148- ينهي الله عباده عن قول السوء . إلا من وقع عليه ظلم ، فيباح له أن يشكو ظالمه ، ويذكر ما فيه من سوء ، والله - سبحانه - سميع لكلام المظلوم ، عليم بظلم الظالم ، ويجازيه على عمله{[45]} .
قوله تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } يعني : لا يحب الله الجهر بالقبيح من القول إلا من ظلم ، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم ، وأن يدعو عليه ، قال الله تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } [ الشورى :41 ] قال الحسن : دعاؤه عليه أن يقول : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي منه ، وقيل : إن شتم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه . أخبرنا أبو عبد الله الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أنا علي بن حجر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( المستبان ما قالا ، فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم .
وقال مجاهد : هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ، ولم يحسنوا ضيافته ، فله أن يشكو ويذكر ما صنع به .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه قال : " قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى ؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " . وقرأ الضحاك بن مزاحم ، وزيد بن أسلم : { إلا من ظلم } بفتح الظاء واللام ، معناه : لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول ، وقيل معناه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، لكن يجهره من ظلم ، والقراءة الأولى هي المعروفة .
{ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه ، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن ، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين .
وقوله : { إِلَّا مَن ظُلِمَ } أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى{[250]} منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه ، ومع ذلك فعفوه وعدم مقابلته أولى ، كما قال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
{ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح ، أخبر تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن . { عَلِيمٌ } بنياتكم ومصدر أقوالكم .
قال [ علي ]{[8521]} بن أبي طلحة عن ابن عباس : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلا مَنْ ظُلِمَ } وإن صبر فهو خير له .
وقال{[8522]} أبو داود : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : سُرق لها شيء ، فجعلت تدعو عليه ، فقال النبي{[8523]} صلى الله عليه وسلم " لا تُسَبّخي عنه " {[8524]} .
وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه . وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه .
وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ؛ لقوله : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] .
وقال{[8525]} أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما ، ما لم يعتد المظلوم " {[8526]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : " ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي " . فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته .
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج فيقول : " أساء ضيافتي ، ولم يحسن " . وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .
وكذا روي عن غير واحد ، عن مجاهد ، نحو هذا . وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي ، من طريق الليث بن سعد - والترمذي من حديث ابن لَهِيعة - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا{[8527]} فننزل بقوم فلا يَقْرُونا ، فما ترى في ذلك ؟ قال : " إذا نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " {[8528]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا الجودي يحدث ، عن سعيد بن المهاجر ، عن المقدام أبي كريمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما مسلمٍ ضاف قومًا ، فأصبح الضيف محرومًا ، فإن حقًا على كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه{[8529]} وقال أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، حدثني منصور ، عن الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم ، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له عليه ، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه " .
ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة . وعن زياد{[8530]} بن عبد الله البكَّائي . عن وَكِيع ، وأبي نُعَيْم ، عن سفيان الثوري - ثلاثتهم عن منصور ، به . وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة ، عن منصور ، به{[8531]} .
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار .
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا محمد بن عَجْلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارا يؤذيني ، فقال له : " أخرج متاعك فضعه على الطريق " . فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فجعل كل من مر به قال : مالك ؟ قال : جاري يؤذيني . فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه ! قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك ، وقال{[8532]} لا أوذيك أبدًا " .
وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن محمد بن عجلان به{[8533]} .
ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ورواه أبو جُحَيفة وهب بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8534]} .
{ لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } .
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بضمّ الظاء .
وقرأه بعضهم : «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » بفتح الظاء . ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضمّ الظاء في تأويله فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحب الله تعالى ذكره أنيجهر أحدنا بالدعاء على أحد ، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِم يقول : إلا من ظُبم فيدعو على ظالمه ، فإن الله جلّ ثناؤه لا يكره له ذلك ، لأنه قد رخص له في ذلك . ذكر مَن قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لا يُحبّ الله الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ يقول : لا يحبّ الله أنيدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظَلَمَه ، وذلك قوله : إلاّ مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا يُحِبّ ا ، الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلَمَ فإنه يحبّ الجهر بالسوء من القول .
