قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم } قال ابن عباس : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا ، وأرادوا أن يهاجروا إلى المدينة ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، وقالوا : صبرنا على إسلامكم فلا نصبر على فراقكم ، فأطاعوهم ، وتركوا الهجرة فقال تعالى : { فاحذروهم } أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة . { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ، فإذا هاجر رأى الذين سبقوه بالهجرة قد فقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوا عن الهجرة ، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير ، فأمرهم الله عز وجل بالعفو عنهم والصفح . وقال عطاء ابن يسار : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي : كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ، وقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق لهم ويقيم ، فأنزل الله : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } بحملهم إياكم على ترك الطاعة ، فاحذروهم أن تقبلوا منهم . وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ، فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فإن الله غفور رحيم .
{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، من الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه{[1128]} والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي{[1129]} ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية ، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك ، من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل .
فمن عفا عفا الله عنه ، ومن صفح صفح الله عنه ، ومن غفر غفر الله له ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ، نال محبة الله ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
وفي النهاية يوجه الخطاب إلى المؤمنين يحذرهم فتنة الأزواج والأولاد والأموال ، ويدعوهم إلى تقوى الله ، والسمع والطاعة والإنفاق ، كما يحذرهم شح الأنفس ، ويعدهم على ذلك مضاعفة الرزق والمغفرة والفلاح . ويذكرهم في الختام بعلم الله للحاضر والغائب ، وقدرته وغلبته ، مع خبرته وحكمته :
( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم . إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، والله عنده أجر عظيم . فاتقوا الله ما استطعتم ، واسمعوا وأطيعوا ، وأنفقوا خيرا لأنفسكم ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ، ويغفر لكم ، والله شكور حليم . عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ) . .
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في الآية الأولى من هذا السياق وقد سأله عنها رجل فقال : فهؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم . فلما أتوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله هذه الآية : ( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ) . . وهكذا رواه الترمذي بإسناد آخر وقال : حسن صحيح . وهكذا قال عكرمة مولى ابن عباس .
ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي وأبعد مدى وأطول أمدا . فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كئالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معا : أنما أموالكم وأولادكم فتنة . . والتنبيه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدوا . . إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية . ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء . فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله . كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله ! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير ، وتضحية الكثير . كما يتعرض هو وأهله للعنت . وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده . فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال ! فيكونون عدوا له ، لأنهم صدوه عن الخير ، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا . كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه ، اتقاء لما يصيبهم من جرائه ، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه ، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله . . وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات . . وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن .
ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة ، التحذير من الله ، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا ، والحذر من تسلل هذه المشاعر ، وضغط هذه المؤثرات .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم . . . } إلى آخر السورة قرآن مدني ، اختلف الناس في سببه ، فقال عطاء بن أبي رباح : إنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أراد غزواً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وتشكوا إليه فراقه ، فرق ولم يغز ، ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم ، فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم ، ثم صرفه تعالى عن معاقبتهم بقوله : { وإن تعفوا وتصفحوا } وقال بعض المفسرين سبب الآية : إن قوماً آمنوا بالله وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين ، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم .
إقبال على خطاب المؤمنين بما يفيدهم كمالاً ويجنبهم ما يفتنهم .
أخرج الترمذي « عن ابن عباس أن رجلاً سأله عن هذه الآية فقال : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبَى أزواجهم وأولادُهم أن يَدعوهم ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد مدة وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة فَهَمُّوا أن يعاقبوهم على ما تسببوا لهم حتى سبقهم الناس إلى الفقه في الدين فأنزل الله هذه الآية : أي حتى قوله : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } . وهو الذي اقتصر عليه الواحدي في « أسباب النزول » ومقتضاه أن الآية مدنية » .
وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضاً أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد الغزو بَكَوا إليه ورققوه وقالوا : إلى من تَدعنا ، فيرقُّ لهم فيقعد عن الغزو . وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنهم . فهذه الآية مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ويكون موقعها هذا سبب نزولها صادف أن كان عقب ما نزل قبلها من هذه السورة .
والمناسبة بينها وبين الآية التي قبلها لأن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غَمّ من معاملة أعدائهم إياهم ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم .
وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب ، وثناء أو ملام ، أو نحو ذلك ليوفّى الطرفان حقيهما ، وكانت تنبيهاً للمسلمين لأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم ، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة كان المسلمون بمكة ممتزجين مع المشركين بوشائج النسب والصهر والولاء فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعاً للتفاوت في صلابة الدين ، وفي أواصر القرابة والصهر ، وقد يبلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامة جميع الأواصر فيصبح الأشد قرباً أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد .
فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرّهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى : { فاحذروهم } ولم يأمر بأن يضروهم ، وأعقبه بقوله : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } ، جمعاً بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم .
و { مِن } تبعيضية . وتقديم خبر { إنَّ } على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية . وقد تقدم مثله عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } في سورة [ البقرة : 8 ] .
