قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون* ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } على دينه ، { رأفةً } وهي أشد الرقة ، { ورحمةً } كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { رحماء بينهم }( الفتح- 29 ) ، { ورهبانية ابتدعوها } من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم ، { ما كتبناها } ، أي ما فرضناها ، { عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ، { فما رعوها حق رعايتها } أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ، فتهودوا وتنصروا ، ودخلوا في دين ملوكهم ، وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حرب ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا ، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية . { فآتينا الذين آمنوا منهم } يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم ، والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع " . وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا ، فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله عز وجل : { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ، { فما رعوها حق رعايتها } يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، { وكثير منهم فاسقون } هم الذين جاؤوا من بعدهم .
قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره ، وآمنوا به فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم ، { يؤتكم كفلين } نصيبين ، { من رحمته } يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله :{ ورحمة } ثم ابتدأ : { ورهبانية ابتدعوها } ، وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها ، يعني : الطاعة والملة { حق رعايتها } كناية عن غير مذكور ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد . معنى قوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى اتقوا الله . { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } . وروينا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . { ويجعل لكم نوراً تمشون به } قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : { نورهم يسعى بين أيديهم }( التحريم- 8 ) ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ، { ويغفر لكم والله غفور رحيم } وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله عز وجل : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين }( القصص- 54 ) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ، وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وزادهم النور والمغفرة .
{ 28-29 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
وهذا الخطاب ، يحتمل أنه [ خطاب ] لأهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام ، يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم ، بأن يتقوا الله فيتركوا معاصيه ، ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم الله { كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : نصيبين من الأجر نصيب على إيمانهم بالأنبياء الأقدمين ، ونصيب على إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ويحتمل أن يكون الأمر عاما يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم ، وهذا الظاهر ، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين ، ظاهره وباطنه ، أصوله وفروعه ، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم ، أعطاهم الله { كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } لا يعلم وصفهما وقدرهما إلا الله تعالى أجر على الإيمان ، وأجر على التقوى ، أو أجر على امتثال الأوامر ، وأجر على اجتناب النواهي ، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى .
{ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } أي : يعطيكم علما وهدى ونورا تمشون به في ظلمات الجهل ، ويغفر لكم السيئات .
{ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فلا يستكثر{[998]} هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم ، الذي عم فضله أهل السماوات والأرض ، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين ولا أقل من ذلك .
وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : ضعفين ، وزادهم : { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } يعني : هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة ، ويغفر لكم . فضلهم بالنور والمغفرة . ورواه ابن جرير عنه .
وهذه الآية كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] .
وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود : كم أفضل ما ضعفت {[28334]} لكم حسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسون{[28335]} حسنة . قال : فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين . [ ثم ] {[28336]} ذكر سعيد قول الله ، عز وجل : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك . رواه ابن جرير{[28337]}
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى . ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذي عملتم . فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء " {[28338]}
قال أحمد : وحدثناه مُؤَمَّل ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، نحو حديث نافع ، عنه {[28339]} انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عن سليمان{[28340]} بن حرب ، عن حماد ، [ عن أيوب ]{[28341]} عن نافع ، به{[28342]} وعن قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، بمثله{[28343]}
وقال البخاري : حدثنى محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بَريد{[28344]} عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يومًا إلى الليل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملنا باطل . فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتَرَكُوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا : ما عملنا باطل ، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه . فقال أكملوا بقية عملكم ؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير . فأبوا ، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " انفرد به البخاري{[28345]}
ولهذا قال تعالى : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، خافوا الله بأداء طاعته ، واجتناب معاصيه ، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرُسُولِهِ يعني الذين آمنوا من أهل الكتاب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني : الذين آمنوا من أهل الكتاب .
وقوله : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يُعطكم ضعفين من الأجر لإيمانكم بعيسى صلى الله عليه وسلم ، والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعث نبيا . وأصل الكِفل : الحظّ ، وأصله : ما يكتفل به الراكبُ ، فيحبسه ويحفظه عن السقوط يقول : يُحَصّنكم هذا الكِفْل من العذاب ، كما يُحَصّن الكِفْل الراكب من السقوط . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو عمار المَرْوَزِيّ ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال : أجرين ، لإيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم ، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل ، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقهم به .
قال : ثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال : أجْرَين : إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم ، والتوراة والإنجيل .
وبه عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وهارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال : أجرين .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يقول : ضعفين .