حدثنا بشر ين معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لايُحِبّ الله الجِهْرَ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ الله سَمِعَا عَليما عذر الله المظلوم كما تسمعون أن يدعو .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : ثناهشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : هو الرجل يظلم الرجل ، فلا يدْعُ عليه ، ولكن ليقل : اللهمّ أعنيعليه اللهمّ استخرج لي حقي اللهمّ حل بينه وبين ما يريد ونحوه من الدعاء .
ف «مَنْ » على قول ابن عباس هذا في موضع رفع ، لأنه وجه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء ، واستثنى المظلوم منه ، فكان معنى الكلام على قوله : لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء من القول ، إلا المظلوم فلا حرج عليهخ في الجهر به . وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية ، وذلك أن «مَنُ » لا يجوز أن يكون رفعا عندهم باجهر ، لأنها في صلة «أنْ » ، وأنْ لم ينله الجحد فال يجوز العطف عليه من الخطإ عندهم أن يقال : لا يعجبني أن يقوم إلا ريد . وقد يحتمل أن تكون «مَنْ » نصبا على تأويل قول ابن عباس ، ويكون قوله : لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ لاما تامّا ، ثم قيل : إلاّ مَنْ ظُلِمَ فلا حرد عليه ، فيكون «مَنْ » استثناء من الغعل ، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه ، كما قال جلّ ثناؤه : لَسْتُ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ .
إلاّ مَنْ تَوَلى وكَفَرَ وكقولهم : إني لأكره الخصومة والمراء ، اللهمّ إلا رجلاً يريد الله بذلك . ولم يذكر قبله شيء من الأسماء . و«مَنْ » على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام ، لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل الله خيرا فعل كذا وكذا .
وقال آخرون : بل معنىذلك : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظُلم فيُخبر بما نيل منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيع ، عن مجاهد ، قال : هو الرجل ينزل بالرجل ، فلا يحسن ضيافته ، فيخرج من عنده ، فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : إلا من أثَر ما قيل له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيع ، عن مجاهد : لايُحِبّ الله الجِهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : هو الضيف المحوّل رحله ، فإنه يجهر لصاحيه بالسوء من القول .
وقال آخرون : عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يَقرِيه ، فينال من الذب لم يَقْرِه . ذكر من قال لك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيع ، عن مجاهد في قوله : إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : من ظُلم فانتصر يجهر بالسوء .
حدثني المثنى ، قال : ثن أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيع ، مثله .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيع ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد . وعن حميد الأعرج ، عن مجاهد : لا يُهِبّ الله الجَهْرَ بالسّوء مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ . قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه ، فقد رخص الله له أنَ يقول فيه .
حدثنيأحمد بن حماد الدّولابيّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيع ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد : لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال : هو في الضيافة يأتي الرجل القوم فينزل عليهم فلا يضيفونه ، رخص الله له أن يقول فيهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ . . . الاَية ، قال : ضاف رجل رجلاً ، فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : ضفت فلانا فلم يودّ حقّ ضيافتي ، فذلك جهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِمَ حين لم يودّ إليه ضيافته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : إلا من ظلم فانتصر يجهر بسوء . قال مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلم يضفه ، فنزلت إلاّ مَنْ ظُلِمَ ذكر أنه لم يضفه ، لا يزيد على ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من ظُلم فانتصر من ظالمه ، فإن الله قد أذن له في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ يقول : إن الله لا يحبّ الجهر بالسوء من أحدٍ من الخلق ، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم ، فليس عليه جناح .
ف «مَنْ » على هذه الأقوال التي ذكرناها سوى قول ابن عباس في موضع نصب على انقطاعه من الأول ، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا في الاستثناء المنقطع فكان معنى الكلام على هذه الأقوال سوى قول ابن عباس : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول ، ولكن من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه أو ينتصر ممن ظلمه .
وقرأ ذلك آخرون بفتح الظاء : «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » وتأوّلوه : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظَلم ، فلا بأس أن يُجهر له بالسوء من القول . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان أبي يقرأ : «لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَمَ » قال ابن زيد : يقول : إلا من أقام على ذلك النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع . قال : وهذه مثل : وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ أن تسميه بالفسق بَعْدَ الإيمانِ بعد إذ كان مؤمنا ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من ذلك العمل الذي قيل له ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قال : هو أشرّ ممن قال ذلك له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : «لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَمَ » فقرأ : إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ حتى بلغ : وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الُمؤْمِنِينَ أجْرا عَظِيما ثم قال بعد ما قال : هم في الدرك الأسفل من النار . ما يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ وكانَ اللّهُ شاكِرا عَليما «لا يُحِبّ اللّهُ الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَمَ » قال : لا يحبّ الله أن يقول لهذا : ألست نافقت ؟ ألست المنافق الذي ظلمت وفعلت وفعلت ؟ من بعد ما تاب ، «إلاّ مَنْ ظَلَم » ، إلا من أقام على النفاق . قال : وكأن أبي يقول ذلك له ويقرؤها : «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » .
