فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا} (23)

{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } هذا وعيد آخر ، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها صور الخير ، من صلة الرحم ، وإغاثة الملهوف ، وإطعام الطعام ، وأمثالها ولم يمنع من الأثابة عليها إلا الكفر ، الذي هم عليه فمثلت حالهم وأعمالهم ، بحال قوم خالفوا سلطانهم ، واستعصوا عليه ، فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ، ولم يترك منه شيئا ، وإلا فلا قدوم ههنا أو هو من الصفات ، كالمجيء والنزول ، فيجب الإيمان به من غير تأويل ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تشبيه ، ولا تمثيل ، كما هو مذهب السلف الصلحاء ، وهو الحق .

قال الواحدي : معنى قدمنا عمدنا ، وقصدنا ، يقال : قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده ، أو عمده ، وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى والقصد في حق الله يرجع لمعنى الإرادة .

{ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } أي باطلا ، لا ثواب له ، لأنهم لم يعملوا لله عز وجل ومنه الحديث الصحيح ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) {[1317]} والهباء واحده هباءة ، والجمع أهباء . قال النضر بن شميل : الهباء التراب الذي تطيره الريح ، كأنه دخان . وقال الزجاج : هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس شبه الغبار . وكذا قال الخليل ، والأزهري . وقال ابن عرفة : الهباء ، والهبوة التراب الدقيق . وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب ، عند السير من الغبار ، وعن علي قال : الهباء شعاع الشمس ، الذي يخرج من الكوة ، وعنه الهباء وهج الغبار ، يسطع ، ثم يذهب ، فلا يبقى منه شيء .

وعن ابن عباس قال : الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا ، وعنه قال : هو ما تسفي الريح ، وتبثه من التراب وحطام الشجر ، وعنه هو الماء المهراق ، والمعنى الأول هو الذي ثبت في لغة العرب ، ونقله العارفون بها ، والمنثور المفرق ، والمعنى أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور ، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد ، وبالجملة هو استعارة عن جعله بحيث لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع . إذا لا ثواب فيه ، لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا .


[1317]:مسلم 1718 –البخاري 1303