قال : ثنا مهران ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشيّ يدعوه ، فقدم عليه ، فدعاه فاستجاب له وآمن به فلما كان انصرافه ، قال ناس ممن قد آمن به من أهل مملكته ، وهم أربعون رجلاً : ائذن لنا ، فنأتي هذا النبيّ ، فنسلم به ، ونساعد هؤلاء في البحر ، فإنّا أعلم بالبحر منهم ، فقدموا مع جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تهيأ النبيّ صلى الله عليه وسلم لوقعة أُحُدُ فلما رأوا ما بالمسلمين من الخَصاصة وشدّة الحال ، استأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : يا نبيّ الله إن لنا أموالاً ، ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة ، فإن أذِنت لنا انصرفنا ، فجئنا بأموالنا ، وواسينا المسلمين بها . فَأَذنَ لهم ، فانصرفوا ، فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله فيهم الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . . . إلى قوله : ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فكانت النفقة التي واسَوْا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن بقوله : يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا فَخَروا على المسلمين ، فقالوا : يا معشر المسلمين ، أما من آمن منا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرّتين ، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ، فما فضلكم علينا ، فأنزل الله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ فجعل لهم أجرهم ، وزادهم النورَ والمغفرة ، ثم قال : لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ . وهكذا قرأها سعيد بن جُبَير لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحَمَتِهِ قال : ضعفين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال والكفلان أجران بإيمانهم الأوّل ، وبالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني الذين آمنوا من أهل الكتاب يُؤْتِكُم كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يقول : أجرين بإيمانكم بالكتاب الأوّل ، والذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ قال : أجرين : أجر الدنيا ، وأجر الاَخرة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، عن سفيان ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن أبي موسى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال : الكفلان : ضعفان من الأجر بلسان الحَبَشة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الشعبيّ ، قال : إن الناس يوم القيامة على أربع منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى ، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فله أجران . ورجل كان كافرا بعيسى ، فأمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فله أجر . ورجل كان كافرا بعيسى ، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فباء بغضب على غضب . ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب ، فمات بكفره قبل محمد فباء بغضب .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : سألت سعيد بن عبد العزيز ، عن الكفل كم هو ؟ قال : ثلاث مئة وخمسون حسنة ، والكفلان : سبع مئة حسنة . قال سعيد : سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبرا من أحبار اليهود : كم أفضل ما ضعفت لكم الحسنة ؟ قال : كفل ثلاث مئة وخمسون حسنة قال : فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين ، ثم ذكر سعيد قول الله عزّ وجل في سورة الحديد يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ فقلت له : الكفلان في الجمعة مثل هذا ؟ قال : نعم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا معمر بن راشد ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْن : رَجُلٌ آمَنَ بالكِتابِ الأوّلِ والكِتابِ الاَخِرِ ، وَرَجُلٌ كانَت لَهُ أمّةٌ فأدّبَها وأحْسَنَ تَأدِيبَهَا ، ثُمّ أعْتَقَها فَتزَوّجَها ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عِبادَةَ رَبّهِ ، وَنَصَحَ لِسَيّدِهِ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : ثني صالح بن صالح الهمداني ، عن عامر ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبي موسى ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن صالح بن صالح ، سمع الشعبيّ يحدّث ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثني محمد بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا إسحاق بن الفرات ، عن يحيى بن أيوب ، قال : قال يحيى بن سعيد أخبرنا نافع ، أن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّمَا آجالُكُم فِي آجالِ مَن خَلا مِنَ الأُمَم ، كمَا بَينَ صَلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشّمْس ، وإنما مَثَلُكُم وَمَثَلُ اليَهُودِ والنّصَارَى كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتأجَرَ عُمّالاً ، فَقالَ : مَن يَعْمَل مِن بُكْرَةٍ إلى نِصفِ النّهارِ على قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ، ألا فَعَمِلَت اليَهُودُ ثُمّ قالَ : مَن يَعْمَلُ مِنْ نِصفِ النّهارِ إلى صَلاةِ العَصْر على قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ، ألا فَعَمِلَتِ النّصَارَى ثُمّ قالَ : مَن يعْمَل مِن صَلاةِ العَصْر إلى مَغارِبِ الشّمْس على قِيرَاطَيْن قِيرَاطَيْن ، ألا فَعَمِلْتُم » .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ هَذهِ الأُمّةِ » ، أو قال «أُمّتِي وَمَثَلُ اليَهُودِ والنّصَارَى ، كمَثَلِ رَجُلٍ قالَ : مَنْ يَعْمَلُ لي مِن غَدوَةٍ إلى نِصْفِ النّهارِ على قِيرَاط » قالَتِ اليَهودُ : نَحْنُ ، فَعَملُوا قال : «فَمَن يَعْمَلُ مِن نِصفِ النّهارِ إلى صَلاة العَصْر على قِيرَاطٍ ؟ » قالَتِ النّصَارَى : نَحْنُ ، فَعَمِلُوا ، «وأنْتُم المُسْلِمُونَ تَعْمَلُونَ مِن صَلاةِ العَصْر إلى اللّيْلِ على قِيرَاطَيْن » ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنّصَارَى وقالُوا : نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً ، وأقَلّ أجْرا ، قالَ «هَل ظَلَمْتُكُمْ مِن أُجُورِكُمْ شَيْئا ؟ » قالُوا : لا ، قال : «فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أشاءُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الليث وابن لهيعة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي أُمامة الباهليّ ، أنه قال : شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع ، فقال قولاً كثيرا حسنا جميلاً ، وكان فيها : «مَن أسْلَمَ مِن أهْلِ الكِتابَيْنِ فَلَهُ أجْرُهُ مَرّتَيْنِ ، وَلَهُ مِثْلُ الّذِي لَنَا ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الّذِي عَلَيْنَا وَمَن أسْلَمَ مِنَ المُشْركينَ فَلَهُ أجْرُهُ ، وَلَهُ مِثْلُ الذِي لَنا ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الّذِي عَلَيْنا » .
وقوله : ويَجْعَلْ لَكُم نُورا تَمْشُونَ بِهِ اختلف أهل التأويل في الذي عنى به النور في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى به القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو عمار المروزي ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ويَجْعَل لَكُم نُورا تَمْشُونَ بِهِ قال : الفرقان واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ قال : الفرقان ، واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم . حدثنا أبو كُرَيب ، وأبو هشام ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ قال : القرآن .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .
وقال آخرون : عُنِي بالنور في هذا الموضع : الهدى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : تَمْشُونَ بِهِ قال : هدى .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نورا يمشون به ، والقرآن ، مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لمن آمن بهما وصدّقهما وهدى ، لأن من آمن بذلك ، فقد اهتدى .
وقوله : وَيَغْفِرْ لَكُمْ يقول : ويصفح لكم عن ذنوبكم فيسترها عليكم وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : والله ذو مغفرة ورحمة .
وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } اختلف الناس في المخاطب بهذا ، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد ، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي » ، الحديث{[10990]} وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } ، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه ، وهذا هو معنى الأمر أبداً لمن هو متلبس بما يؤمر به .
وقوله : { كفلين } أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه ، قال أبو موسى الأشعري : { كفلين } ضعفين بلسان الحبشة ، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار : كم كان التضعيف للحسنات فيكم ؟ فقال ثلاثمائة وخمسون ، فقال عمر : الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة ، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط ، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين ، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً ، قال الله تعالى : «هل نقصتكم من أجركم شيئاً ؟ ، قالوا : لا ، قال : فإنه فضلي أوتيه من أشاء »{[10991]} . والكفل : الحظ والنصيب . والنور : هنا إما أن يكون وعداً بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة ، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله .
الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن لما وقع { يا أيها الذين آمنوا } هنا عقب قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } [ الحديد : 27 ] ، أي من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، احتمل قوله : { يا أيها الذين آمنوا } أن يكون مستعملاً استعماله اللَّقبي أعني : كونه كالعلَم بالغلبة على مؤمني ملّة الإسلام . واحتمل أن يكون قد استُعمل استعمالَه اللُّغوي الأعَمَّ ، أعني : من حصل منه إيمان ، وهو هنا من آمن بعيسى . والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودَاننِ ليأخذ خُلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى ، أي يا أيها الذين آمنوا إيماناً خالصاً بشريعة عيسى اتقوا الله واخشَوْا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإِطلاق اللقبي فيأخذَ منه المؤمنون من أهل الملة الإِسلامية بشارةً بأنهم لا يقلّ أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مِللهم ، ويكون قوله : { وآمنوا } مستعملاً في الدوام على الإِيمان كقوله : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } في سورة [ النساء : 136 ] ، ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتماللِ قصداً لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يُردفَ عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن .
ومعنى إيتاء المؤمنين من أهل ملة الإسلام كفلين من الأجر : أن لهم مثل أجرَي من آمن من أهل الكتاب . ويشرح هذا حديث أبي موسى الأشعري عن النبي في صحيح البخاري } الذي فيه « مثل المسلمين واليهود والنصار كمثَل رجل استأجر أَجراء يعملون له ، فعملت اليهود إلى نصف النهار ، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ، ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين ، قال فيه : واستكمَلُوا أجر الفريقين كليهما » أي استكملوا مثل أجر الفريقين ، أي أخذوا ضعف كل فريق .