وعَدُوّ وصف من العداوة بوزن فَعول بمعنى فاعل فلذلك لزم حالة الإفراد والتذكير إذا كان وصفاً ، وقد مضى ذلك عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوّ لكم } في سورة [ النساء : 92 ] . فأما إذا أريد منه معنى الاسمية فيطابق ما أجري عليه ، قال تعالى : { يكونوا لكم أعداء } [ الممتحنة : 2 ] .
والإِخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدوٌّ يجوز أن يحمل على الحقيقة فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس وسوء تفكير فيصير عدوًّا لمن حقه أن يكون له صديقاً ، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين ومن الانتماء إلى الأعداء .
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ ، أي كالعدوّ في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المَثَل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدوّ لعدوّه . وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
وعُطف على قوله : { فاحذروهم } جملة { وإن تعفوا وتصفحوا } إلى آخرها عَطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوباً محبوباً إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظنّ العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأبناء معاملةَ الأعداء لأجل إيجاس العداوة ، بل المقصود من التحذير التوقِّي وأخذُ الحيطة لابتداء المؤاخذة ، ولذلك قيل : « الحزم سوء الظن بالناس » ، أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى : { إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] وقال : { أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] .
والعفو : ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها . ولو مع توبيخ .
والصفح : الإِعراض عن المذنب ، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ .
والغفر : ستر الذنب وعدم إشاعته .
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث . وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم ، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإِرادة عموم الترغيب في العفو .
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقاً بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها .
وجملة { فإن الله غفور رحيم } دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم ، أي للذين يغفرون ويرحمون ، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله" إن مِنْ أزْوَاجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عَدُوّا لكُمْ "يَصدّونكم عن سبيل الله، ويثبطونكم عن طاعة الله "فاحْذَرُوهُمْ" أن تقبلوا منهم ما يأمرونكم به من ترك طاعة الله. وذُكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة، فثّبطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم...
وقوله: "وَإنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا" يقول: وإن تعفوا أيها المؤمنون عما سلف منهم من صدّهم إياكم عن الإسلام والهجرة وتصفحوا لهم عن عقوبتكم إياهم على ذلك، وتغفروا لهم غير ذلك من الذنوب "فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" لكم لمن تاب من عباده، من ذنوبكم "رحيمٌ" بكم أن يعاقبكم عليها من بعد توبتكم منها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} يحتمل أن يكون على تحقيق العداوة...
. عداوة ظاهرة، وهي عداوة الكفر والشرك؛ وذلك أنه كان في ذلك الزمان يسلم الرجل، ويبقى ولده وزوجته على الكفر، فعلمهم الله تعالى صحبة الأولاد والزوجات أنهم إذا دعوكم إلى الكفر والشرك فاحذروهم أن تطيعوهم {وإن تعفوا} عن عقوبتهم على ما دعوكم إليه {وتغفروا فإن الله غفور رحيم}. ثم ذكر الله عز وجل في صحبة الأولاد والزوجات، إذا كانوا كفارا، العفو والصفح، ولم يذكر ذلك في الوالدين المشركين، ولكنه أمره أن يصاحبهما {في الدنيا معروفا} [لقمان: 15]. فوجه ذلك عندنا، والله أعلم، أنه يجري سلطانه وغلبته وقهره على زوجته وولده. فأمره ههنا بالعفو والصفح، وأما في الوالدين فليس يجري له عليهما السلطان والقهر والغلبة، فلا معنى للأمر بالعفو عنهما، لكنه أمر أن يصاحبهما {في الدنيا معروفا} وألا يطيعهما في ما أمراه من المنكر، والله أعلم.
والثاني: يحتمل أن تكون هذه العداوة عداوة مستورة، وهي عداوة النفاق، فكأنه قال: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم} وأنتم لا تشعرون {وإن تعفوا} عن جنايتهم، ولم تؤذوهم عليها {وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} ألا ترى إلى ما حذر الله المؤمنين من أهل النفاق...
.فكذلك الأزواج والأولاد، وإن كانوا تحت قهره وغلبته، أمره بالحذر منهم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون على فعل العداوة، ليس أنهم أعداء في الحقيقة؛ وذلك أنهم في المتعارف والمعتاد يدعون الآباء إلى البخل والمنع عن الإنفاق على غيرهم، ويشتد عليهم صنع أبيهم من الإحسان والبر في حق الناس، ويكرهون ذلك، وهذا في الظاهر فعل العداوة، فيجوز أن يكون الله تعالى علم صحبة هؤلاء أن {من أزواجكم وأولادكم} من يظهر فعل العداوة {فاحذروهم} أن يمتنعوا عن وجوه الإحسان والتبرع بقولهم {وإن تعفوا} عن صنيعهم بكم {وتغفروا فإن الله غفور رحيم}.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَمُقَابِلَتَهَا الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْوِلَايَةَ هِيَ الْقُرْبُ، وَأَنَّ الْعَدَاوَةَ هِيَ الْبُعْدُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ يَكُونَانِ حَقِيقَةً بِالْمَسَافَةِ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ، وَيَكُونَانِ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هَاهُنَا بُعْدُ الْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَرِيبٌ، وَالْوَلَدَ قَرِيبٌ، بِحُكْمِ الْمُخَالَطَةِ، وَالصُّحْبَةِ، وَلَكِنَّهُمَا قَدْ يَقْرُبَانِ بِالْأُلْفَةِ الْحَسَنَةِ وَالْعِشْرَةِ الْجَمِيلَةِ، فَيَكُونَانِ وَلِيَّيْنِ، وَقَدْ يَبْعُدَانِ بِالنَّفْرَةِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، فَيَكُونَانِ عَدُوَّيْنِ، وَعَنْ هَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمِنْهُ حَذَّرَ، وَبِهِ أَنْذَرَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ من طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ من أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا من أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدْعُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَأَوْا النَّاسَ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ من أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}.
