قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً } ، ليلا ، { أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون } ، أي : ماذا يستعجل من الله المشركون . وقيل : ماذا يستعجل من العذاب المجرمون ، وقد وقعوا فيه . وحقيقة المعنى : أنهم كانوا يستعجلون العذاب ، فيقولون : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال-32 ] . فيقول الله تعالى : { ماذا يستعجل } يعني : إيش يعلم المجرمون ماذا يستعجلون ويطلبون ، كالرجل يقول لغيره وقد فعل قبيحا ماذا جنيت على نفسك .
{ 50 - 52 ْ } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ }
يقول تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ْ } وقت نومكم بالليل { أَوْ نَهَارًا ْ } في وقت غفلتكم { مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ْ } أي : أي بشارة استعجلوا بها ؟ وأي عقاب ابتدروه ؟ .
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي ، إلى موقف المهدد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار :
( قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ، ماذا يستعجل منه المجرمون ? ) . .
فهذا العذاب المغيب الذي لا يُعلم موقعه وموعده ؛ والذي قد يحل بياتاً وأنتم نيام ، أو نهاراً وأنتم أيقاظ ، لا يجديكم في رده الصحو . . ما الذي يستعجل منه المجرمون ? وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال .
المعنى : قال يا أيها الكفرة المستعجلون عذاب الله عز وجل { أرأيتم إن أتاكم عذابه } ليلاً وقت المبيت ، يقال : بيت القوم القوم إذا طرقوهم ليلاً بحرب أو نحوها { أو نهاراً } لكم منه منعة أو به طاقة ؟ فماذا تستعجلون منه ، وأنتم لا قبل لكم به ؟ و «ما » ابتداء و «ذا » خبره ، ويصح أن تكون { ماذا } بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء وخبره الجملة التي بعده ، وضعف هذا أبو علي وقال : إنما يجوز ذلك على تقدير إضمار في { يستعجل } وحذفه كما قال [ أبو النجم ] : [ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كله لم أصنع{[6133]}
وزيدت ضربت قال : ويصح أن تكون { ماذا } في حال نصب ل { يستعجل } ، والضمير في { منه } يحتمل أن يعود على الله عز وجل ، ويحتمل أن يعود على «العذاب » .
هذا جواب ثان عن قولهم : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به ، كما حكي عنهم في الآية الأخرى { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى قوله : { أو تسقط السماء كما زعمتَ علينا كِسفاً } [ الإسراء : 90 92 ] ، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم ، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله : { قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله } [ يونس : 49 ] ، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطىء بالإبطال . وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ماذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذٍ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم . وهذا كما قال بعض الواعظين : نحن نريد أن لا نموت ؛ حتى نتوب ؛ ونحن لا نتوب حتى نموت .
ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذا العذاب الموعود بقوله : { إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً } تخييلاً يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما ، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلاً قريباً أو أقلَّ قرباً ، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته ، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلاً مَا لصورة وقوع العذاب استحضاراً له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازاً لِفرصة الموعظة ، كالتذكير به في قوله : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون } [ الأنعام : 47 ] .
والبيات : اسم مصدر التبييت ، ليلاً كالسلام للتَّسليم ، وذلك مباغتة . وانتصب { بياتاً } على الظرفية بتقدير مضاف ، أي وقت بيات .
وجواب شرط { إن أتاكم عذابه } محذوف دل عليه قوله : { ماذا يستعجل منه المجرمون } الذي هو ساد مسد مفعولي ( أرأيتم ) إذ علقه عن العمل الاستفهام ب ( ماذا ) .
و { ماذا } كلمتان هما ( ما ) الاستفهامية و ( ذا ) . أصله إشارة مشار به إلى مأخوذ من الكلام الواقع بعده . واستعمل ( ذا ) مع ( ما ) الاستفهامية في معنى الذي لأنهم يراعون لفظ الذي محذوفاً . وقد يظهر كقوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] . وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار عليهم ، وفي التعجيب من تعجلهم العذاب بنية أنهم يؤمنون به عند نزوله .
و ( مِن ) للتبعيض . والمعنى ما الذي يستعجله المجرمون من العذاب ، أي لا شيء من العذاب بصالحٍ لاستعجالهم إياه لأن كل شيء منه مهلك حائل بينهم وبين التمكن من الإيمان وقت حلوله .
وفائدة الإشارة إليه ، تهويله أو تعظيمه أو التعجيب منه كقوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] ، فالمعنى ما هذا العذاب العظيم في حال كونه يستعجله المجرمون ، فجملة { يستعجل منه } في موضع الحال من اسم الإشارة ، أي أن مثله لا يُستعجل بل شأنه أن يُستأخَر .
و ( من ) بيانية ، والمعنى معها على معنى ما يسمى في فن البديع بالتجرد .