«مَنْ » على هذا التأويل نصب لتعلقه بالجهر . وتأويل الكلام على قول قائل هذا القول . لا يحبّ الله أن يجهر أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول «إلاّ مَنْ ظَلَمَ » منهم ، فأقام على نفاقه فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : إلاّ مَنْ ظُلِمَ بضمّ الظاء ، لإجماع الحجة من القرّاء وأهل التأويل على صحتها ، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح . فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فالصواب في تأويل ذلك : لا يحبّ الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِمَ بمعنى : إلا من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه . وإذا كان ذلك معناه ، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه ، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس ، وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه ، لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له . وإذ كان ذلك كذلك ، ف «مَنْ » في موضع نصب ، لأنه منقطع عما قبله ، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها ، فهو نظير قول : لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إلاّ مَنْ تَوَلىّ وكَفَرَ .
وأما قوله : وكانَ اللّهُ سَمِيعا عَلِيما فإنه يعني : وكان الله سميعا لمِا يجهرون به من سوء القول لمن يجهرون له به ، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم ، عليما بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به ، فلا تجهرون له به ، محصٍ كلّ ذلك عليكم حتى يجازيَكم على ذلك كله جزاءكم المسيء باساءته والمحسن بإحسانه .
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } إلا جهر من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه . وروي أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه . فنزلت وقرئ من ظلم على البناء للفاعل فيكون الاستثناء منقطعا أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله . { وكان الله سميعا } لكلام المظلوم . { عليما } بالظالم .
موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً ، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله ، وبغضاً للملموزين به ، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن ، ونَهى المسلمين عن القعود معهم ، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق ، فيجاهِروهم بقول السوء ، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء ، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه .
روى البخاري : أنّ رجالاً اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل : أين مالك بن الدّخْشُم ، فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله ، فقال رسول الله : " لا تقل ذلك ألا تراه قد قال : لا إله إلاّ الله ، يريد بذلك وجهَ الله ، فقال : فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين " . الحديثَ . فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق ، لملازمته للمنافقين ، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله . فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقاً . وأيضاً لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين .
وجملة { لا يحبّ } مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه : الجهر بالسوء من القول ، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى ، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن ، واستنكار القبيح ، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية ، وهما الرضا والغضب .
وصيغة { لا يحبّ } ، بحسب قواعد الأصول ، صيغة نفي الإذن . والأصل فيه التحريم . وهذا المراد هنا ؛ لأنّ { لا يحبّ } يفيد معنى يكره ، وهو يرجع إلى معنى النهي . وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " . فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه .
والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ . وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريماً .
واستثنى { مَن ظُلم } فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول . والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي ، المفيد للعموم ، إذ التقدير : لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء ، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً ، أي : إلاّ جَهْرَ من ظلم ، والمقصود ظاهر ، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز .
ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّىء ليشفي غضبه ، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد ، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به ، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول } . وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول ، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه ، أو شكاية ظلمه : أن يقول له : ظلمتني ، أو أنت ظالم ؛ وأن يقول للناس : إنَّه ظالم . ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهراً لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن ، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف ، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة ، قائمة في الشريعة . فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه ؛ ومنه ما في الحديث " مَطْلُ الغنيّ ظلم " أي فللممطول أن يقول : فلان مماطل وظالم . وفي الحديث " لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته " . وجملة { وكان الله سميعاً عليماً } عطف على { لا يحبّ } ، والمقصود أنَّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها ، عليم بالمقاصد والأمور كلّها ، فذِكْرُ « عليماً » بعد « سميعاً » لقصد التعميم في العلم ، تحذيراً من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} لأحد من الناس، {إلا من ظلم}، يعني اعتدي عليه، فينتصر من القول مثل ما ظلم، ولا حرج عليه أن ينتصر بمثل مقالته، نزلت في أبي بكر، رضي الله عنه، شتمه رجل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فسكت عنه مرارا، ثم رد عليه أبو بكر، رضي الله عنه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: يا رسول الله، شتمني وأنا ساكت، فلم تقل له شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت، قال:"إن ملكا كان يجيب عنك، فلما أن رددت عليه، ذهب الملك وجاء الشيطان، فلم أكن لأجلس عند مجيء الشيطان"، {وكان الله سميعا} بجهر السوء. {عليما} به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بضمّ الظاء.
