بن عبيد.