وتقوى الله تتعلق بالأعمال وبالاعتقاد ، وبعلم الشريعة ( وقد استدل أصحابنا على وجوب الاجتهاد للمتأهل إليه بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] . )
وقوله : { اتقوا الله } أمر لهم بما هو وسيلة ومقدمة للمقصود وهو الأمر بقوله : { وآمنوا برسوله } .
ورتب على هذا الأمر ما هو جواب شرط محذوف وهو جملة { يؤتكم كفلين } الخ المجزوم في جواب الأمر ، أي يؤتكم جزاءً في الآخرة وجزاء في الدنيا فجزاء الآخرة قوله : { يؤتكم كفلين من رحمته } وقوله : { ويغفر لكم } ، وجزاء الدنيا قوله : { ويجعل لكم نوراً تمشون به } .
والكِفل : بكسر الكاف وسكون الفاء : النصيب .
وأصله : الأجر المضاعف ، وهو معرب من الحبشية كما قاله أبو موسى الأشعري ، أي يؤتكم أجرين عظيمين ، وكل أجر منهما هو ضِعف الآخر مماثل له فلذلك ثُني كفلين كما يقال : زوج ، لأحد المتقاربين ، وهذا مثل قوله تعالى : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } [ الأحزاب : 68 ] وقوله : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة يوتَوْن أجورهم مرتيْن : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وآمن بي ، واتبعني ، وصدقني فله أجران » الحديث .
ويتعلق { من رحمته } ب { يؤتكم } ، و ( من ) ابتدائية مجازياً ، أي ذلك من رحمة الله بكم ، وهذا في جانب النصارى معناه لإِيمانهم بمحمد وإيمانهم بعيسى ، أي من فضل الله وإكرامه وإلا فإن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجب عليهم كإيمانهم بعيسى وهو متمم للإِيمان بعيسى وإنما ضوعف أجرهم لما في النفوس من التعلق بما تدين به فيعسر عليها تركه ، وأما في جانب المسلمين فهو إكرام لهم لئلا يفوقهم بعض من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى .
ويجوز أن يكون { من رحمته } صفةً ل { كفلين } وتكون ( من ) بيانية ، والكلام على حذف مضاف ، تقديره : من أثر رحمته ، وهو ثواب الجنة ونعيمها .
وقوله : { ويجعل لكم نوراً تمشون به } تمثيل لحالة القوم الطالبين التحصيل على رضى الله تعالى والفوز بالنعيم الخائفين من الوقوع في ضد ذلك بحالة قوم يمشون في طريق بليل يخشون الخطأ فيه فيعطون نوراً يتبصرون بالثنايا فيأمنون الضلال فيه . والمعنى : ويجعل لكم حالة كحالة نور تمشون به ، والباء للاستعانة مثل : كتبت بالقلم .
والمعنى : ويُيسّر لكم دلالة تهتدون بها إلى الحق .
وجميع أجزاء هذا التمثيل صالحة لتكون استعارات مفردة ، وهذا أبلغ أحوال التمثيل ، وقد عرف في القرآن تشبيه الهدى بالنور ، والضلال بالظلمة ، والبرهان بالطريق ، وإعماللِ النظر بالمشي ، وشاع ذلك بعد القرآن في كلام أدباء العربية .
والمغفرة : جزاء على امتثالهم ما أمروا به ، أي يغفر لكم ما فرط منكم من الكفر والضلال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} يعني وحدوا الله {وآمنوا برسوله} يقول: صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي رسول {يؤتكم كفلين} يعني أجرين {من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به} يعني تمرون به على الصراط إلى الجنة نورا تهتدون به {ويغفر لكم} ذنوبكم {والله غفور} لذنوب المؤمنين {رحيم} بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، خافوا الله بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله:"يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ": يُعطكم ضعفين من الأجر لإيمانكم بعيسى صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعث نبيا، وأصل الكِفل: الحظّ، وأصله: ما يكتفل به الراكبُ، فيحبسه ويحفظه عن السقوط، يقول: يُحَصّنكم هذا الكِفْل من العذاب، كما يُحَصّن الكِفْل الراكب من السقوط.
وقوله: "ويَجْعَلْ لَكُم نُورا تَمْشُونَ بِهِ "اختلف أهل التأويل في الذي عنى به النور في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عنى به القرآن...