وقرأه بعضهم: «إلاّ مَنْ ظَلَمَ» بفتح الظاء. ثم اختلف الذين قرأوا ذلك بضمّ الظاء في تأويله؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أن يجهر أحدنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء "إلاّ مَنْ ظُلِم "يقول: إلا من ظُلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جلّ ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك. عن ابن عباس، قوله: لا يُحبّ الله الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ يقول: لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظَلَمَه، وذلك قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ، وإن صبر فهو خير له...
ف «مَنْ» على قول ابن عباس هذا في موضع رفع، لأنه وجه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه، فكان معنى الكلام على قوله: لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء من القول، إلا المظلوم فلا حرج عليه في الجهر به. وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية، وذلك أن «مَنُ» لا يجوز أن يكون رفعا عندهم بالجهر، لأنها في صلة «أنْ»، وأنْ لم ينله الجحد فلا يجوز العطف عليه من الخطأ عندهم أن يقال: لا يعجبني أن يقوم إلا زيد. وقد يحتمل أن تكون «مَنْ» نصبا على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله: لا يُحِبّ الله الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ لاما تامّا، ثم قيل: إلاّ مَنْ ظُلِمَ فلا حرج عليه، فيكون «مَنْ» استثناء من الفعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال جلّ ثناؤه: "لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ
إلاّ مَنْ تَوَلى وكَفَرَ" وكقولهم: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهمّ إلا رجلاً يريد الله بذلك. ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. و«مَنْ» على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام، لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل الله خيرا فعل كذا وكذا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول، إلا من ظُلم فيُخبر بما نيل منه.
وقال آخرون: عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يَقرِيه، فينال من الذي لم يَقْرِه. وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظُلم فانتصر من ظالمه، فإن الله قد أذن له في ذلك... ف «مَنْ» على هذه الأقوال التي ذكرناها سوى قول ابن عباس في موضع نصب على انقطاعه من الأول، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا في الاستثناء المنقطع، فكان معنى الكلام على هذه الأقوال سوى قول ابن عباس: لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه أو ينتصر ممن ظلمه.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: إلاّ مَنْ ظُلِمَ بضمّ الظاء، لإجماع الحجة من القرّاء وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح. فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فالصواب في تأويل ذلك: لا يحبّ الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِمَ بمعنى: إلا من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه. وإذا كان ذلك معناه، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس، وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه، لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له.
"وكانَ اللّهُ سَمِيعا عَلِيما": وكان الله سميعا لمِا يجهرون به من سوء القول لمن يجهرون له به، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم، عليما بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به، فلا تجهرون له به، محصٍ كلّ ذلك عليكم حتى يجازيَكم على ذلك كله جزاءكم المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... الجهر بالسوء من القول، هو الشتم. أخبر أنه لا يحب ذلك لأحد من الناس... وقيل: إن الآية نزلت في الضيف، ينزل بالرجل فلا يضيفه، ولا يحسن إليه، فجعل له أن يأخذه بلسانه. وإلى هذا يذهب أكثر المتأولين، لكنه بعيد. وفي قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} دليل على أن ليس في إباحة الشيء في حال يوجب حظره في حال أخرى لأنه نهى عن الجهر {بالسوء من القول}. ثم لم يذكر ذلك على أنه لا ينهى عن ذلك في غير حال الجهر به.
وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك، وما لا يحبه فهو الذي لا يريده، فعلينا أن نكرهه وننكره؛ وقال: {إلاَّ مَنْ ظلمَ} فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الجهر}: كشف الشيء، ومنه الجهرة في قول الله تعالى {أرنا الله جهرة} ومنه قولهم: جهرت البئر، إذا حفرت حتى أخرجت ماءها،... وقال ابن المستنير: {إلا من ظلم} معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفراً أو نحوه، فذلك مباح، والآية في الإكراه،...