واعلم أن النحاة يذكرون استعمال ( ماذا ) بمعنى ( ما الذي ) وإنما يعنون بذلك بعض مواضع استعماله وليس استعمالاً مطرداً . وقد حقق ابن مالك في « الخلاصة » إذ زاد قيداً في هذا الاستعمال فقال :
ومثل ما ، ذا بعد ما استفهام *** أو مَن إذا لم تلغ في الكلام
يريد إذا لم يكن مزيداً . وإنما عبر بالإلغاء فراراً من إيراد أن الأسماء لا تزاد . والحق أن المراد بالزيادة أن اسم الإشارة غير مفيد معناه الموضوع له ولا هو بمفيد تأسيس معنى في الكلام ولكنه للتقوية والتأكيد الحاصل من الإشارة إلى ما يتضمنه الكلام ، وقد أشار إلى استعمالاته صاحب « مغنى اللبيب » في فصل عقده ل ( ماذ ) وأكثر من المعاني ولم يحرر انتساب بعضها من بعض . وانظر ما تقدم عند قوله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] المتقدم آنفاً ، وقوله تعالى : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } في سورة [ البقرة : 26 ] .
والمجرمون : أصحاب الجرم وهو جرم الشرك . والمراد بهم الذين يقولون { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ، وهم مشركو مكة فوقع الإظهار في مقام الإضمار عوض أن يقال ماذا يستعجلون منه لقصد التسجيل عليهم بالإجرام ، وللتنبيه على خَطَئِهم في استعجال الوعيد لأنه يأتي عليهم بالإهلاك فيصيرون إلى الآخرة حيث يُفضون إلى العذاب الخالد فشأنهم أن يستأخروا الوعد لا أن يستعجلوه ، فدل ذلك على أن المعنى لا يستعجلون منه إلاّ شراً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتا، يقول: ليلاً أو نهارا، وجاءت الساعة، وقامت القيامة أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره:"ماذا يَسْتعَجل" من نزول العذاب المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصّالون بحرّه دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول، والله أعلم: أية منفعة لكم إن أتاكم عذابه؟ لا منفعة لكم في ذلك، بل فيه ضرر لكم. فاستعجال ما لا منفعة فيه سفه وجهل، يسفههم في سؤالهم العذاب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه بهذه الآية أن يقول لهؤلاء الكفار الذين استبطأوا وعد الله "أرأيتم "أي أعلمتم؟... "إن أتاكم عذابه" يعني عذاب الله.
والعذاب: الألم المستمر، وأصله الاستمرار. ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق، "بياتا" وهو إتيان الشيء ليلا... وتقدير الكلام: أرأيتم ماذا يستعجل المجرمون من العذاب إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا... ومعنى (ما) في قوله "ماذا" للإنكار لأن يكون في العذاب شيء يستعجل به، وجاء على صيغة الاستفهام، لأنه لا جواب لصاحبه يصح له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ عَرَفَ كمالَ القدرة لم يأمَنْ فجأةَ الأخذِ بالشدة، ومن خاف البيات لم يستلذ السُّبات. ويقال مَنْ توسَّدَ الغفلة أيقظْته فجاءةُ العقوبة، ومَنْ استوطن مركب الزَّلَّة عَثَرَ في وَهْدَةِ المحنة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا قيل ليلاً أو نهاراً؟ قلت: لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت. والبيات بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله: {نَهَارًا} معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب المعاش والكسب. ونحوه {بياتا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 98]، {ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98] الضمير في {مِنْهُ} للعذاب. والمعنى: أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار، فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال. ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل أي شيء هول شديد يستعجلون منه، ويجب أن تكون «من» للبيان في هذا الوجه. وقيل: الضمير في {مِنْهُ} لله تعالى.
فإن قلت: بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط قلت تعلق بأرأيتم لأنَّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون وجواب الشرط محذوف وهو: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه.
فإن قلت: فهلا قيل: ماذا تستعجلون منه. قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ، فضلاً أن يستعجله...
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل، لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر، وذلك لا يفيد نفعا البتة، فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه، وهو أنه يقال: للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد، ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على الإهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول: {هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون} فحاصل هذا الجواب: أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الأخرى، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل... ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع، قدمه فقال: {بياتاً} أي في الليل بغتة وأنتم نائمون كما يفعل العدو؛ ولما كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفر نهاراً مجاهرة قال: {أو نهاراً} أي مكاشفة وأنتم مستيقظون، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا؟ فكأنهم قالوا: لا، فليجعل به ليرى، فقيل: إنكم لا تدرون ما تطلبون! إنه لا طاقة لمخلوق بنوع منه، ولا يجترئ على مثل هذا الكلام إلا مجرم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا جواب ثان عن قولهم: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يونس: 48] باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به، كما حكي عنهم في الآية الأخرى {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} إلى قوله: {أو تسقط السماء كما زعمتَ علينا كِسفاً} [الإسراء: 90 92]، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله: {قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله} [يونس: 49]، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطئ بالإبطال. وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ماذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذٍ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم. وهذا كما قال بعض الواعظين: نحن نريد أن لا نموت؛ حتى نتوب؛ ونحن لا نتوب حتى نموت.
ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذا العذاب الموعود بقوله: {إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً} تخييلاً يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلاً قريباً أو أقلَّ قرباً، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلاً مَا لصورة وقوع العذاب استحضاراً له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازاً لِفرصة الموعظة، كالتذكير به في قوله: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأنعام: 47].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد أشار سبحانه من بعد ذلك إلى أن عذابهم قد يقع في الدنيا كما وقع لغيرهم، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ليقول لهم: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون}.
{أرأيتم} استفهام داخل على رأيتم وهو لتصوير حالهم، والمعنى أرأيتم وتصورتم حالكم إذا أتاكم عذابه بياتا وأنتم نائمون بريح عاصف أو هدمت عليكم دياركم وجعل الله عليها سافلها وأنتم نائمون، أو جاءكم نهارا ورأيتم الهول الكاسح، كقوله تعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون 97 أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون 98 أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون 99} (الأعراف).
هذا تصوير العذاب الذي يطلبونه فيقول سبحانه: {ماذا يستعجل منه المجرمون} هنا إضراب انتقالي في القول، والمعنى أرأيتم إن ينزل بكم العذاب بياتا أو نهارا، وتصوروه واقعا بكم، أم ماذا تريدون، أو ما الجزء الذي تريدونه، وهو لا يتجزأ أو يتجزأ وجزؤه ككله، وفي النص القرآني بعض الألفاظ:
أولا – قوله {أرأيتم} هو استفهام عن الرؤية البصرية أو القلبية، وقد قلنا: إن الكلام يتضمن تصوير العذاب الذي يستهزؤون به أنه لم يقع، والزمخشري يقول: {أرأيتم} تدل على طلب الإخبار، أي أخبروني ما هي حالكم إذا نزل بكم العذاب بياتا أو نهارا.
ثانيا- عبر سبحانه عن نزوله ليلا بقوله: {بياتا} للدلالة على السكون والاطمئنان وأنه يجيئهم وقت اطمئنانهم وسكونهم فيكون أشد وقعا.
ثالثا- إن جواب الشرط في قوله تعالى: {إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا} محذوف وهو الندم على الاستعجال والإحساس بالهول الشديد.
رابعا- قوله تعالى: {ماذا يستعجل منه المجرمون} وصفهم بالإجرام، أولا والإشارة إلى سبب إنكار البعث وعذاب الله الذي يستحقونه وهو إيغالهم في الجريمة للتوبيخ على فعلتهم، وقد قال في ذلك الزمخشري:" إن في حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ فضلا عن أن يستعجله". فيشير بهذا إلى أنهم كان يجب عليهم أن يشعروا بالجريمة وأنها تستدعي عقابا لا محالة؛ وذلك يوجب عليهم أن يتوقعوه لا أن يستعجلوه.
وهذا رد شاف على استعجالهم للعذاب، فإن جاءكم العذاب فلنر ماذا سيكون موقفهم؟
وهم باستعجالهم العذاب يبرهنون على غبائهم في السؤال عن وقوع العذاب.
وقول الحق سبحانه: {أرأيتم}. أي: اخبروني عما سوف يحدث لكم.
وشاء الحق سبحانه أن يأتي أمر العذاب هنا مبهما من جهة الزمان فقال سبحانه:
{إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا}: والبيات مقصود به الليل؛ لأن الليل محل البيتوتة، والنهار محل الظهور. والزمن اليومي مقسوم لقسمين: ليل، ونهار.
وشاء الحق سبحانه إبهام اليوم والوقت، فإن جاء ليلا، فالإنسان في ذلك الوقت يكون غافلا نائما في الغالب، وإن جاء نهارا، فالإنسان في النهار مشغول بحركة الحياة.
والحق سبحانه يقول في موضع آخر: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون} [الأعراف 97]، ويقول سبحانه: {أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} [الأعراف 98]: ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أن العذاب يأتي في الليل وفي النهار معا؛ لأن هناك بلادا يكون الوقت فيها ليلا، وفي ذات الوقت يكون الزمن نهارا في بلاد أخرى.
وإذا جاء العذاب بغتة، وحاولوا إعلان الإيمان، فلن ينفعهم هذا الإيمان؛ لأن الحق سبحانه يقول فيمن يتخذ هذا الموقف: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس 91]: فإن جاءكم العذاب الآن لما استقلتم منه؛ لأنه لن ينفعكم إعلان الإيمان، ولن يقبل الله منكم، وبذلك يصيبكم عذاب في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب الآخرة، وهذا الاستعجال منكم للعذاب يضاعف لكم العذاب مرتين، في الدنيا، ثم العذاب الممتد في الآخرة.