وقال آخرون: عُنِي بالنور في هذا الموضع: الهدى...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نورا يمشون به، والقرآن، مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لمن آمن بهما وصدّقهما وهدى، لأن من آمن بذلك، فقد اهتدى.
وقوله: "وَيَغْفِرْ لَكُمْ" يقول: ويصفح لكم عن ذنوبكم فيسترها عليكم. "وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: والله ذو مغفرة ورحمة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ويجعل لكم نورا تمشون به} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: النور كناية عما يبصر به، ويتضح، والمشي كناية عن الأمور؛ يقول، والله أعلم: يجعل ما تبصرون به السبيل، وتتضح لكم الأمور، وتزول عنكم الشبه، فيكون المشي كناية عن الأمور، والنور كناية عن البصر...
والثاني: على حقيقة إرادة المشي وحقيقة النور؛ وذلك يكون في الآخرة...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وفي قوله: {تمشون به} إعلام بأن تصرفهم، وتقلبهم الذي ينفعهم: إنما هو بالنور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم. ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر من نفعه.
وفيه: أن أهل النور هم أهل المشي في الناس، ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع. فلا مشي لقلوبهم، ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات. وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم.
وفي قوله: {تمشون به} نكتة بديعة، وهي: أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون بها بين الناس في الدنيا. ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{اتقوا الله} أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه -لأنه الملك الأعظم- وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره، فكونوا على حذر من أن يسلبكم ما وهبكم، فاتبعوا الرسول تسلموا، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا..
{وآمنوا برسوله} أي الذي لا رسول له الآن غيره، إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله فإنه لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله،..
ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن، قال: {ويغفر لكم} أي ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد. ولما قرر سبحانه وذلك، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن يريده فقال: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال والعظمة والكبرياء {غفور} أي بليغ المحو للذنب عيناً وأثراً {رحيم} أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذا العرض السريع يجيء الهتاف الأخير للذين آمنوا، وهم الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤمنين برسالة الله في تاريخها الطويل؛ وورثة هذه الرسالة الذين يقومون عليها إلى يوم الدين:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم)..
ونداؤهم على هذا النحو: يا أيها الذين آمنوا فيه لمسة خاصة لقلوبهم، واستحياء لمعنى الإيمان، وتذكير برعايته حق رعايته؛ واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب. وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله. فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص.. معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار.
اتقوا الله وآمنوا برسوله.. (يؤتكم كفلين من رحمته).. أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب. فرحمة الله لا تتجزأ، ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها. ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض..
(ويجعل لكم نورا تمشون به). وهي هبة لدنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله. هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر؛ فلا تتخبط، ولا تلتوي بها الطريق.. (نورا تمشون به)..
(ويغفر لكم. والله غفور رحيم)... فالإنسان إنسان مهما وهب من النور. إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق. إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله.. (والله غفور رحيم)..
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله). لتنالوا كفلين من رحمة الله. ويكون لكم ذلك النور تمشون به. وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب والتقصير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
احتمل قوله: {يا أيها الذين آمنوا} أن يكون مستعملاً استعماله اللَّقبي أعني: كونه كالعلَم بالغلبة على مؤمني ملّة الإسلام. واحتمل أن يكون قد استُعمل استعمالَه اللُّغوي الأعَمَّ، أعني: من حصل منه إيمان، وهو هنا من آمن بعيسى. والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودَان ليأخذ خُلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى، أي يا أيها الذين آمنوا إيماناً خالصاً بشريعة عيسى اتقوا الله واخشَوْا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإِطلاق اللقبي فيأخذَ منه المؤمنون من أهل الملة الإِسلامية بشارةً بأنهم لا يقلّ أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مِللهم..ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتمالِ قصداً لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يُردفَ عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن. ويتعلق {من رحمته} ب {يؤتكم}، و (من) ابتدائية مجازياً، أي ذلك من رحمة الله بكم..ويجوز أن يكون {من رحمته} صفةً ل {كفلين} وتكون (من) بيانية، والكلام على حذف مضاف، تقديره: من أثر رحمته، وهو ثواب الجنة ونعيمها.
وقوله: {ويجعل لكم نوراً تمشون به} تمثيل لحالة القوم الطالبين التحصيل على رضى الله تعالى والفوز بالنعيم الخائفين من الوقوع في ضد ذلك بحالة قوم يمشون في طريق بليل يخشون الخطأ فيه فيعطون نوراً يتبصرون بالثنايا فيأمنون الضلال فيه. والمعنى: ويجعل لكم حالة كحالة نور تمشون به...