وقال قوم معنى الكلام: «ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول» ثم استثنى استثناء منقطعاً، تقديره: لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِمَا ظَلَمَهُ فِيهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَآخَرُونَ: إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الضِّيَافَةِ؛ إذَا نَزَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ ضَيْفًا فَلَمْ يَقُمْ بِهِ جَازَ لَهُ إذَا خَرَجَ عَنْهُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِطَاوُسٍ: «إنِّي رَأَيْت مِنْ قَوْمٍ شَيْئًا فِي سَفَرٍ، أَفَأَذْكُرُهُ؟ قَالَ: لَا.
[و] قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. وَقَالَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ». وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ بِحَضْرَةِ أَهْلِ الشُّورَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حُكُومَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى أَنْفَذَ فِيهَا عَلَيْهِمْ عُمَرُ لِلْوَاجِبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَوَتِ الْمَنَازِلُ أَوْ تَقَارَبَتْ؛ فَأَمَّا إذَا تَفَاوَتَتْ فَلَا تُمَكَّنُ الْغَوْغَاءُ مِنْ أَنْ تَسْتَطِيلَ عَلَى الْفُضَلَاءِ، وَإِنَّمَا تَطْلُبُ حَقَّهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَضَبٍ؛ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ.
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ»، بِأَنْ يَقُولَ مَطَلَنِي، وَعُقُوبَتُهُ بِأَنْ يُحْبَسَ لَهُ حَتَّى يُنْصِفَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ صَبَرَ وَغَفَرَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ؛ وَصِفَةُ دُعَائِهِ عَلَى الظَّالِمِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعني عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ مَنْ يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ سَرَقَهُ، فَقَالَتْ: «لَا تَسْتَحْيِي عَنْهُ، أَيْ لَا تُخَفِّفْ عَنْهُ بِدُعَائِك، وَهَذَا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَأرْسلْ لِسَانَك وَادْعُ بِالْهَلَكَةِ، وَبِكُلِّ دُعَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّصْرِيحِ عَلَى الْكُفَّارِ بِالدُّعَاءِ وَتَعْيِينِهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ جَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ، وَلَا بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ، وَلَا مَالٌ مُحْتَرَمٌ. وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَادِ.
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر غير لائق بالرحيم الكريم ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده، فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه... وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم، فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم.
الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا وأخلصوا صاروا من المؤمنين، فيحتمل أنه كان يتوب بعضهم ويخلص في توبته ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق، فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة، ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك.
المسألة الثالثة: قال أهل العلم: إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولا غير الجهر أيضا، ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله {إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} والتبين واجب في الطعن والإقامة، فكذا هاهنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم -إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين، وحث على التوبة بما ختمه بصفتي الشكر والعلم؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناه، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية: {لا يحب الله} أي المختص بصفات الكمال {الجهر} أي ما يظهر فيصير في عداد الجهر {بالسوء} أي الذي يسوء ويؤذي {من القول} أي لأحد كائناً من كان، فإن ذلك ليس من شكر الله تعالى في الإحسان إلى عباده وعياله، ولا من شكر الناس في شيء ولا يشكر الله من لا يشكر الناس {إلا من} أي جهر من {ظلم} أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي.
ولما كان القول مما يسمع، وكان من الظلم ما قد يخفي، قال مرغباً مرهباً: {وكان الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {سمعياً} أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره {عليماً} أي بكل ما يمكن أن يعلم فاحذروه لئلا يفعل بكم فعل الساخط، وجهر ومن ظلم- وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً -لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء- على أي وجه كان إطلاقه -كف عنه إن كان موفقاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بينا في تفسير الآيات من أواخر الجزء الماضي موقع هذه الآيات إلى آخر السورة مما قبلها بالإجمال، ولهاتين الآيتين مناسبة مع ما قبلهما وما بعدمها وإن كانتا كالغريبتين في السياق الشارح لأحوال المنافقين والكافرين ومحاجة أهل الكتاب منهم، فإن الله تعالى بين فيه كثيرا من عيوبهم ومفاسدهم، لإقامة الحجة عليهم، وتحذير المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم، فإن الله تعالى يكره لهم ذلك كما قال: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقسمت قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد:16] ثم بين في أثناء ذلك حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه لئلا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك فيهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية -سبا وقذفا- وينتهى انحلالا اجتماعيا؛ وفوضى أخلاقية؛ تضل فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفرادا وجماعات؛ وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض؛ وقد شاعت الاتهامات؛ ولاكتها الألسنة بلا تحرج. لذلك كله كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء. وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم؛ يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم؛ في حدود ما وقع عليه منه من الظلم!...