المسألة الرَّابِعَةُ: كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ وَلَدُهُ وَزَوْجُهُ عَدُوًّا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا وَلَدُهَا وَزَوْجُهَا عَدُوًّا بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ. وَعُمُومُ قَوْلِهِ: {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يُدْخِلُ فِيهِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَدُخُولِهِمَا فِي كُلِّ آيَةٍ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {فَاحْذَرُوهُمْ}؛ مَعْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَالْحَذَرُ عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْبَدَنِ، وَإِمَّا لِضَرَرٍ فِي الدِّينِ. وَضَرَرُ الْبَدَنِ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَضَرَرُ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ. فَحَذَّرَ اللَّهُ الْعَبْدَ من ذَلِكَ وَأَنْذَرَهُ بِهِ.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} ولما كان الأزواج أقرب عداوة من الأولاد قدمهن، فقال مؤكداً لمن يستبعد ذلك: {إن من أزواجكم} وإن أظهرن غاية المودة {وأولادكم} وإن أظهروا أيضاً غاية الشفقة و الحنان {عدواً لكم} أي لشغلهم لكم عن الدين أو لغير ذلك من جمع المال وتحصيل الجاه لأجلهم والتهاون بالنهي عن المنكر فإن الولد مجبنة وغير ذلك...
{فاحذروهم} أي بأن تتقوا الله في كل أمرهم فتطلبوا في السعي عليهم الكفاف من حله وتقتصروا عليه، ولا يحملنكم حبهم على غير ذلك، وليشتد حذركم منهم بالعمل بما أمر الله حتى في العدل بينهم لئلا يتمكنوا من أذاكم فيعظم بهم الخطب ويكون فاتناً لكم في الدين إما بالردة -والعياذ بالله تعالى- أو بالشغل عن الطاعة أو بالإقحام في المعصية ومخالفة السنة والجماعة...
{وإن تعفوا} أي توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك لأن من طبع على شيء لا يرجع...
{وتصفحوا} أي بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان {وتغفروا} أي بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز بعد ترك العقاب عن العتاب، فلا يكون منكم اشتغال بعداوتهم ولا ما قد يجرها عما ينفع من الطاعة...
{فإن الله} أي الجامع لصفات الكمال {غفور} أي بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثرها جزاء لكم على غفرانكم لهم وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم لهم فإنه {رحيم} يزيدكم بعد ذلك الستر الإكرام بالإنعام إن أكرمتموهم، فتخلقوا بأخلاقه سبحانه يزدكم من فضله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد يبلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامه جميع الأواصر فيصبح الأشد قرباً أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد. فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرّهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى: {فاحذروهم} ولم يأمر بأن يضروهم، وأعقبه بقوله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}، جمعاً بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم. و {مِن} تبعيضية. وتقديم خبر {إنَّ} على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية...
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها. ولو مع توبيخ. والصفح: الإِعراض عن المذنب، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ. والغفر: ستر الذنب وعدم إشاعته. والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث. وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإِرادة عموم الترغيب في العفو. وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقاً بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وواضح من الشرح والمناسبات المروية أن جملة (عدوا لكم} قد جاءت للتشبيه وتشديد التحذير من التأثر وشدة الشغف بالأزواج والأولاد إلى المدى الذي يشغل المسلم عن واجبه نحو الله ودينه وخلقه أو يجعله يرتكب إثما ومعصية، فلا يصح أخذها على غير هذا المدى...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تكاليف الزوجات والأولاد، ورغباتهم وشهواتهم، قد تعرض الزوج والوالد إلى التفريط في حقوق الله، أو تدفعه إلى الاعتداء على حقوق الناس، وذلك حرصا منه على تلبية رغبات عائلته وخدمة مصالحها، وبذلك تنقلب الزوجة "عدوا " لزوجها، وينقلب الأولاد " أعداء " لوالدهم، إذ يورطونه فيما لا تحمد عقباه، مع الناس ومع الله، ويوقعونه في مآزق لا مخرج له منها إن لم يصحبه لطف الله... وهذا تنبيه من الله للزوجات والأولاد، حتى لا يكثروا من الضغط على الأزواج والوالدين، إذ ربما دفعهم ذلك الضغط إلى ارتكاب ما لا يرضى عنه الخلق والدين...