إن الإسلام يحمي سمعة الناس -ما لم يظلموا- فإذا ظلموا لم يستحقوا هذه الحماية؛ وأذن للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه؛ وكان هذا هو الاستثناء الوحيد من كف الألسنة عن كلمة السوء. وهكذا يوفق الإسلام بين حرصه على العدل الذي لا يطيق معه الظلم، وحرصه على الأخلاق الذي لا يطيق معه خدشا للحياء النفسي والاجتماعي..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله، وبغضاً للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن، ونَهى المسلمين عن القعود معهم، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق، فيجاهِروهم بقول السوء، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه.
روى البخاري: أنّ رجالاً اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: أين مالك بن الدّخْشُم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله، فقال رسول الله:"لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلاّ الله، يريد بذلك وجهَ الله، فقال: فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين". الحديثَ. فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله. فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقاً. وأيضاً لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين.
وجملة {لا يحبّ} مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه: الجهر بالسوء من القول، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن، واستنكار القبيح، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية، وهما الرضا والغضب.
وصيغة {لا يحبّ}، بحسب قواعد الأصول، صيغة نفي الإذن. والأصل فيه التحريم. وهذا المراد هنا؛ لأنّ {لا يحبّ} يفيد معنى يكره، وهو يرجع إلى معنى النهي. وفي « صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه.
والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ. وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريماً.
واستثنى {مَن ظُلم} فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول. والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، إذ التقدير: لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً، أي: إلاّ جَهْرَ من ظلم، والمقصود ظاهر، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز.
ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيئ ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم {لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول}. وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للناس: إنَّه ظالم. ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهراً لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة. فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه؛ ومنه ما في الحديث "مَطْلُ الغنيّ ظلم "أي فللممطول أن يقول: فلان مماطل وظالم. وفي الحديث "لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته". وجملة {وكان الله سميعاً عليماً} عطف على {لا يحبّ}، والمقصود أنَّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها، عليم بالمقاصد والأمور كلّها، فذِكْرُ « عليماً» بعد « سميعاً» لقصد التعميم في العلم، تحذيراً من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والمعنى الإجمالي للنص السامي أن الله تعالى يبغض الجهر بالأمر السيئ أو الأفعال السيئة وكل إعلان للمنافق والفاجر من الجهر بالأمر المسيء هو من قبيل الجهر بالسوء من القول ف "من "هنا بيانية وهي بيان لنوع السوء بأنه من القول، وذلك يشمل كل إعلان للأعمال القبيحة، والترامي بها فيشمل القذف والسباب وإعلان المعاصي والجرائم وتفصيل القول فيها من غير حاجة إلى بيانها، ولا إقامة حق في إعلانها، فإن ذلك كله من سوء القول وفاحشه.
وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم، لكن إن امتلك الإنسان الطموح الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو، إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان وأمر يلزمه به قسرا وإكراها عليه، فمن ناحية الجهر جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان لأن المبادئ القرآنية يتساند بعضها مع بعض وسبحانه يقول: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (من الآية34سورة فصلت). فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحد فقد جعل لك ألا تجهر بل تعفو عنه، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزي ويعرف أن هناك أناسا أكرم منه في الخلق، ولا يتعب إنسان إلا أن يرى إنسانا خيرا منه في شيء، وعندما يرى الظالم أن المظلوم قد عفا فقد تنفجر في نفسه الرغبة أن يكون أفضل منه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية إشارتان إِلى التكاليف الأخلاقية الإِسلامية:
الأُولى: تبيّن أنّ الله لا يحبّ التجاهر بالكلام البذيء، ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم، فتقول الآية: (لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول...).
إِن عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أنّ الله هو ستار العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإِساءة إِلى سمعتهم، وممّا لا يخفى على أحد هو أنّ لكل إِنسان نقاط ضعف خفية، ولو انكشفت هذه العيوب لساد المجتمع جو من سوء الظن بين أفراده، فيصعب عندئذ قيام التعاون بين هؤلاء الأفراد، لذلك منع الإِسلام وحرّم التحدث عن نقائص أو فضائح أعمال الآخرين دون وجود هدف سليم، لتبقى الأواصر الاجتماعية قوية مستحكمة، ورعاية للجوانب الإِنسانية الأخرى في هذا المجال.
وتجدر الإِشارة إِلى أنّ كلمة «سوء» تشمل كل أنواع القبح والفضيحة، والمقصود من عبارة «الجهر... من القول» هو كل حالة من الكشف والفضح اللفظي، سواء كان بصورة شكوى، أو على شكل حكاية أو لعن أو ذم أو غيبة.
وقد اُستدل بهذه الآية أيضاً على تحريم الغيبة، إِلاّ أن مفهومها لا ينحصر بهذه الصفة الأخيرة، بل يشمل كل أنواع الكلام البذيء والمذموم.
إِلاّ أنّ الآية الكريمة لم تحرم (القول بالسوء) تحريماً مطلقاً، فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إِلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إِذا وقع الإِنسان مظلوماً حين قالت الآية: (إِلاّ من ظلم) وبهذا الدليل يستطيع المظلوم في مقام الدفاع عن نفسه أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوئ الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.
وحقيقة هذا الاستثناء هي أنّ الله أراد به أن يسلب من الظالمين فرصة إِساءة استغلال حكم المنع والتحريم، ولكي لا يكون هذا الحكم سبباً في سكوت المظلوم عن المطالبة بحقه من الظالم.
واضح من الآية بأنّ عملية الكشف والفضح يجب أن تنحصر في إِطار بيان مساوئ الظالم لدى الدفاع عن المظلومين أو لدى دفاع المظلوم عن نفسه.
ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إِساءة استغلال هذا الحكم بدعوى وقوع الظلم عليه أكدّت على أنّ الله يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكل ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: (وكان الله سميعاً عليماً).
وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إِلى النقطة المواجهة لهذا الحكم، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوئ التي يجب أن تكتم إِلاّ في حالة استثنائية) كما تبيح أو بالأحرى تحثّ الفرد على إِصدار العفو على من ارتكب السوء بحقّه، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات الله العزيز القدير الذي يعفو عن عباده مع امتلاكه القدرة على الانتقام بأي صورة شاء، فتقول الآية في هذا المجال: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإِنّ الله كان عفواً قديراً).
العفو عن المعتدي وأثره على نزعة العدوان:
سؤال يطرأ هنا على الذهن وهو: ألا يعتبر العفو عن الظالم المعتدي تأييداً لظلمه وتشجيعاً لنزعة العدوان لديه؟ ألا يؤدي العفو إِلى ظهور حالة سلبية من اللامبالاة لدى المظلومين.
والجواب هو: أنّ العفو لا صلة له بمسألة تحقيق العدل ومكافحة الظالم، والدليل على ذلك ما نقرأه في الأحكام الإِسلامية من نهي عن ارتكاب الظلم وأمر بعدم الخضوع له، كما في الآية (لا تظلمون ولا تظلمون) وقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» وقوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إِلى أمر الله).
كما نقرأ من جانب آخر الأمر بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: (وإِن تعفوا أقرب للتقوى) وقوله: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).
من الممكن أن يتبادر إِلى ذهن بعض البسطاء أن هناك تناقضاً بين هذين الحكمين، ولدى الإِمعان فيما ورد في المصادر الإِسلامية في هذا المجال، يتّضح أنّ العفو والصفح يجب أن يكون في موضع بحيث لا يساء استغلاله، وإِنّ الدعوة إِلى مكافحة الظلم وقمع الظالم يكون له مجال آخر.
ويجدر توضيح أنّ العفو والصفح يكونان لدى تملك القدرة وعند الانتصار على العدو وهزيمته النهائية، أي في حال لا يحتمل فيها حصول أي خطر جديد من جانب العدو، ويكون العفو والصفح عنه سبباً لإِصلاحه واستقامته ودفعه إِلى إعادة النظر في سلوكه، والتاريخ الإِسلامي فيه أمثلة كثيرة في هذا المجال...
أمّا في حالة وجود خطر من جانب العدو، واحتمال أن يؤدي العفو عنه إِلى تجريه وتماديه أكثر في عدوانه، أو إِذا اعتبر العفو استسلاماً للظلم وخضوعاً أمامه ورضى به، فإِنّ الإِسلام لا يجيز مطلقاً مثل هذا العفو، وكما أنّ أئمّة الإِسلام لم ينتخبوا طريق العفو في مثل هذه المجالات.